أربعون 5 حزيران!

هل تنجح المحاولة للتحرّر ـ ولوقت قصير ـ من اليوميات المنهكة بالخيبات السياسية وأثقالها الدموية، في لبنان، للالتفات بنظرة أوسع إلى أحوال منطقتنا، في هذه اللحظة بالذات، أي مع الذكرى الأربعين لانكسار الإرادة العربية في مواجهة العدو الإسرائيلي، في مثل هذا اليوم من العام 1967: الخامس من حزيران.

لقد تحولت تلك الذكرى من مندبة إلى محاكمة متأخرة، بأحكام جاهزة، تتجاوز أشخاص «المسؤولين المباشرين» عنها، وبالتحديد جمال عبد الناصر ونظامه، إلى مرحلة كاملة من التاريخ العربي الحديث، لتدينها جميعاً، ولا سيما رموزها المضيئة وإنجازاتها التي بدّلت جذرياً في حياة هذه الأمة، فأعطتها ما يؤكد لها هويتها وجدارتها ـ فضلاً عن حقها ـ في أن تسعى لأن تكون سيدة قرارها في شؤون حياتها.

صارت الذكرى مناسبة لتبرير الخروج من العروبة وعليها، في حين أن إيمان مصر ـ قيادة وشعباً ـ بعروبتها وبانتمائها إلى أمتها العربية، هو الذي أعادها إلى «الجبهة» في اليوم التالي إلى ميدان المواجهة مع العدو الإسرائيلي، ثم تعزز إيمانها بقدوم «أهلها العرب» إليها ليكونوا معها في المعركة التالية التي لن تتأخر طويلاً، والتي ستكون مؤهلة لتحقيق النصر الذي ارتسمت معالمه على الأرض، سواء عبر عبور أبطال الجيش المصري قناة السويس، أو عبر الجبهة المفتوحة التي اندفع إليها الجيش السوري ببسالة، أو عبر تسابق سائر العرب إلى المساهمة كل بما يملك من قدرات وخبرات وثقة بالنفس واطمئنان إلى الأهلية والجدارة بتحقيق النصر المبين ومحو الصفحة السوداء ليوم الخامس من حزيران .1967

يقول محمد حسنين هيكل بصيغة قاطعة: الغدر بالنصر الذي كان في مدى اليد في «حرب العبور» هو الذي اصطنع الهزيمة. لقد أريقت دماء المقاتلين الأبطال، من مصريين وسوريين وليبيين وجزائريين ومغاربة وعراقيين وسعوديين وكويتيين وفلسطينيين، وقد بذلوها رخيصة من أجل توكيد تحرّر الإرادة التي تحرّر الأرض.

لا يحب هيكل الإفاضة في الحديث الذي يحرّك المواجع، يكتفي بأن يقول:

ـ ذلك كله بات شيئاً من تاريخنا. لكن المقارنة المتعجلة بين العودة الفورية إلى الميدان، بعد 5 حزيران ,1967 والخروج الذي أريد له أن يكون نهائياً من «الحرب» بعد حرب العبور ,1973 يوضح كل شيء. لقد انتهت مصر بعد تلك الحرب المجيدة أسيرة محاصرة، معزولة عن محيطها العربي، ممنوعة من تأمين أمنها القومي، وممنوعة من ممارسة إرادتها حتى داخل «دولتها».

[ [ [

من «فك الاشتباك» عسكرياً إلى «فك الارتباط» سياسياً بالهوية الوطنية والدور القومي، وبفلسطين وخلفها المشرق العربي، توالى الخروج إلى... العراء المطلق!

ما زالت الدول العربية عديدة، ,22 وربما أكثر... لكننا الآن نكاد نفتقد فيها «الدول» و«الهوية»: إنها مجرّد كمّ. فهي في الداخل خربة، مهددة شعوبها بالفتن والحروب الأهلية، مفككة التكوين وهي في طريق العودة إلى مكوناتها الأولية. في مصر مشروع فتنة يطل برأسه بين الحين والآخر بين مسلميها وأقباطها، ومحاولات لفصل «النوبيين» عن سائر المصريين، والقطيعة حلت، أو تكاد بينها وبين السودان، وقد كان بينهما مشروع وحدة. وفي العراق لا عراق، بل مشروع حرب أهلية مفتوحة يُراد منها تدمير كيانه السياسي وتفتيته إلى عناصره الأولى. سوريا محاصرة وتكاد تكون معزولة ومهددة بالاحتلال الأميركي للعراق وبالطموح الإسرائيلي إلى الهيمنة على كامل المشرق العربي. «الخليج» تحوّل من توصيف جغرافي إلى «هوية سياسية» تعزل أهل الجزيرة عن أهل المشرق. الدول التي ادعى قادتها أنهم وجدوا خلاصهم في «المغاربية» تعيش جواً شبه حربي في ما بينها من جهة، وفي داخل كل منها، من جهة أخرى.

كأنما لم يكن ثمة «عرب» في أي يوم. وكأنما العروبة عار وعلامة تخلف، بينما الكل محاصَر بين الهجانة اللاغية للذات وبين الأصوليات اللاغية للمستقبل.. بل للحياة!

أما لبنان الذي لا حياة له خارج عروبة تضمن له سلامه الداخلي وتؤكّد وحدته الداخلية بالالتزام العربي، فهو مهدد بأن يخسر ـ بعد ميزاته الاستثنائية ـ عوامل استقراره فضلاً عن فرصة ازدهاره، ليقدم نموذجاً فذاً للقدرة على الإنجاز، برعاية أمته، بديلاً من «الأجنبي» الذي لا يطلب إلا «الهيمنة» وبين شروطها البديهية إظهار نفسه وكأنه «الضامن» و«الراعي» و«رسول التحضّر بالديموقراطية»، بينما تجارب التاريخ جميعاً تشهد بعكس ذلك تماماً.

وبرغم التهشيم (بل التحقير) الذي وجّه من الخارج ومن الداخل لمكوّنات الهوية والدور، فلا حياة لهذه الأمة ـ وأولها لبنان ـ لا في الحاضر ولا في المستقبل إلا بعروبتها التي توجّه إليها كل الحراب (بل صواريخ الطائرات ومدافع البوارج)، والتي يحاول «الأجنبي» أن يثير فيها من الفتن ما يعمي بصرها وبصيرتها عن طريقها إلى غدها.

إن لبنان في محنة متعددة الوجوه. لكن أخطرها إطلاقاً أن يتنكّر لهويته، بالنكاية أو بافتراض أن تلك أقصر طريق إلى النجاة ومن ثم إلى المستقبل الأفضل.

ولقد يبدو هذا الكلام وكأنه أقرب إلى الشعر، أو إلى أحلام اليقظة، لكن وقائع الحياة، بالتاريخ والجغرافيا والثقافة والدين وأسباب المعاش، هي الثوابت.

والسبب الأول في محنة لبنان هو الغياب المفجع «للعرب» الذين إذا اجتمعوا انتصروا وإذا تفرقوا تقزمت دولهم وضعفت ولو كانت كبيرة، فعز عليها أن تمارس دورها الطبيعي بحماية نفسها بأهلها، وعندها تنفتح أمامها أبواب جهنم، كما نشهد حالياً على امتداد الأرض العربية.

تعليقات: