القاضي رالف رياشي يستقيل احتجاجاً على التأخير بالتشكيلات

القاضي رالف رياشي
القاضي رالف رياشي


أزمة مؤسساتية بعد استفحال التدخلات تمهّد لفرط عقد مجلس القضاء الأعلى..

أطلق القاضي رالف رياشي صرخة احتجاج مدوّية في هيكل القضاء بتقديمه استقالته من عضوية مجلس القضاء الأعلى بعد مرور ٨٧٠ يوماً على قيام قضاة محاكم التمييز بانتخابه عن اقتناع ودراية، وبعدما خبروا دوره الفاعل وكفاءته القانونية والعلمية التي أدّت إلى تعيينه في السابق عضواً احتياطياً في المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة.

وعلّل رياشي أسباب استقالته المفاجئة والتي تركت أصداء مختلفة في قصور العدل، بالتأخير الحاصل في إنجاز التشكيلات القضائية ممّا يلحق أذى معنوياً بهيبة القضاء ينعكس سلباً على دوره ومكانته في المجتمع ولدى الرأي العام الذي يتحمّل عناء الانتظار شهوراً وسنوات لتحصيل حقوقه عبر القانون ولا يلجأ إلى استخدام طرائق بديلة ترذلها وتنبذها المجتمعات الحضارية.

وتردّد في أروقة العدلية أنّ هناك سبباً آخر لهذه الاستقالة لم يكشف رياشي عنه في الكتاب الذي رفعه لرئيس مجلس القضاء الأعلى الدكتور أنطوان خير، وهو أنّه مضطرّ في نهاية المطاف إلى تقديم هذه الاستقالة للانضمام إلى هيئة المحكمة الدولية الخاصة بلبنان والمولجة بالنظر في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري.

وتتخطّى هذه الاستقالة بمدلولاتها الخطرة مسألة استقالة قاض لتضيء جوانب مخفيّة من أزمة مؤسّساتية يعاني منها الجسم القضائي برّمته بحسب ما أجمع عليه غير قاض وقانوني اتصلت بهم »السفير« للوقوف على قراءاتهم المتنوّعة لهذه الاستقالة.

وتزيد هذه الاستقالة مجلس القضاء حرجاً، وتطرح علامات استفهام كثيرة على مصيره وقدرته على البقاء في ظلّ تقاعد رئيس هيئة التفتيش القضائي محمّد علي عويضة في الأوّل من شهر آب ،٢٠٠٨ وعدم تعيين مجلس الوزراء بديلاً عنه، وتقاعد القاضي أمين بو نصار يوم غد السبت، واستقالة القاضي سعد جبور لتثبيته في منصب الرئيس الأوّل لمحاكم الاستئناف في جبل لبنان، وتوجّه رئيس المجلس الدكتور أنطوان خير للاستقالة والانتقال إلى رئاسة المجلس الدستوري، ليبقى خمسة قضاة من الصعب عليهم الاستمرار وبالتالي العمل على إصدار التشكيلات القضائية التي انتظرها القضاة الكبار والشباب كثيراً، ولكن من دون جدوى إذ صار مستحيلاً صدورها لأنها وبكلّ بساطة، تحتاج إلى توافر نصاب عادي مؤلّف من ستّة قضاة.

وإذا ما »استبعدنا« استقالة خير المرجأة ولكنّها حتمية في نهاية المطاف، فإنّ المجلس يستطيع السير بالتشكيلات في حال رفع العقبات من طريقها، ولكن إذا ما ردّها وزير العدل إبراهيم نجّار وهذا وارد وبقوّة، فإنّها تصبح بحاجة ماسة إلى توقيع سبعة أعضاء، وهذا غير متوافر على الإطلاق مّا يعني أنّ التشكيلات مستبعدة ومُرَحَّلة إلى الصيف المقبل.

وما يزيد من صحّة هذه التوقّعات أنّه من غير المستحبّ أن تصدر التشكيلات بغياب رئيس هيئة التفتيش القضائي، وقرب انتهاء مهام رئيس المجلس، والأفضل أن تترك للخلف.

وكان واضحاً في أروقة العدلية ومنذ الصباح الباكر امس، ضآلة حظوظ مجلس القضاء في اكتمال حضور أعضائه للبحث في التشكيلات وتوقيعها، خصوصاً وأنّ الخلافات المستشرية كبيرة ولا تحلّ بجلسة واحدة، ولذلك فإنّ الجلسة طارت قبل أن تعقد.

نجّار

وتابع وزير العدل نجّار الموجود في العاصمة الفرنسية باريس موضوع استقالة رياشي التي وضعت المجلس بحكم المستقيل، ورفض التعليق عليها بداعي أنّه لا يريد التدخّل في عمل القضاء ولكنّه سيعمل فور عودته إلى بيروت في الأسبوع المقبل على عقد اجتماعات متتالية مع رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان ورئيس الحكومة فؤاد السنيورة لأنّ هذا الموضوع بحاجة إلى مجلس الوزراء مجتمعاً، خصوصاً وأنّ القضاء كان يعاني مشكلة تشكيلات فأصبح اليوم، يواجه مشكلة تعيينات في المجلس الأعلى بعدما صار من الواجب تعيين بدلاء للمستقيلين والمتقاعدين.

وحصلت اتصالات عديدة ليل أمس، لثني رياشي عن الاستمرار باستقالته والعودة عنها ولكنّها لم تثمر عن نتيجة إيجابية.

ولادة متعثّرة

لقد شقّ مجلس القضاء الأعلى طريقه إلى الحياة بصعوبة شديدة جعلت القضاة ينتظرون أكثر من سبعة أشهر لكي يتوافق السياسيون بمختلف مناصبهم وتوجّهاتهم، على تعييناته، على الرغم من تحرّكهم بعقد جمعية عمومية حاشدة في الطبقة الرابعة من قصر عدل بيروت، احتجاجاً على هذه التدخّلات التي ظلّت قائمة وبقوّة وأنتجت مجلساً غير متضامن بما يكفل له التصدّي لأيّ تدخّلات مستقبلية.

وجاء التحدّي الأوّل بإعداد مرسوم التشكيلات القضائية في العام ٢٠٠٦ والذي رأى فيه رئيس الجمهورية العماد إميل لحود غبناً بحقّ بعض القضاة ومن مختلف الطوائف فجمّده، وزاد من تعقيدات الأمر تسريب وزير العدل السابق شارل رزق مضمون هذه التشكيلات إلى وسائل الإعلام ليقفل الطريق على إمكان إيجاد حلّ لها فعلّقت.

وقد جهد المجلس لإنجاز مرسوم جديد للتشكيلات بعدما طرأت على الأوّل المجمّد، جملة تغيرات أفضت إلى ضرورة تعديله، ومنها تقاعد قضاة وتخرّج آخرين من معهد الدروس القضائية، وقيل إنّه جرى اعتماد نحو ستين بالمائة من المرسوم المجمّد في التشكيلات المنتظرة والتي اصطدمت بعقبات متعدّدة لم يتمكّن المعنيون من تذليلها وتفتيتها ليسجّل هذا المجلس سابقة من نوعها بعدم قدرته على إصدار مرسوم تشكيلات تعيد الحيوية والحياة إلى قصور العدل والمحاكم المنتشرة على كلّ الأراضي اللبنانية.

وهذا ما ألحق الضرر أوّلاً، بالقضاة المنقولين والذين وعدوا بمراكز لم يتولّوها، وثانياً بالمواطنين الذين يقفون حيارى إزاء تأجيل قضاياهم وملفّاتهم شهوراً مديدة على الرغم من أنّ هناك قضاة يبذلون قصارى جهدهم لتقريب مواعيد هذه الملفّات قدر الإمكان، ولكنّهم لا يستطيعون الفصل فيها بسرعة قصوى بسبب تراكم الملفات وكثرة تدفقها على محاكمهم ودوائرهم.كما أنّ الضرر يلحق بالمحامين الذين يشكون من تأخر الدعاوى وبالتالي تقاضي أتعابهم وجمود دورتهم الاقتصادية.

ويسجّل متابعون عتبهم على مجلس القضاء لعدم استفادته من سلاح الانتدابات المؤقّتة بالشكل اللازم لسدّ الفراغات الناشئة في غير محكمة ومكان، حيث كان بإمكانه توسيع مروحة هذه الانتدابات لتشمل أكبر قدر ممكن من الفراغات الناتجة من التقاعد والوفاة.

كما أنّ مجلس القضاء الأعلى لم يستفد من وجود ٢٨ قاضياً تخرّجوا من معهد الدروس القضائية قبل ثلاث سنوات وحصلوا على درجة ترقية وهم موجودون في وزارة العدل، وكان يمكن توزيعهم على المحاكم للتعجيل بدعاوى الناس ولكنه لم يفعل إلاّ متأخراً وبعدما لحقت بها دفعتان تضمانّ ٦٩ قاضياً، ودفعة رابعة صغيرة العدد، ليصبح المجموع ١٠٦ قضاة، وهو عدد لا يستهان به وقادر على إجراء نهضة معنوية في القضاء.

ويرى المتابعون أنّ القرارات الوحيدة التي نجح مجلس القضاء في إرسائها هي تلك المتعلقة بتعيين محقّقين عدليين في الجرائم الكثيرة التي انهالت على الوطن، وصدر قراران اتهاميان باثنتين منها فقط يرتبط الأوّل بجريمة عين علق والثاني بجريمة قتل الزيادين.

كتاب الاستقالة

وعزا القاضي رياشي أسباب استقالته الاحتجاجية إلى »التأخير في إنجاز التشكيلات القضائية لأكثر من سبب، ولوجود ما يقارب مائة قاض متخرّج من معهد الدروس القضائية لم يمارسوا مهامهم ولم يتمّ إلحاقهم بالمحاكم منذ تخرّجهم على الرغم من تراكم الدعاوى والنقص في عدد القضاة والمساس بمصالح المواطنين والمحامين«.

وأضاف رياشي: »لمّا كنت انتخبت من قبل زملائي في محكمة التمييز وأقسمت اليمين القانونية التي تحتم علي بأن أتوخى في جميع أعمالي حسن سير القضاء وكرامته واستقلاله، وبالتالي، حرصاً على ما تقدّم، وللأسباب المذكورة، أتقدّم باستقالتي من مجلس القضاء الأعلى«.

وسجّلت هذه الاستقالة في قلم مجلس القضاء.

وهذه هي المرّة الثانية التي يستقيل فيها القاضي رياشي من مجلس القضاء الأعلى بعدما سبق أن فعل الأمر نفسه في عهد القاضي نصري لحود قبل أن يتراجع عنها بداعي زوال أسبابها!.

صعوبات

وثمّة سؤالان لا بدّ منهما: هل يستطيع مجلس القضاء الأعلى أن يستمرّ بعد هذه الاستقالة؟ وهل يمكن لقضاة محاكم التمييز، رؤساء ومستشارين، انتخاب قاض مكان رياشي، كونه منتخباً منهم ولم تعيّنه حكومة الرئيس فؤاد السنيورة الأولى بناء على اقتراح وزير العدل السابق شارل رزق ضمن »حصّتها« الواردة في المادة الثانية من قانون القضاء العدلي الصادر بموجب المرسوم الاشتراعي الرقم ١٥٠ تاريخ ١٦ أيلول ١٩٨٣ وتعديلاته، وذلك في مرسوم تعيين خمسة قضاة من مجلس القضاء ورقمه ١٧١٤٢ بتاريخ ١٢ حزيران من العام ٢٠٠٦؟.

ويتمثّل الجواب من خلال دراسة الخريطة التالية:

يوجد حالياً، تسع غرف لمحاكم التمييز بشقّيها الجزائي والمدني يحقّ لرؤسائها فقط الترشّح لانتخاب اثنين من بينهم لعضوية مجلس القضاء بحكم ما تنصّ عليه المادة الثانية من قانون القضاء العدلي الصادر بموجب المرسوم الاشتراعي الرقم ١٥٠ تاريخ ١٦ أيلول ١٩٨٣ وتعديلاته.

وبما أنّ العرف الطائفي المعمول به في لبنان هو المتبع، فإنّه لا يسمح للقاضيين السنيين اللذين يرأسان الغرفتين الثانية والسابعة من محكمة التمييز، وهما القاضيان راشد طقوش وسمير عاليه، الترشّح بسبب وجود قاضيين من هذه الطائفة داخل المجلس هما العضوان الحكميان، النائب العام التمييزي القاضي سعيد ميرزا، ورئيس التفتيش القضائي.

كما أنّ هناك قاضياً آخر منتخباً بالتزكية هو القاضي أمين بو نصّار ممثّلاً طائفة الموحّدين الدروز، علماً أنّه يحال غداً السبت على التقاعد لبلوغه سنّ الثامنة والستين، وثمّة إجراءات قانونية محدّدة لتعيين قاض بديل من طائفته مكانه في رئاسة الغرفة الرابعة لمحكمة التمييز، ثمّ انتخابه عضواً تماماً كما حصل مع بو نصّار نفسه عند حلوله مكان القاضي المتقاعد سهيل عبد الصمد.

كما أنّ هناك قاضياً آخر عيّنته الحكومة مع أربعة من زملائه في العضوية، هو القاضي نعمة لحود الذي يرأس الغرفة التاسعة لمحكمة التمييز، ولا يزال مستمرّاً في تأدية مهامه لأنّ ولاية هذا المجلس لم تنته، وهي تنتهي في شهر حزيران من العام .٢٠٠٩

ولا يسمح القانون لرئيس الغرفة الخامسة القاضي مهيب معماري بالترشّح لأنّه كان من عداد المجلس السابق، ولم تمض مدّة السنوات الثلاث التي هي عمر المجلس، لكي يحقّ له الترشّح من جديد.

فضلاً عن أنّ العرف الطائفي يحول دون ترشّح رئيس الغرفة الأولى القاضي إلياس بو ناصيف، ورئيس الغرفة الثامنة القاضي سامي منصور، لأنّ هناك قضاة من طائفتيهما المارونية والشيعية داخل مجلس القضاء، وتبقى رئاسة الغرفة الثالثة شاغرة بعد تقاعد رئيسها القاضي عفيف شمس الدين في الأوّل من شهر تموز ،٢٠٠٨ وعدم حلول أحد مكانه، حيث كان ينتظر أن يملأ المركز بالتشكيلات المنتظرة، وهي من حصّة الطائفة الشيعية الممثّلة أساساً داخل المجلس وعلى خير ما يرام.

وتكون الخلاصة أنّه لا يوجد قاض كاثوليكي في رئاسة إحدى غرف التمييز لكي ينتخب مكان رياشي، وإذا تمتّ الموافقة على استقالته مع استقالة القاضي سعد جبور، فإنّ هناك عقبة أخرى لا يمكن تخطّيها بسهولة، وهي صعوبة انتخاب قاض أرثوذكسي من بين رؤساء محاكم التمييز، لأنّه لا يوجد إلاّ القاضي معماري الذي لا يحقّ له العودة إلى عضوية المجلس قبل مرور ثلاث سنوات على انتهاء ولايته كما ورد آنفاً، هذا إذا ما جرى التبادل بين الكاثوليك والأرثوذكس في محاكم التمييز والاستئناف، وبالتالي نشوء خلل طائفي لا يمكن القفز فوقه في بلد مبني على الطائفية وحصصها.

والحلّ يكمن بتضحية أعضاء مجلس القضاء الأعلى الآخرين وهم: القضاة عبد اللطيف الحسيني ونعمة لحود وشكري صادر وفريال دلول، باستثناء النائب العام التمييزي سعيد ميرزا، بما تبقّى لهم من ولايتهم، وتقديم استقالة جماعية تمهيداً لتركيب مجلس جديد واختيار بديل عنهم وبأسرع وقت ممكن، وذلك تفادياً للفراغ القاتل الذي يخلّفه انطفاء مجلس القضاء، وتحضيراً لانطلاقة نوعية تعيد الثقة بالقضاء وترجع هذه السلطة الثالثة إلى مكانتها المعهودة في بناء دولة القانون.

يبقى القول أخيراً أنّ الحسنة الوحيدة التي زيّنت ولادة هذا المجلس، هي ضمّه وللمرّة الأولى في تاريخ القضاء، أوّل امرأة، عضواً فيه، هي القاضية فريال دلول جمعة ابنة بلدة علي النهري البقاعية.

جريج

ورأى نقيب المحامين في بيروت رمزي جريج أنّ »استقالة القاضي رالف رياشي موقف اعتراضي يتخذه احتجاجاً على التدخلات السياسية وعلى قبول بعض القضاة بهذه التدخلات، وهي التي تحول دون إجراء التشكيلات القضائية وتؤدي بالنتيجة إلى شلل القضاء وتفاقم عدم ثقة المجتمع بأدائه«.

وقال جريج في بيان أصدره أمس، »إنّ الرئيس رياشي قاض ممتاز نعول عليه وعلى أمثاله من القضاة من اجل إنقاذ القضاء في لبنان مما هو واقع فيه«.وأضاف »أنّ نقابة المحامين معنية مباشرة بسير العدالة في لبنان، ولقد سبق لها ونبهت مراراً وتكراراً المسؤولين، وفي طليعتهم مجلس القضاء الأعلى، إلى الأزمة الكبيرة التي يعاني منها القضاء، مطالبة بإزالة الشوائب حيث وجدت وبتفعيل أجهزة الرقابة وبإصلاح جذري تكون بدايته إجراء تشكيلات تأخذ بعين الاعتبار فقط الكفاءة وليس أي معيار آخر، وتؤول إلى تعيين القاضي المناسب في المكان المناسب، غير أنّ صوت النقابة لم يلق الصدى المطلوب. واليوم ينبري احد القضاة المشهود له بالنزاهة والجرأة والاستقلال ليعبر فرديا باستقالته عن عدم استسلامه للأمر الواقع وعن تحسسه بمعاناة الكثير من القضاة ومجمل المواطنين«.

وأكد جريج »أن نقابة المحامين ستكون في طليعة العاملين في سبيل إصلاح القضاء إصلاحاً جذريا، بحيث يستعيد كامل ثقة المواطنين به. وسأدعو مجلس النقابة إلى اجتماع استثنائي فور عودتي من المؤتمر، لنتخذ بالاتفاق مع نقابة المحامين في طرابلس الموقف الشجاع الذي يمليه علينا واجبنا الوطني، انطلاقا من دور نقابتي المحامين الرائد في دعم استقلال القضاء وحسن أدائه لرسالته«.

تعليقات: