سيرة كوفية

(حسن بحسون)
(حسن بحسون)


إنطلاقاً نحو فلسطين

البهجة كانت عارمة في صور. جاء فلسطينيو المخيمات ليتسابقوا في ماراتون نظمته المنظمة الفلسطينية لحق العودة «ثابت»، بعنوان «لنركض معاً نحو فلسطين»، في الذكرى الـ 91 لوعد بلفور. انطلق المتسابقون بعزمِ مَن سيصل إلى القدس، وقد كتب كل متسابق اسم بلدة فلسطينية على قميصه. لكنهم أُجبروا على التوقف بعد 22 كلم في الناقورة. ربما كان هذا السباق هو الوحيد الذي

وزعت جوائزه قبل الوصول إلى خط النهاية.

لا تريد تغيير لونها

رغم تلوينها، وما قد يمثّله ذلك من «خطر» استهلاكي على الكوفية الأصلية، إلا أن تاريخ الكوفية، يدعو إلى الاطمئنان لا إلى القلق. وللمراهقين الذين يلبسونها اليوم ملونة، ربما وجب الشرح أنها لم تكن في الأصل على هذه الشاكلة. فمنذ خبّأ الثوار الفلسطينيون وجوههم خلفها ذات يوم من عام 1936 في فلسطين المحتلة خلال ثورة عبد القادر الحسيني، ارتبطت الكوفية بالثورة وما زالت إلى يومنا هذا. لا بل إنها انتقلت من رمز للنضال الفلسطيني لتصبح رمزاً للنضال العالمي: ضد الإمبريالية، العولمة، وفي المسيرات المطلبية في العالم. فما سر تحول قطعة قماش إلى رمز نضالي؟

في البدء، لم تكن الكوفية بالنسبة إلى الفلسطيني أكثر من قطعة قماش يضعها على رأسه فتقيه حرّ الشمس، وقد يمسح بها عرقه. كانت هذه القطعة بيضاء، بالأصل، ولم تكن مطرزة بالشكل المنتشر اليوم. أضيفت الدرزة السوداء إليها، على شكل أسلاك شائكة، وتطور معها نوع القماش، فأصبح أكثر سماكة لزيادة قدرتها على امتصاص العرق. مع وصول الاحتلال البريطاني إلى فلسطين، تحرك الشعب هناك، وبدأت عملياته ضد المحتل. أجبر الثوار الفلسطينيون في عام 1936 الرجال المقاتلين على وضع الكوفية بقصد التمويه مخافةً من «الدواسيس» (الجواسيس)، فكانوا يلثِّمون وجوههم بالكوفية، فلا يظهر غير أعينهم. أجبرت عمليات الثوار البريطانيين على إصدار قرار يقضي بحبس جميع من يرتدي «الكفّية» (كما تلفظ بالعامية) من الثوار. لكن محاولاتهم باءت بالفشل، وخصوصاً أن مطاردة الكوفية أدّت تقريباً إلى القبض على... ضيع بأكملها.

أخرج الفلسطينييون من أرضهم في عام 1948، ومع انتقالهم إلى الخارج، بدأ العمل الفدائي يتبلور، ومعه استعيدت الكوفية رمزاً للكفاح المسلح. ومع أن العديد من القادة الفلسطينيين ارتدوها، من عبد القادر الحسيني، إلى أبو جهاد، إلى ياسر عرفات، إلا أن الأخير كان أكثر من أعطاها زخماً ورمزية. فمع اعتبار البعض طريقة اعتماره للكوفية غريبة، إلا أن اختياره لذلك الأسلوب كان ذات مغزى حسب ما قال في إحدى مقابلاته. فقد شرح لمستجوبه أنه يلويها على جبهته بطريقة تأخذ فيها شكل خريطة فلسطين، كما يظهر الشكل نفسه على ظهره.

مع الانتفاضة الثانية، عادت الكوفية لتظهر مجدداً. لثّم المناضلون وجوههم بها، فعاد للكوفية عزّها. لكن الخلافات الفلسطينية التي شقّت الصفوف، انتقلت إلى الرمز الأقوى، فأصبح لكل فصيل كوفيّته، شكلاً ولوناً ومضموناً! وإن كانت «حطة أبو عمار» هي الأكثر رواجاً، فإن كوفية اليساريين والقوميين هي تلك التي تكثر فيها النقاط السوداء، أما الحمراء فاشتهر بها أبناء الجبهة الشعبية. واليوم، انتشرت في العالم كوفيات ملونة يثير ارتداؤها في المخيمات سخرية بعض فلسطينيين، فيذهب بعضهم للقول إن الكوفية الأصلية قد تحتاج إلى انتفاضة ثالثة لإنقاذها من «عمى الألوان» الإيديولوجي ليعود لها لونها الطبيعي.

بالابيض والأسود

«عندما تغيب الألوان، ولا يبقى إلا الأبيض والأسود، تكفيني كوفيتي لأقاوم »، شعار حمله موقع «بدّنا وطن» و«منتدى الشباب الفلسطيني» رفضاً لتحويل الكوفية إلى «موضة مهترئة». هكذا انطلقت الحملة الفلسطينية على الإنترنت لوقف ما وصفته بالتشويه التجاري للكوفية الفلسطينية. فبدأت تحركات نظّمها الموقع في 21 من الجاري، بدعوة كل الفلسطينيين لارتداء الكوفية بألوانها الأصلية «لنعلم القاصي والداني أننا شباب واع لحاضره وماضيه ونرفض المساس بكوفيتنا». وتزامناً مع الحملة بدأ منتدى الشباب الفلسطيني، بفتح مواضيع نقاش بين أعضائه عن سبل مكافحة «حملة تشويه الكوفية». كما كتب أحدهم أغنية للكوفية يردّدها الفلسطينيون، وطلب من الأعضاء إنشادها تأكيداً على هوية الكوفية. ومنها «علّي الكوفية علّي/ ولولح فيها/ وغني عتابا وميجانا/ وسامر فيها/ هز الكتف بحنية/ جفرا عتابا ودحية/ وخلي البارود يهلل ويحليها». كما استعاد المنتدى تاريخ الكوفية وصور الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات «رمز المقاومة»، وركّز على المعنى الذي أعطاه عرفات للكوفية التي تحوّلت معه «إلى أساس للنضال وللمقاومة».

الكوفية في الأشرفية: موضة محايدة سياسياً

لم يقل أحد في فيلم «لعبة الجواسيس» إن الأحداث تدور في بيروت. لكن، كان ممكناً للمتابع أن يفهم أن العاصمة اللبنانية هي وجهة عناصر «الأف بي آي» المكلفين اغتيال إحدى الشخصيات. فصوّّر الرئيس السابق أمين الجميّل تملأ الجدران، وثمة كنيسة في البعيد، تشير إلى أن المنطقة هي «بيروت الشرقية» آنذاك. المفارقة أن مسلّحي تلك المنطقة اليمينيين كانوا يرتدون كوفيات فلسطينية: ثمة التباس!

أحمد محسن

يسهل للمتجّول في شوارع بيروت وضواحيها الجنوبية والشمالية، ملاحظة العدد الكبير من الكوفيّات الفلسطينية «الملّونة» الملتفة، بما شاء للناظر من ألوان، حتى «الفوسفوري» منها، حول رقاب الشباب. لكن هذه الكوفية الملونة، لم تمر بسلام. هكذا، لم يتوانَ عدد كبير من اللبنانيين والعرب عن إطلاق بعض المواقف والحملات الرافضة لتحوّل الكوفية الفلسطينية من رمز ثوري إلى موضة. معظم هذه الحملات اقتصر على شبكة الإنترنت و«الفايس بوك» تحديداً، لكن التجاوب معها كان محدوداً. فالكوفية التقليدية نفسها باتت قاب قوسين أو أدنى من التحّول إلى «كادجيت» يعتمده «اليساريون اللبنانيون في المرحلة الأولى التي تواكب انضمامهم إلى اليسار»، كما يقول مازن شحرور أحد مناصري الحزب الشيوعي اللبناني.

وفي تعريف الموضة وفقاً لقاموس «ويبستر»، يبرز عنصر أساسي مفتقد في معنى انتشار الكوفية في منطقة مثل... الأشرفية كما هو حاصل اليوم. فحسب القاموس «الموضة هي قبول أشخاص شيئاً في وقت معين من أجل إحداث تأثير». هذا العنصر يختفي في حال الكوفية الملونة في الأشرفية. فتاريخياً، أهالي عين الرمانة والأشرفية خصوصاً، في صراع قديم مع الوجود الفلسطيني في لبنان من أساسه، ما يعني رفضهم لهذه الظاهرة في المبدأ، لما تمثّله من رمز ثبتته في أذهانهم صورة المقاتل الفلسطيني طوال حقبة الحرب الأهلية وما قبل. إلا أن مبيعات الكوفية الملوّنة «هنا في الشرقية» تثبت عكس ذلك، كما تبين من الحديث إلى مارون بشارة الذي يملك كشكاً صغيراً لبيع الملابس في فرن الشبّاك. «يشتريها المسيحيون المتعصّبون»، يقول مارون في رغبة منه لزيادة دهشتنا «ما أنا بعرفهم»، مضيفاً أنهم هم أنفسهم يشترون طاقيات «صليب القوات المشطوب».

يرفض آخرون اعتبار ارتداء الكوفية في الأشرفية ظاهرة من أساسه. فبرأيهم الأشخاص الذين يرتدون هذه الكوفية هم مجرد مراهقين، يبحثون عن أزياء جديدة.

مارسيل صقر، وهي إحدى هؤلاء، تؤكد أنها من الداعمين للقضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني، رغم ما تصفه بـ«الصورة النمطية» المعاكسة، المترسخة في ذاكرة اللبنانيين عن سكان المناطق «التي للعونيين والقوات» نفوذ فيها. وترى مارسيل أن دعم قضية الفلسطينيين لا تكون بارتداء الكوفية، الحقيقية منها أو المزيّفة.

وتروي قصة طريفة، حيث أوقفها عجوز في منطقة دير الأحمر البقاعية كان يبيع، خلال إحدى الرحلات، كوفيات ملوّنة. وقد كان الرجل مستميتاً للبيع لدرجة أنه راح يصرخ محاولاً إقناعهم بأن الكوفية الملوّنة لبنانية تماماً، ما دفع أحد أصدقائها لشراء واحدة، و«الرفاق» بالمقابل لمطالبته بخلعها «لأنك تشبه الفلسطينيين وأنت ترتديها».

جوانا نصر، الطالبة العشرينية في كلية الفنون الجميلة ـــ الفرع الثاني، لا تعير الأمر أي أهمية. تبدأ من حيث انتهى صديق مارسيل، فتجيب «إيه وإن كنت أشبه الفلسطينيين؟ شو يعني ؟». تعلن جوانا أنها مرتاحة لأن الكوفية البنفسجية تلائم ثيابها. كما أنها جيدة على أبواب الشتاء ومتوافرة بكل الألوان والزركشات. والكوفية هنا تصلح لأن تصنف في خانة الموضة بالفعل. تبدو جوانا مفعمة بالحيوية، توضب «كوفّيتها» وتردها إلى الخلف بين الحين والآخر، لكنها تقرّ «لا أعرف شيئاً عن الفلسطينيين، لكن أبي لا يحبهم».

في الشطر الآخر من العاصمة، تختلف الأمور. فانتشار الكوفيّات الملونة لا يبدو «عدائياً» لأهل الكوفية الأصلية. فللمنطقة تاريخ إيجابي مع هذا الرمز، ما يتيح لها التفنن في ارتدائه دون أن تخاطر باتهامها باتباع «الهوى الإسرائيلي في تحويل الكوفية إلى مجرد موضة» كما يدّعي البعض. أما في الضاحية. فللكوفيات حديث آخر. فإن كان العداء بين أهالي «الشرقية» والفلسطينيين هو الطاغي على الذاكرة العامة، إلا أن عداءً آخر لا يبدو ظاهراً للعيان إلا أنه موجود ومستمر منذ معارك أمل الشيعية مع المخيمات. وربما كانت استعاضة هؤلاء عن الكوفية الفلسطينية التي لبسوها في ما مضى، بأخرى سوداء مخططة بالأبيض، تعبيراً عن استمرار النفور المتبادل.

وبغض النظر عن هذه الحالة، فإن موسى نور الدين، وهو طالب في العلوم الدينية، يقول إن لبسه هذه الكوفية، يرمز إلى «الحداد الدائم على الحسين وأئمة الشيعة».

أما حسن حيدر، المقرّب من «حزب الله»، فيقول إن الكوفية الإيرانية هي تلك التي يلبسها السيد حسن نصر الله فقط، ومرشد الثورة في إيران، آية الله الخامنئي. أما الكوفية الفلسطينية الأصلية؟ فيقول إنه يحبها ويحترمها لكنه يفضّل الإيرانية.

في المحصّلة، ربما يُعدّ انتشار الكوفية الملونة في الأشرفية أو في العالم، إذا ابتعدنا عن نظرية المؤامرة، مجرد عمل تجاري بحت، والأرجح مما نرى على رقاب الصبايا والشباب في كل مكان، أنه كان مربحاً بالفعل. لكن اختفاء الكوفية الأصلية، لمصلحة الأزياء تارة، ولمصلحة كوفية ملتزمة دينياً وأيديولوجياً كما في الضاحية تارة أخرى، يؤدي في نهاية المطاف إلى محو رمز من رموز فلسطين نفسها من الذاكرة. عندها يصبح «طبيعياً» أن تكون الكوفية الفلسطينية المموّهة بألوانها موضة محايدة سياسياً في الأشرفية.

ارتداؤها في غزة تعبير عن معارضة «حماس»

غزة ــ قيس صفدي

ارتبط العجوز التسعيني، عودة عدوان، بالكوفية منذ أن كان شاباً إبان ثورة عام 1936 ضد الانتداب الإنكليزي في فلسطين. كانت الكوفية حينذاك توحّد الفلسطينيين ولا تفرّقهم. الزمن لم يعبث بذاكرة عدوان الذي يتذكر جيداً، كيف لجأ الثوار الفلسطينيون لاستخدام الكوفية كلثام للتنكر أثناء مقاومتهم للاحتلال الإنكليزي، وقال: «طلب الثوار من الناس اعتمار الكوفية حتى باتت سمة غالبة، فلم يستطع الإنكليز تمييز الثوار عن غيرهم من السكان المدنيين، وأسهم هذا في حماية الثوار من الاغتيال والاعتقال». ظلت الكوفية في سنوات ما بعد ثورة عام 1936 حكراً على كبار السن من الفلسطينيين. غير أنها استعادت «شبابها» مع انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة في ستينات القرن الماضي.

يرى أحمد موسى (63 عاماً) أن الكوفية الفلسطينية زادت انتشاراً وتعزّزت كرمز للكفاح الوطني مع انطلاقة الثورة الفلسطينية. وأسهم الزعيم الراحل ياسر عرفات في «تدويل» الكوفية، منذ أن اعتمرها في منتصف الستينات بطريقته المميزة التي تشبه «خريطة فلسطين التاريخية». وقال موسى «إن الفلسطينيين يرون في الكوفية صورة الختيار»، الذي حولها إلى رمز لفلسطين في كل مكان، بإصراره على التجوال بها «مرتدياً بدلته العسكرية التي لم تفارقه حتى وفاته في 11 نوفمبر 2004».

وانتشرت الكوفية بشكلها ولونها المعهود في أوساط الفلسطينيين، وخصوصاً «الفتحاويين» منهم، إبان الانتفاضة الكبرى (1987-1993)، للتخفّي خلال مقاومتهم. وحاولت مصانع النسيج مواكبة «التعصب» الناجم عن التنافس المحموم بين الفصائل والقوى الفلسطينية، التي ميّزت بين الكوفيات بواسطة ألوان شعارات الفصائل، لكن الكوفية التقليدية حافظت على مكانتها، ولم تزحزحها لا كوفيات خضراء ولا حمراء. وزاد إقبال الفتحاويين في غزة على اعتمار الكوفية عقب سيطرة «حماس» وهروب القوات الموالية لحركة «فتح». وبحسب الطالبة لبنى التي تلتف بالكوفية الثورية الأصلية، فإنها تريد أن تقول إن «فتح» باقية وستعود يوماً.

كثيرات من الجامعيات استبدلن وشاح الرأس التقليدي بالكوفية تعبيراً عن تمسكهن بانتمائهن لحركة «فتح». غير أن لبنى ترى أن طلاباً لا ينتمون لـ«فتح» اعتمروا الكوفية تعبيراً عن سخط «الفلسطينيين في غزة جراء ما تسبّب به انقلاب حماس على الشرعية» كما قالت.

لكن محمود خلف، يحس من ناحيته بحزن شديد لإقحام الكوفية في الخلاف والانقسام الفلسطينيين، وقال: «كوفيتنا أصبحت رمز توحّد الأحرار في العالم، بينما نحن نعمل على تقزيمها». ويفخر خلف بأن الكوفية الفلسطينية تحولت إلى «شعار أممي» بشهرة واسعة، وراية ترفرف حيثما وجد الظلم والاضطهاد والاحتلال في العالم.

ألوان لكسر ملل مراوحة القضية؟

محمد محسن

لا أذكر أنني رأيتها يوماً بلا كوفية. حتى شعرها الطويل، لا أعرفه كاملاً. كان ينقصني الوقت دائماً، لأحدق جيداً إلى يديها: حين ترده إلى الخلف، لأكتشف وجود شعر أسود وطويل، يختبىء عنوةً خلف الكوفية الفلسطينية التقليدية. ولاحقاً، صارت الكوفية كوفيات. كانت صديقتي تبدّل دائماً في كوفيتها، وعندما سألتها مرة عن السبب، قالت، لأكسر الملل الذي أصاب القضية الفلسطينية نفسها.

توافق صديقتي على أن الكوفية هي مجرد تعبير عن التزام، يلزمه الكثير من العمل. وترفض دائماً أن تقارن بمجموعة كبيرة من أصحاب الكوفيات، الذين يطلق بعضهم لحاهم، ويرتدون ثياباً مهترئة، ويقضون وقتاً طويلاً في التسّكع، دون إيلائهم أي أهمية لمعرفة ماذا يجري في عكا، و«كيف صار شكل الزيتون». تكره صديقتي صاحبة الكوفية، مقهى «تاء مربوطة» في شارع الحمرا، وتنزعج من الهيبّيّين الذين يمسحون البيرة عن أفواهم، بأطراف الكوفية، المقدّسة بالنسبة إليها.

تعترف بأن في داخلها ذكريات يسارية حمراء، دفعتها إلى البحث عن صورة لفلسطين، يمكن ارتداؤها، يمكن تنفّسها، أو شمّها والنظر إليها قدر المستطاع. وهناك كانت رحلتها مع الشال الفلسطيني في الصيف والشتاء، ولامها المقّربون كثيراً، حد السخرية، قبل أن تصبح الكوفية «موضة العصر الموسمية»، كانت متهمة بالـ«الشيوعية»، في بيئة ترفض لخوفها من «الخارج» الخروج عن الطائفة. هي لم تنف يوماً أنها تحب الأفكار الشيوعية بمعاني العدالة الاقتصادية والاجتماعية، لكنها رفضت دائماً إلصاق رمز فلسطيني كالكوفية بالفكر الشيوعي «حتى لا يصار إلى اختزال أي منهما على حساب الآخر»، وحتى «يبقى لأي إنسان حق ممارسة الحب كما يشاء».

صديقتي، حساسة جداً. تبكي عندما تشاهد صوّر الحصار في غزة، دموعها حقيقة تماماً، وخالية من أي زيف ممكن، كما دفعها فضولها وحساسيتها المفرطة، إلى اقتناء أكبر عدد ممكن من الكوفيات الجديدة الملوّنة، والسبب ليس أنها تحب إيلي صعب، وهذا ليس بشيء شائن، بل شبه تلك الكوفيات، بالكوفية الأصلية.

الكوفية الأصلية أصلية، تعلن دائماً، وتشرح: الكوفية بالأبيض والأسود.. أما فلسطين، فدائماً بالألوان، ولن تتحول إلى فيلم قديم، يمسحه العالم من ذاكرتنا.

فلسطينيو حيفا يخافون أن يسرقها الإسرائيليون

حيفا ــ فراس خطيب

كلّهم اعتادوا سحنته السمراء وملامحه الحادّة وبالطبع، الكوفية التي يعتمرها. كانت تلك الكوفية جزءاً من حضوره القوي. ربما كانت تذكيراً بحلمه الأزلي بالعودة إلى قريته لوبية التي هجّر منها، أو رسالة قد ينقلها إلى حالمٍ آخر. لم يسأله أحدٌ يوماً عنها، وهو بدوره لم يبادر للحديث عن معناها. غادر أبو أحمد، كما غادر الذين من قبله، لكنَّ كوفيته لم تغادر. ظلت تنتقل من جيل إلى آخر، لتكتسب في حضور فلسطينيي 48 مع مرور الزمن معنىً وشكلاً في كل مرحلة. فمن رمز الأرض النازفة، إلى رمز التشبث بما بقي، لتتحول بعدها إلى ما يشبه الإشارة الهادئة إلى جمرة الانتماء، وصولاً اليوم إلى أروقة الموضة التي «قد تكون حالها من حال القضية التي لم تعد كما كانت»، حسب ما يقول شاب فلسطيني في «الداخل»، «لا يحب الرموز»، وبين السطور حديث قد يتجاوز الكوفية بمعناه.

من يمر في المراكز التجارية الإسرائيلية اليوم، أو يقلب أكوام القماش في الحوانيت، قد يلمح كوفية فلسطينية هناك، تذكّر بأصل الفكرة، لكنّها قد لا تعني للحانوت وزبائنه شيئاً. هذه، ألوانها تختلف، وقماشها أيضاً. لكن من ينظر إليها من الفلسطينيين يعي أنها محاولة «صياغة» مستحدثة، لروح انتُزعت من أرض الصراعات الأزلية، محاولة لتقنين تلك الروح وركنها كأيّ سلعة أو بضاعة على رفوف الحوانيت الزجاجية. لن يحاسبهم أحد على «حقوق الشكل»، ولن يناقشهم أحد في معناها التاريخي الذي يحاولون مصادرته بتسليعها، فالصراع على الوجود، الأولوية، لم يترك مكانًا للصراع على الرموز.

حين تسأل البائعة الإسرائيلية في الحانوت الإسرائيلي عنها تقول إن «الإقبال عليها واسع، ومن كل الأجيال. لدينا منها لون أحمر، وأبيض وليلكي وملوّن ومخرّم .» إلخ. تحكي الإسرائيلية بدون أية مشاعر خاصة: لا تحدٍّ ولا استفزاز. مجرد بائعة قد تكون ملّت من البيع. الكوفية المزيّفة لا تعني لها سوى قطعة قماش. وحدهم الفلسطينيون ينظرون إليها بعين القلب والتاريخ. يقول شاب من فلسطينيي 48 «أخاف عليها من أن تتحول إلى لباسهم القومي، كما تحوّل الفلافل والحمّص إلى مأكلهم القومي».

الشباب الفلسطيني يمر بحالة من العودة إلى الهوية. فهو جيل لم يعاصر النكبة ولا ما تبعها من حكم عسكري. الكوفية منتشرة بين صفوفه؛ في فعّاليات الأطر الشبابية، وفي الاجتماعات المناهضة للخدمة المدنية (لدولة إسرائيل). لكن اللافت أن الكوفية أصبحت قيد الجدل السياسي. ثمة من يخشى قطعة القماش المخططة بالخطوط السوداء. سعت ثلاث مدارس أهلية (تابعة للدولة) في مدينة حيفا قبل أيام إلى إصدار تعليمات تمنع ارتداء الطلاب للكوفية في المدرسة. الطلاب يرفضون القرار «هذا ظلم، وهم ينفذون أوامر من الأعلى، لا نريد أن نخضع». عند منع الكوفية، أجمع الطلاب على معناها. وقالوا بأغلبيتهم الساحقة إن «المدرسة تلغي رمزاً للانتماء»، كما قالوا إنهم لن يتوانوا عن النضال لكسر «القانون المجحف». أصبح، حتى من ارتداها على سبيل الموضة، يدافع عن رمزيتها بكل ما أوتي من قوة. الطلاب أحرجوا إدارة المدارس التي امتنعت عن الردّ، واكتفت بالقول إنَّ الأمر «ليس سياسياً»، بل «جاء بدافع الحفاظ على الزيّ الموحد». ترد طالبة بأن «هذا سخيف. ما الفرق بين الكوفية والشال؟ لماذا لم يمنعوا الشال؟». المعركة لإعادة السماح بالكوفية في مدارس حيفا قد تكون متواضعة، لكنَّها بالتأكيد تكتسب بعداً عميقاً. فهؤلاء الشباب الذين يحيون في «المدينة المختلطة» يجدون أنفسهم، ربما دون أن يعرفوا، مدافعين عن «رمز للانتماء» في المدينة الكبيرة.

لم اشترها من عند زارا

لا يمكن تجاهل مشهد الكوفية بين الشبان في حيفا. قد يختلفون على كيفية ربطها: ثمة من يعتمرها، وآخر يلفها حول عنقه اتقاءً للبرد في فصل الشتاء، وثمة من يلقيها على كتفيه لتغطي ظهره كاملاً، وهناك من يرتديها مع نظارة شمسية تمنحه روح «المقاوم الجديد». لكنهم يتفقون على أنَّها «رمز للانتماء» ولو أن البعض، كما يقول وحيد «يضعها حباً في مسلسل باب الحارة»!

قد تكتشف أن وحيد محق عندما تشاهد شابّاً أو فتاة يرقصان في أحد الملاهي الليلية، وقد ارتديا الكوفية. يقول وحيد غاضباً «ليس كل من يرتدي صورة تشي غيفارا يعني أنه يعرف تشي». وحين تسأله عن معنى الكوفية يقول «جئت بها من قريتي، من قلب بيتي، كوفيتي لم أشترها من عند «زارا» (شبكة الحوانيت العالمية)».

 في كشك بالأشرفية لبيع الكوفيات الجديدة
في كشك بالأشرفية لبيع الكوفيات الجديدة


اثناء تحرك في بيروت مؤخرا لفتح معبر رفح
اثناء تحرك في بيروت مؤخرا لفتح معبر رفح


تعليقات: