الدكتور يوسف غزاوي: بين ضوء الفيتراي وصخب الوطن.. رحلة إبداعية من فرنسا إلى لبنان

الدكتور يوسف غزاوي في «أحلى صباح»
الدكتور يوسف غزاوي في «أحلى صباح»


مقابلة مع الدكتور يوسف غزاوي، أجرته الكاتبة والفنانة الرسامة باسمة عطوي، ظهرت في الدوريّة الثقافيّة "البعد الخامس" في عددها الثاني لهذا الشهر تشرين أوّل بالرّغم ممّا يمرّ به هذا الوطن من مخاض وحرب شرسة تدميريّة..


1- الدكتور يوسف غزاوي ما بين فرنسا ولبنان، لماذا إختار الفيتراي (الزجاج المعشّق)؟

عندما ذهبتُ إلى فرنسا عام 1985 للدراسة بناءً على منحة من الدولة الفرنسيّة، حاولتُ قدر الإمكان الغرف من معين الثقافة الفنّيّة طيلة الفترة التي قضيتُها هناك عبر الاطلاع على منابع الفنّ في بلد الفنّ. هي فرصة، سنحت لي بالتزوّد عن كثب ببعض الاختصاصات التي لم تكن توجد ضمن منهاج معهد الفنون في الجامعة اللبنانيّة. من هذه الاختصاصات فن الفيتراي (الزجاج المعشّق) الذي إنغمستُ فيه عن طريق الصدفة حين التقيتُ بفتاة فرنسيّة يملك والدها محترفًا للفيتراي في باريس، وهو بحاجة لفنان يعمل لديه. كانت تلك فرصتي للتعرّف على هذا الفنّ عن كثب، والعمل به لمدّة أربع سنوات متواصلة، ابتكارًا وترميمًا في الكنائس والكاتدرائيّات المنتشرة على الأرض الفرنسيّة والمؤسّسات والمنازل، وصولًا إلى المشاركة في تنفيذ إعلان لفيلم سينمائيّ فرنسيّ بعنوان "مدينة للبيع"، وإعلان آخر للتلفزيون الفرنسيّ حول مُنتج لمشروب فرنسيّ. سمح لي هذا العمل بالتعرّف على جغرافيا فرنسا وجهاتها وريفها وجمالاته وعاداته وطيبته، ولي فيه قصص جميلة..

كان اكتشافًا مذهلًا بالنسبة لي، أن أتعرّف على هذا الفنّ الجميل، القديم الجديد؛ فنّ الرسم بالضوء؛ فنّ إرتبط بتاريخ الشعوب الغربيّة، على رأسها فرنسا، وبمعتقداتها وإيمانها حيث زيّن نوافذ جدران الكنائس، ولوّن ضوءها. أمّا الاكتشاف المفاجىء الذي سرّني فهو معرفتي لأصول هذا الفنّ التي تعود إلى القرن السابع الميلاديّ، حيث أوّل عمل فيتراي وُجد في سوريا، ممّا يعني أنّ مصدره هو البلاد العربيّة، وليس الغرب كما كانوا يدّعون، وكما بيّنته في أحد أبحاثي حول الفيتراي وباعتراف الفرنسيّين أنفسهم (ذكرتُ المرجع)، لكنّ العرب، وكعادتهم أهملوا هذا الفنّ، وكان العمل به وامتداده في الغرب.

كان الفيتراي معينًا لفناني الغرب التشكيليّين، الذين استفادوا منه في أعمالهم وتجاربهم؛ منهم من تأثّر به كالفنان الفرنسيّ "جورج روولت". ومنهم من مارسه، وأنتج أعمالًا مكمّلة للوحة، كأن نذكر الفرنسيّ "مارك شاغال"، والبرتغاليّة "فييرا دا سيلفا".. والأسماء كثيرة. وهناك الفيتراي المعاصر الساحر في ألمانيا، على سبيل المثال، بتقنيّاته المختلفة، المبدعة والملفتة. وقد وصل الأمر ببعض الفنانين الغربيّين إلى أعمال "نحت- فيتراي"، وصولًا إلى أعمال "تجهيز- فيتراي" كأن نذكر الفرنسيّ "سركيس" الذي كتبتُ عنه مؤخّرًا مقالة في صحيفة اللواء اللبنانيّة.

أمّا بالنسبة لتجربتي، فكانت لي أعمال لا بأس بها في المحترف الذي عملتُ فيه كموظّف، وصولًا إلى تنفيذي أعمال فيتراي يغلب عليها الخط العربيّ. لم أكتفِ بالفيتراي أثناء دراستي في باريس، بل درستُ أيضًا فن الفسيفساء (الموزاييك) في كلّيّة الفنون الباريسيّة. ولتجربتي مع هذا الفنّ حديث آخر، ذكرتُ بعضه في كتابي "غرنيكا الخيام".

أودّ الإشارة هنا إلى أنّيّ المؤسّس لتعليم هذا المقرّر في كلّيّة الفنون الجميلة والعمارة (1) في الجامعة اللبنانيّة بسسب خبرتي وتخصّصي به، لكن للأسف، فالآن، وبعد تقاعدي، أصبح الطلّاب من دون أستاذ متخصّص في هذا المقرّر، ولم يتمّ تجديد التعاقد معي للاستمرار في تعليمه! فقد حُرِم الطلّاب من جماليّة هذه المادّة الفنّيّة بما تقدّمه من أفق لأعمال الطلّاب، ومن إمكانية العمل به بعد تخرّجهم من الكلّيّة كمصدر رزق..


2- هل يحنّ الدكتور يوسف إلى الكاريكاتور السياسيّ الذي مارسه أثناء الحرب اللبنانيّة؟

كانت تجربتي وعملي في الكاريكاتور السياسيّ في لبنان قبل سفري إلى باريس عن طريق الصدفة أيضًا: فقد مارستُ الكاريكاتور في مجلّة "النهار العربيّ والدوليّ" عام 1981 من خلال زميل لي في معهد الفنون كان ينفّذ أعمالًا لتلك المجلّة، وقد حصل على منحة للدراسة في الخارج، فوجدني مناسبًا للحلول مكانه، وهذا ما حصل. عملتُ في المجلّة المذكورة لمدّة شهر واحد فقط! قبل أن يتمّ إقصائي عن الأمر بسبب تطرّف أفكاري وحدّتها السياسيّة. وبما أنّ المجلة تنحو ليبراليًّا في سياستها، وتباع في الوطن العربيّ، تمّ تحذيري من قبل الناشر قبل أن يتمّ إيقافي عن العمل بها والإتيان بمن يقبل سياستها. أذكر أنّهم عمدوا، إحدى المرّات، إلى حذف جزء من أحد رسومي الكاريكاتوريّة قبل نشره في العدد، فقتل الفكرة الأساسيّة لها. اتصلت بي إحدى الصحف (اليمينيّة) عارضة عليّ تنفيذ رسوم لها تتضمّن تشهيرًا بياسر عرفات. رفضتُ الأمر لعدم استعدادي الدخول في دهاليز الحرب، ولو عن طريق الكاريكاتور، ودون أي ارتباط بجهة سياسيّة معيّنة. فقد كنتُ حرًّا حينها على عكس الكثيرين ممّن جرفتهم الحرب وإيديولوجيّتها وتطرّفها وعبثها ومجونها.

لم يقتصر الأمر على مجلّة النهار العربيّ والدوليّ، بل كنتُ أنشر رسومي بأسماء مستعارة في صحيفة النداء، وصحيفة كانت تصدر عن التعبئة العسكريّة لأحد الأحزاب اليساريّة. لم أستمرّ في فنّ الكاريكاتور لأسباب عدّة يأتي على رأسها أنّي لم أُخلق لهذا الفنّ بالاكتفاء بالخط والشكل الأسود والأبيض للتعبير. ناهيك من الوقت الذي على الفنان تكريسه لمتابعة الأحداث السياسيّة اليوميّة بشكل دائم ومستمرّ. فأنا فنّان تشكيليّ يتعاطى مع اللون واللوحة للتعبير، ولستُ مستعدًّا للكاريكاتور على حساب اللوحة ومساحتها وساحتها وجمالاتها.. والسبب الآخر لتوقفي عنه هو سفري للدراسة، كما أنّ اغتيال الفنان ناجي العلي أخافني، فأنا مثله متطرّف في أفكاري.. لكنّي لستُ مستعدًّا للموت.. فنّ الكاريكاتور فنّ عظيم ومحرّك مهمّ، لكنّه ليس ضمن مساحتي الفنّيّة الدائمة؛ علمًا أنّي نشرتُ أثناء عودتي من فرنسا الكثير من الرسوم التعبيريّة والأبيض والأسود في صحيفة السفير لسنوات طويلة تعبيرًا عن الأحداث والحروب التي مرّت على البلد، ولمّا تزل للأسف الشديد..

باختصار، لا أحنّ للكاريكاتور السياسيّ. فلوحتي أعمق فنّيًّا وجماليًّا..


3- بين اللوحة التجريديّة والتعبيريّة والتعليم، أيّهم أقرب إليك؟

يمرّ الفنّان في حياته الفنّيّة بمراحل عدّة. مررتُ بالتشخيصيّة والغنائيّة والتجريديّة والمفاهيميّة، وغيرها.. وهذا شيء طبيعيّ لإيجاد شخصيّتي الفنّيّة الفرديّة. لكلّ أسلوب ومرحلة أهمّيّنها وأفقها ولسانها اللغويّ.. لكنّني أبقى ميّالًا للتعبيريّة المطعّمة بالغنائيّة كمزيج بين الدلاليّ والجماليّ لتستقيم اللوحة وتتوازن. أمّا لماذا التعبيريّة تحديدًا؟ فيعود الأمر إلى الاحتجاج على الخراب والحروب التي تمرّ علينا. فمن الطبيعيّ أن تفرض التعبيريّة، مضافة إليها التجريديّة، نفسها كأسلوب يحتوي صرخاتنا وعويلنا وألمنا.. فالحروب تقضّ مضاجعنا، وتجعل أفكارنا مضطربة ومأزومة ممّا يتطلّب نفتيشًا عن مخارج نفسيّة تكمن في التعبيريّة والتجريديّة.

أمّا التعليم فهو لتحصيل رزقنا وقوتنا اليوميّ؛ ففي هذا الوطن لا يمكنك الاكتفاء بالرسم لتعيش، والأسباب كثيرة.. فهذا البلد بلد العجائب والأمزجة المتطرّفة والحسابات المختلفة. مارستُ التعليم من هذا المنطلق، وكما يفكّر غيري من كبار فناني الوطن. أعطيتُ الجامعة اللبنانيّة من كلّ قلبي وطاقتي وحبّي، محاولًا إفادة طلاب الفنون بكلّ ما أملك من تجربة ومعلومات على الصعيدين العمليّ والنظريّ. لم أبخل على الطلّاب كما كان يفكّر بعض أساتذتنا عندما كنّا طلابًا في معهد الفنون حينها، خوفًا من منافستنا إيّاهم على الساحة الفنّيّة فيما بعد، باستثناء القلّة القليلة منهم الذين تُرفع لهم القبّعة، وسأذكر هنا الفنانة المرحومة إيفيت أشقر، على سبيل المثال لا الحصر. كان بعض الأساتذة يخرجون من الصفّ كما دخلوه!

الفنان الحقيقيّ يُفضّل التفرّغ لعمله والحديث مع اللوحة واللون والشكل الذين يمكن للفنان، أو الأستاذ الجامعيّ، تعلّم الكثير منها.

إذن، لا يمكننا المقارنة بين الممارسة العمليّة وبين التعليم لاختلاف المفهومين..


4- ماذا أضاف التعليم الأكاديميّ للفنان الذي بداخلك؟ وهل هناك خسائر على درب التعليم؟

استكمالًا لما ذكرته في الإجابة عن السؤال السابق، يمكنني القول والاعتراف بأنّ التعليم، رغم كلّ شيء، له أهمّيّته ورونقه ودوره. كنتُ أجد لذّة في التعليم وإفادة الطلّاب. وكما أنّ الأستاذ يفيد الطلاب، فهو أيضًا يمكنه الاستفادة منهم من خلال أعمالهم التي يمكن للصدف أن تلعب دورها في أعمالهم ومشاريعهم وتجاربهم. فهناك طلاب موهوبون بامتياز، قد ينتج عنهم أعمالًا مهمّة وملفتة. هذا من الناحية العمليّة. أمّا نظريًّا، فيقوم الطلاب بأبحاث فنّيّة قد تتضمّن جديدًا، مأخوذًا من مراجع أجنبيّة، لا يعرفه الأستاذ، فالأستاذ مهما بلغ شأنه الثقافيّ وزاده المعلوماتيّ، لا يمكنه معرفة كلّ شيء، وينقصه الكثير.. وهذا شيء طبيعيّ..

من ناحية أخرى، أعترف أنّ التعليم أخذ الكثير من وقتي على حساب لوحتي، وهذا شيء طبيعيّ. الآن، بعد تقاعدي، أنا متفرّغ لعملي، لكنّ ظروف البلد والحرب المستمرّة تضع المعوقات أمام تحرّكنا واندفاعنا المرغوب والمطلوب..


5- كتبتَ قراءات في فنّ التصوير الحديث، رؤى تشكيليّة حديثة ومعاصرة، محطات تشكيليّة حديثة ومعاصرة، غرنيكا الخيام (سيرة ذاتيّة)، ومقالات في الصحافة العربيّة والعالميّة. هل هناك من يقرأ ويتابع؟

سأكون هنا صريحًا وقاسيًا. للأسف الشديد، لا يوجد قارىء في أوطاننا حتى على صعيد الطلّاب؛ فعلى سبيل المثال، طلّاب الماستر الذين يمكنهم إيجاد المعلومات في كتبي، ولا سيّما كتابيّ "رؤى تشكيليّة" و"محطّات تشكيليّة"، اللذين قامت الجامعة اللبنانيّة بطباعتهما على نفقتها لأهمّيّهما الأكاديميّة والثقافيّة. أقول رغم أهمّيّتهما لأبحاثهم ورسائلهم الجامعيّة، لا يعمد الطلاب إلى اقتنائهما، فكانوا يكتفون بتصويرهما "فوتوكوبي"، دون عناء التفكير بتخصيص زاوية في منازلهم للكتب الفنّيّة المتعلّقة باختصاصهم، وهذا الشيء يندرج أيضًا على الفنانين التشكيليّين المحترفين. اسمحي لي هنا بالقول، وبكلّ ثقة، إنّ كتابيّ المذكورين يُعتبران الأهمّ من بين الإصدارات الفنّيّة في لبنان والوطن العربيّ فيما يتعلّق بفنون الجداثة وما بعدها والمعاصرة. رغم ذلك، أقول أنّ كتبي لا تلقى الاهتمام اللازم إعلاميًّا؛ فهي مغيّبة! ويندرج هذا الأمر على تجربتي العمليّة! هذا الشيء لا يشجّعني على الإصدارات، ولا سيّما أنّ الكتاب الفنّيّ مكلف قياسًا للكتب الأخرى العاديّة التي تخلو من الصورة الملوّنة كنصّ مرافق. أمّ المقالات الفنّيّة والدراسات فلم، ولن، أوقفها، وهي مرافقة لعملي الفنّيّ كتوأمين (عمليّ ونظريّ). هنا أفتح مزدوجين للإشارة إلى أهمّيّة أن يقوم الفنان بالكتابة المستمرّة. فالعمل الفنّيّ لا يقوم على المهارة اليدويّة فقط، بل على فكر يقود اللعبة الفنّيّة وصولًا إلى الجديد المبتكر. فلو أجرينا مسحًا شاملًا للفنانين الغربيّين لوجدنا الكتابات الفنّيّة (كتب، دراسات، أبحاث، مقالات وآراء..) مرافقة لأعمال هؤلاء الفنانين بدءًا مع ليوناردو دافنشي، مرورًا بدورر، لتكرّ السبّحة وصولًا إلى عصرنا الحالي دون الحاجة لتعداد الأسماء الكثيرة، فنكتفي بذكر كتابات كاندنسكي وبول كلي وموندريان.. كأمثلة. أشير هنا إلى أنّي أحمل إجازة باللغة العربيّة وآدابها من الجامعة اللبنانيّة بالتوازي مع دراستي للفنون حينها. وبالتالي فإنّ الكلمة تستدعيني دائمًا لمعانقتها ومسامرتها كجزء من قاموسي الثقافيّ والفكريّ والفنّيّ.. لا يمكنني إيقاف الكتابة وخيانتها..


6- طبعًا، شعور الخسارة لا يوصف؛ فهي خسارة فادحة جدًّا، وأعني بذلك احتراق محترفكم عدّة مرّات بما حواه من إرث فنّيّ, ألا تجعلك هذه الخسارة نادمًا لعودتك واستقرارك في لبنان؟

قضيّة خسارتي لأعمالي في ثلاث مناسبات بسبب الحروب في بلد الحروب والبكاء الدائم، مؤلمة جدًّا، ومفيدة في آن؛ لو لم تُدمّر أعمالي لكنتُ دمّرتها بنفسي كردّة فعل على الفوضى في هذا الوطن. أصل بعض الأحيان إلى مرحلة اليأس في هذا الوطن المشبع بالدم والظلم والمأساة المنوّعة. قد يلتذّ اللبنانيّ بتعذيب الذات وجلدها من خلال عدم الاستقرار وسيادة التخلّف ودوام الصراخ. يعجزون حتى عن انتخاب رئيس للجمهوريّة المريضة أو تعيين ناطور أحراش. يتباهون بالعبقريّة اللبنانيّة الفذّة والمميّزة! أشفق على هذا الوطن وعلى انحداره وانتحاره. بالرّغم من كلّ شيء نستمرّ بالعطاء والتقديم. نجمّل في هذا الوطن قدر المسنطاع، فيما الآخر يعمل فيه خرابًا وتشويهًا.. هو صراع بين طرفين. الوطن بحاجة إلينا لنزيل عنه هذا العبء وهذه البشاعة. من هذا المنطلق كانت عودتي للوطن للقيام بهذا الدور لإنقاذ الوطن من براثن المشوّهين والطائفيّين. قد لا أكون شيئًا، لكن أستطيع تقديم ما أمكنني.. علّ وعسى. لا، لستُ نادمًا على رجوعي للوطن رغم هذه المعاناة. هنا وُلدنا، وترعرعنا، وكبرنا، وأحببنا، وبكينا. أحبّ هذه الأرض التي تحتضن رفات أجدادي وأهلي. كان حلمي أن أبني منزلًا ومُحترفًا ومُتحفًا لأعمالي وأعمال زوجتي في المنطقة الحدوديّة التي وُلدتُ فيها، ولمّا أزل. بدأتُ مشروعي إلّا أنّ الحروب تحول دائمًا بيني وبين طموحي وأحلامي وحنيني. إقامة مُتحف في تلك المنطقة هو جنون بحدّ ذاته. لكنّه جنون إيجابيّ. دُمّرت محترفاتنا ثلاث مرّات، والأخيرة منها كان تدميرًا مزدوجًا لأعمال زوجتي وأعمالي. وقد تأتي الرابعة بين لحظة وأخرى.. بلد الموت والموت والموت! لا أعرف سبب هذه العنقاء التي تسكنني، وتنهض من جديد طلبًا للحياة والعطاء! تركتُ باريس التي أعشقها حتى الجنون؛ باريس التي أحبتني بقدر ما أحببتُها، وقد كتبت عنّي صحيفة الموتد الفرنسيّة مقالًا. أقول، أنّي تركتُ باريس وعدتُ إلى الوطن، ربّما لتبقى باريس أيقونة عشقي وشوقي وذاكرة شبابي.. لستُ نادمّا بالرّغم من خذلان بلدي لي.


7- "غرنيكا الخيام"، هل كنتَ تحتاج لهذا التفريغ لكلّ حياتك في البدايات لتكون على ورق لكي تشاهد يوسف غزاوي عن مساحة؟

"غرنيكا الخيام، جداريّة الوطن المشاغب" هي سيرتي الذاتيّة، وتجربتي في هذا العالم، بدءًا من طفولتي في الخيام، ومجيئي إلى بيروت، ثمّ سفري إلى فرنسا وعودتي منها؛ وما قمتُ به من أعمال وتجارب وكفاح وركض هنا وهناك بين أمكنة الذات والوجود. كتابي صرخة في وجه الوطن المعذّب والمشاغب وفي وجه الآخر الذي نعته سارتر بالجحيم. حاولتُ الاحتجاج على مرارة حياتنا ومعاناتنا وجنوننا عبر هذه الصفحات، علّ من يسمع ويتعظ. ثمّ أنّ أهمّيّة نقل تجربتنا للآخر هي عمليّة إيجابيّة ليستفيد منها الآخر بكلّ المعايير. وهذا ما ذكرتُه في مقدّمة كتابي.. "قل كلمتك وامشِ". تألّمتُ كثيرًا في حياتي، وعانيتُ ما يكفي، وفرحتُ القليل، فكانت هذه السيرة للتاريج، إذا أراد التاريخ إنصافنا. نحن نكتبُ، ونرسم، ليس لحاضرنا بل للمستقبل وللأجيال. علّ من يتّعظ..


8- زواج الفنّان التشكيليّ من فنّانة تشكيليّة له إيجابيّات كثيرة. هل من منافسة بينكما، أم الروح تكامليّة؟

زواجي من فنانة تشكيليّة مميّزة هو أجمل ما مرّ في حياتي. أن تعيش مع فنانة تفهمك وتشاركك وجعك وهمّك وفرحك، هو شيء مدهش وجميل بالرّغم من إشكاليّاته الكثيرة. نتحاور في الفنّ، ونتبادل الآراء. تدهشني زوجتي بذكائها وموهبتها الفنّيّة. هي أستاذة جامعيّة معطاءة وناجحة ومخلصة، كذلك في منزلها. لكنّ ظروف الوطن تؤلمها كما تؤلمني، فنعاني سويّة بانتظار الفرج الموعود مع "غودو".. يبقى التفاؤل موجودًا رغم كلّ شيء..


9- الإشراف على رسائل الماستر الجامعيّة وعلى أطروحات الدكتوراه في قسم الفنّ وعلوم الفنّ، هل هو أمر ممتع، أم استنزاف لوقت وطاقة الفنان؟

سبق وتحدّثتُ عن التعليم الجامعيّ، ولا داعٍ لتكراره. لكنّ الإشراف على الرسائل الجامعيّة وأطروحات الدكتوراه هو شيء استثنائيّ له أفقه ومداه وضرورته. الإشراف لا يُقدّم لي ربحًا مادّيًّا مطلقًا، بالرّغم من الوقت المكرّس للقراءة وإعطاء الملاحظات. معظم الطلّاب هم طلّابنا في الجامعة اللبنانيّة، وقسم كبير منهم أصبحوا زملاء نا في الكلّيّة. الجامعة اللبنانيّة بحاجة إلى أساتذة مشرفين يحملون رتبة "أستاذ- بروفسور"، وأنا واحد من هؤلاء. لن أحرم الجامعة من خبرتي وعطائي ليستمرّ هذا الوطن بالوجود. نحن قرابين على مذبح هذا الوطن..


المصدر: الدوريّة الثقافيّة "البعد الخامس"

الكاتبة والفنانة الرسامة باسمة عطوي
الكاتبة والفنانة الرسامة باسمة عطوي







تعليقات: