محمّد علي صادق: شاعر القضاء .. الذي يلطف أجواء المحاكم

حقّق في «بوسطة عين الرمّانة» وقال للرئيس شمعون إنّ «الأحرار» وآخرين ارتكبوها!

محمّد علي صادق: شاعر القضاء .. الذي يلطف أجواء المحاكم

قلّة هم القضاة والمحامون الذين يسبكون مرافعاتهم ومطالعاتهم القانونية، دفاعاً واتهاماً، بلغة شاعرية تطرب الأذان وتبهر الأنظار، وتفاجئ المتهمين والنظّار، فتَسْمَعهم في قاعات محاكم الجزاء، يسردون وقائع القضية المطروحة أمامهم، بقالب شعري لا يخلو أحياناً من الجدّيّة والطرافة في آن معاً، بينما السائد والشائع لدى آخرين، هو التخاطب ببضع كلمات نثرية تكون الغاية منها، ولا سيّما في الدعاوى الصغيرة، الانتهاء من المرافعة قبل البدء بها كمن يريد التخلّص من حمل ثقيل يتربّع على كاهله!

وتحفل خزائن قصور العدل والمحاكم بالكثير من المرافعات والمداعبات الشعرية التي أطلقها رجالات كبار منهم شاعر «الملاحم» القاضي المرحوم بولس سلامة، والقاضيان محمّد علي صادق وطربيه رحمة، والرئيس نبيه بري، والمحامي والنائب الأسبق إميل لحود، والمحامون نجيب جمال الدين، وعبد الله قبرصي، ويوسف حليم لحود، وبعضهم ارتجل الشعر في حضرة المحاكمة، معتمداً على ملكة مفعمة بالحضور الذهني واللقطة اللحظوية الآنية.

وتميّز محمّد علي صادق عن أقرانه بأنّه ما وقف على يمين «القوس» ممثّلاً للحقّ العام، إلاّ ونطق شعراً موزوناً مقفّى منحوتاً من صميم الواقع والوقائع و«اعتمالهما» أحياناً كثيرة في القلب، كأنّه عاش الملفّ بتفاصيله ودقائقه وحيثياته حتّى تأثّر بها واندمج فيها. ولم تخلُ مرافعاته من الطرافة واللطافة، فكان بذلك يرطّب مناخ الجدّية المهيمن في قاعة المحكمة، ويثلج القلوب المتجمّدة، والأجساد المرتجفة، والعيون الخائفة، ويخطف ضحكة من هنا، وابتسامة من هناك، حتّى استحقّ لقب «شاعر القضاء».

ويمكن في القضاء انتداب قاض مكان قاض آخر للبتّ في دعوى ما، فهذا أمر جائز، وحصل في الماضي، ويحدث في المستقبل، ولكنّه من المستحيل أنْ يحلّ أحد مكان موهبة محمّد علي صادق في صوغ قصائده وإطلاق نفحاتها من قمقم الشعور، فهي مطرّزة بأسلوبه، وبأنفاسه، وبصمة لا يمكن تزويرها أو تقليدها.

الإرث الكبير

والقاضي صادق، سليل بيت ديني معروف بالتقوى والإيمان والعلم والشعر وتخريج العلماء والأدباء. فوالده هو العلاّمة المجتهد الشيخ والشاعر عبد الحسين صادق مؤسّس مدرسة الخيام، ومُشيد حسينية النبطية الشهيرة، ومؤلّف دواوين «سقْط المتاع»، و«عرف الولاء»، و«عفر الظباء».

وجدّه لأبيه هو كبير شعراء جبل عامل في القرن التاسع عشر، الشيخ إبراهيم بن الشيخ صادق العاملي الطيبي الذي توفّى في سنة 1284 هجرية، ومن آثاره الخالدة القصيدة العلوية المكتوبة بالحبر الفضّي والمعلّقة على ضريح الإمام علي بن أبي طالب في مدينة النجف الأشرف في العراق.

ووالد جدّه هو الشيخ إبراهيم يحيى الذي كان واحداً من العلماء والشعراء المبرّزين في عصره في القرن الثامن عشر الميلادي وترك سلسلة مؤلّفات وديواناً شعرياً ضمّنه أربعين ألف بيت.

أطلّ محمّد علي صادق على الدنيا في مدينة النبطية في العام 1929 ليكون السابع بين إخوته الشيخ إبراهيم، والعلاّمة المجتهد الشيخ والشاعر حسن، والعلاّمة المجتهد الشيخ محمّد تقي، وأحمد، والأستاذ الجامعي في العراق عبد الرضا، ومحمّد أمين، وتلاه الأديب والسياسي والنائب الأسبق حبيب صادق، ومحمّد.

يقول إنّ عائلته كانت محجّة لحلّ الخلافات بين أبناء الطائفة الشيعية في منطقة الجنوب، ما عوّده على الإنصات ملّياً إلى آراء ووجهات نظر كلّ الأطراف والفرقاء قبل إعطاء الحقّ لصاحبه، «ولذلك نشأتُ منذ صغري في جوّ قضائي بحت» كان له أبعد الأثر في طريقة تعامله، لاحقاً عندما دخل سلك القضاء، مع ما وصله من ملفّات ودعاوى.

درس على نفسه حتّى صف «السرتيفيكا»، «وكنت أتابع نشاط أبي الأدبي خلال فترة إصابته بالفالج فأدوّن له مطوّلاته الشعرية فاهتمّ بي، ونمت في عهده موهبتي الشعرية وأنا لا أتعدّى العشرة أعوام»، ثمّ درس في مدرسة المقاصد الإسلامية في مدينة صيدا حتّى نال شهادة «البروفيه»، وكان من أساتذته فيها الأديب الدكتور علي شلق الذي «علّمنا مادة الأدب العربي واكتشف شاعريتي وشجّعني على تنميتها». ويذكر من زملائه فيها النائب الأسبق والأديب أحمد سويد، والمدير العام الأسبق لقوى الأمن الداخلي اللواء عثمان عثمان.

دخل في العام 1943 دار المعلّمين لامتهان التعليم، تساعده براعته اللغوية ويراعته الشعرية، ولم تمض سنته الأولى حتّى فجع بوفاة والده «ولم أستطع أنْ أكمل لأنّه ترك لديّ عائلة»، ومع ذلك تعيّن وكيل معلّم في مدرسة الخيام (قضاء مرجعيون) في الأول من شهر آذار من العام 1946 حيث واظب على التدريس فيها فترة قصيرة من الزمن. وما لبث أن انتقل إلى دمشق فدرس الحقوق في الجامعة السورية مدّة ثلاث سنوات متتالية أي لغاية العام ,1950 وتزامل خلالها مع نائب الرئيس السوري المحامي عبد الحليم خدّام. ثمّ عاد إلى بيروت ودرس السنة الرابعة في كلّيّة الحقوق في جامعة القديس يوسف «اليسوعية»، وذلك بهدف نيل الشهادة اللبنانية في الحقوق. وقد ربطته فيها زمالة مقاعد الدراسة بالنائب الأسبق عبد الله غطيمي، والقاضي زيد الزين.

لم يكتف محمد علي بالحقوق، وهو «الموسوس» بالشعر، فتابع دراسته في الآداب العليا في الجامعة اللبنانية، ثمّ الدراسات العليا في الأدب الفرنسي، وكان من زملائه فيها النائب السابق مخايل الضاهر والأديب جواد صيداوي.

«مفاضلة» عسيران

اعتقد أنّ نيله إجازة في الحقوق يسهّل عليه الحصول على وظيفة رسمية مهمّة، فدخل إلى مجلس النواب على أساس تعيينه رئيس مصلحة، ولكنّ «الرئيس عادل عسيران عيّنني محرّراً ووضع مكاني أنطوان عارج، فاستأت من هذا التصرّف خصوصاً أنّه لديّ شهادة من الفقيه القانوني صبحي محمصاني، وقلت لعادل بك أبياتاً من الشعر بحضور عارج نفسه، وهي:

«الكونُ يزخرُ بالمباهج/ والكلّ بالشكرانِ لاهج

لم تبق أيّة حاجةٍ/ قضيتُ لكم كلّ الحوائج

ونراك مُزورَّ الجبين/مصدّعَ الوجدان هائج

فكأنّما مسٌّ أصابك/ أو مُنيتَ بطرف فالج

الكلّ يضحك غبطةً/ فعلام أنتَ من الخوارج؟

فأجبتهم كيف الهنا/ ورئيسنا أنطوان عارج؟».

وهكذا ترك مجلس النواب بعد عِشْرة دامت ثلاثة أشهر فقط.

ما أنْ أعلن ديوان المحاسبة في العام 1952 عن مباراة لتعيين موظّفين، حتّى تقدّم إليها «فطلعت الأول واختارني رئيس الديوان المير جميل شهاب مفتّشاً في الديوان حيث كان رئيس الجمهورية إلياس سركيس لا يزال مستشاراً». وصدر مرسوم تعيينه حاملاً الرقم 5389 بتاريخ 24 حزيران من العام 1954 وموقّعاً من رئيس الجمهورية كميل شمعون ورئيس الحكومة ووزير المال في آن معاً عبدالله اليافي.

وساطة شمعون

واستمرّ لغاية العام 1957 حيث تقدّم الى امتحانات القضاء قبل تأسيس معهد الدروس القضائية بموجب قانون التنظيم القضائي المنفّذ بالمرسوم الرقم 7855 الصادر بتاريخ 16 تشرين الأول من العام ,1961 ونجح بتفوّق إذ أنّه حلّ في المرتبة الأولى.

كان الامتحان على صعوبته أهون مما واجهه من ممانعة سياسية رافضة لهذا النجاح المميّز، وكاد يخسر حقّه بسبب السياسة، ويخبر أنّه «بعد مشاهدتي لوزير العدل آنذاك المرحوم بشير الأعور ذكر لي أنّ اسمي غير وارد في التعيين وينبغي أنْ ألاحق تعييني لدى زعماء طائفتي فيأست منه وتوجّهت إلى رئيس الجمهورية كميل شمعون فقال لي: «إنّ أخاك المجتهد الأكبر الشيخ محمّد تقي يجابهنا مع أحمد بك الأسعد وأنا أتولّى تعيينك في القضاء؟»، فقلت له: «أنا معكم لمجابهة هذه السياسة!»، وما لبث أن اقتنع شمعون بهذا «الحليف المستجدّ»، فاتصل برئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي بدر معوشي وأوعز إليه لاستعادة المرسوم، ففعل، وحذف اسم مرشّح مسيحي هو سليم أبو نادر وعيّنني مكانه». بعد فترة قيّض لأبي نادر أن يعود ويصير قاضياً.

تسأله عما إذا كان قد وقف في وجه شقيقه الشيخ محمّد تقي من أجل الفوز بالوظيفة، ولو من الفئة الأولى، فينفي، ويقول: «كنت من عناصر مؤسّسة «الشباب العربي» التي أسّسها الرئيس عادل عسيران» الذي كان قد وجد وظيفة رئيس مصلحة في مجلس النوّاب كبيرة عليه فحال بينه وبينها.

يهزأ صادق ممن يروّج بأنّه لا توجد تدخّلات لدى القضاء سواء في التعيينات أو غيرها، ويسوق أمثلة حيّة ومعاشة حصلت معه هو فعلياً.

تولّى محمّد علي صادق مناصب قضائية متعدّدة خلال مسيرته القضائية التي ناهزت الأربعين عاماً، بدأها قاضياً أو حاكماً منفرداً جزائياً في بلدة جبّ جنين في البقاع الغربي في العام 1958 لمدّة عام واحد، «ولم يكن في هذه المحكمة كاتب بكلّ ما للكلمة من معنى ولكنّني استطعت أن أجعلها تستمرّ وتستقيم، وتوجّهت بكتاب إلى القاضي معوشي ذكرت له فيه واقعي وطلبت منه نقلي إلى مكان آخر»، فاستجاب له ونقله مستشاراً لمحكمة الجنايات في لبنان الشمالي وبقي لغاية العام ,1961 وكان يومذاك القاضي أديب علاّم نائباً عاماً استئنافياً هناك، والقاضي أديب ناصيف رئيساً أول لمحاكم الاستئناف في الشمال «وكانت حياتي في طرابلس مريحة جدّاً».

ربطته صداقة متينة بزميله القاضي أديب ناصيف الذي أعجب به وتدخّل بطريقة غير مباشرة لنقله إلى قصر عدل بيروت، «فبناء لطلب أديب توجّهنا إلى وزير العدل آنذاك فؤاد بطرس وكنت أتقن اللغة العربية فتحدّثت معه بها فارتضى على الفور، نقلي إلى مركز محام عام استئنافي وكان النائب العام القاضي سعيد برجاوي وتسلّمت على مدى خمسة أعوام الدعاوى الجنائية في محكمة الجنايات التي ضمّت خيرة القضاة ومنهم حليم الحايك وكان يتردّد إليها كبار المحامين أمثال بهيج تقي الدين ونصري المعلوف».

الأسعد ينتقم

وفي العام 1968 عيّن صادق قاضي تحقيق أوّل في جبل لبنان فخدم سنتين، ولكن «على أثر ترشّح شقيقي حبيب للانتخابات النيابية عن قضاء مرجعيون استاء الرئيس كامل الأسعد وانتقم مني فطلب نقلي، وهكذا نقلت إلى مركز مستشار استئنافي في بيروت، ثمّ صودف أن كان أحد قضاة التحقيق معي في جبل لبنان هو القاضي هشام الشعّار، وقد استلم مركز مدير عام وزارة العدل، فسعى إلى تعييني في مركز قاضي تحقيق عسكري أوّل وبقيت فيه لغاية العام 1976».

«بوسطة» الحرب

حقّق صادق في عدد من الدعاوى الهامة أثناء قيامه بالتحقيق العسكري، ومنها جريمة بوسطة عين الرمّانة التي كانت الشرارة الأولى لانطلاق الحرب الأهلية في 13 نيسان من العام 1975 حيث «أوقفت عناصر من حزب الكتائب وحضر إلى مكتبي الشيخ بشير الجميل وطلب مني إخلاء سبيلهم فاستمهلته حتّى استكمل التحقيق ووعدته بأنّني سأدفع من جيبي الخاص بدل تخلية سبيلهم إذا كانوا أبرياء، وبالفعل فقد أخليت سبيلهم، لأنّهم غير مشتركين في هذا الجرم، وبعد ذلك دعاني الرئيس كميل شمعون وكان وزيراً للداخلية وكان صاحب فضل بالنسبة إلى تعييني، فسألني لماذا أخليت سبيل هؤلاء؟ فأخبرته بأنّهم غير معتدين، فسألني مَن المعتدي؟ فقلت له فيها حرج، فأصرّ، فأبلغته بأنّ بعضهم من حزب «الوطنيين الأحرار» وأشخاصاً آخرين، وألححت عليه لنقل هذه الدعوى إلى المجلس العدلي فنقلت»، لتنام في أدراج النسيان نهائياً على غرار الكثير من الملفّات.

على أنّ أهم منصب قضائي في حياة صادق هو مدعي عام التمييز العسكري الذي شغله فترة واحد وعشرين عاماً متواصلاً وتحديداً إلى حين بلوغه السن القانونية للقضاة والمحدّدة بثمانية وستين عاماً، وإحالته على التقاعد في العام 1997 وكان قد وصل إلى الدرجة «6 فوق القمة» بحسب الترتيب المعمول به سابقاً في السلطة الثالثة.

وفي هذه المحكمة، نظر صادق في دعاوى «تاريخية» من عمر لبنان شغلت الرأي العام وأخذت صدى واسعاً واهتماماً إعلامياً كبيراً بسبب حجمها وخطرها، وترافع فيها شعراً، ومنها جريمة قتل الوزير والنائب الأسبق هنري فرعون على يد مرافقه الشخصي السابق السوري ولاّت حسن الملاّ في فندق«الكارلتون» في 5 آب من العام ,1993 وجريمة قتل فؤاد مغنية في متفجّرة صفير التي ارتكبها أحمد الحلاق وزوجته حنان ياسين ووفيق إبراهيم ناصر، وتوفيق أمين ناصر، وسهيل الحمصي في 21 كانون الأوّل من العام 1994 لمصلحة جهاز «الموساد» الإسرائيلي، وقال في قصيدته المؤلّفة من 14 بيتاً:

«القاصدونَ خيانةَ الأوطانِ/ قومٌ بلا شرف ولا وجدانِ

وأشدّهم بالحقّ شرّاً معشرٌ/ باعوا البلادَ بأبخسِ الأثمان

لا يرعوون عن ارتكاب مجازرٍ/ حمراءَ تودي في بني الإنسان

مُتهافتين بخسّة نحو العدى/ مستسلمينَ بذلّة وهوان

فعليهم ارتكز اليهود بغزوهِم/ وبفضلهم دارت رحى العدوان

فهمُ لإسرائيل أخلص تبّع/ متآمرين على حمى لبنان

فجنوبه ما زال محتّلاً بهم/ وبقاعه الغربي دون أمان

وإليكم من يمثلونَ أمامكم/ جلّت جرائمهم عن البرهان

من بعد إعدام الرئيس أتاكم/ حمصي لجانب ناصر وحنان

لولاهم الحلاّق ما استطاع الأذى/ هم صفوة الشركاء والأعوان

يحدوهم الإرهاب في أعمالهم/ قد أتقنوه غايةَ الاتقان

فأتُوا «صفير» بحيّ مقداد ضحى/ فهوى بهم متصدّعَ الأركان

لم يبق من مغنيّة أثرٌ به/ وكذاك ماتَ من الحضور إثنان

فعقوبةُ الإعدام واجبةٌ لهم/ ليسودَ حكمُ العدل في الميزان».

كان محمّد علي صادق يوازي في مرافعاته مضمون كلّ قضية تصله، فيقرأها جيّداً ويتوقّف عند أدقّ تفاصيلها لتبيان الحقيقة منها حتّى ولو كانت مرّة، وذلك خشية أن يخطئ في قراره وهو الذي يعرف في قرارة نفسه بأنّ العدل موجود فقط عند ربّ العالمين، فمن وجده مذنباً طلب له العقوبة اللازمة بحسب جرمه، ومن كان بريئاً وأُقحم في الدعوى من دون أيّ ذنب، دافع عنه وكأنّه محاميه وليس قاضياً يمثّل الحقّ العام، وهذا ما يستشفّ من قصيدة مؤلّفة من 17 بيتاً يعرض فيها واقع السجون والغاية من السجن ويقول:

«يا قضاةَ الجزاء بالله رفقاً/ بقضاء وعدله المنشودِ

كم بريء لكم أحيلَ افتراء/ وانتهى أمرُه لحكم شديدِ

فارحموا من بساحكم من عبيد/ تضْمنوا بالرضى إله العبيد

هل لمستم ما في السجون لدينا/ من عذاب ومن أذى مقصود

وعرفتم ماذا تجرّ سجونٌ/لعيال من محنة التشريد؟

إن يبرأ جانٍ إليكم محالٌ/ من يعوّضُ عن حكم حبسٍ مديد

شُرّع السجنُ للحياة بغرب/ ولدينا للموتِ والتنكيد

كلّ يوم حبساً لدينا يضاهي/ ألفَ يوم في الغرب بالتعديد

فلنُحَسّن سجونَنا مثلَ غرب/ ثمّ نقضي حبساً بدون حدود

كيف تغضّون طرفكم عن بريء/ لم يزل راصفاً بدامي القيود

تحت ضغط الإكراه والعنف أدلى/باعتراف مخافةً من مزيد

فرجال التحقيق قد أسلموه/ لضروب التعذيب والتهديد

بعد كي بالكهرباء تمادوا/ فيه ركلاً بأقضب من حديد

فتنزت به الدماء غزاراً/وتلاشى أرضاً بغير صمود

كان ينجو من العذاب طويلاً/ لو شرى نفسه ببعض النقود

فاتقوا الله بابن يوسف حالاً/ وامنحوه براءة من جديد».

ساهم صادق في توجيه المحاكم الشرعية الجعفرية بعدما عيّن في العام 1980 مدعياً عاماً لها، كما أنّه كان عضواً في مجلس القضاء الشرعي الأعلى برئاسة مفتي الجمهورية الشيخ المرحوم حسن خالد ثمّ المفتي محمد رشيد قباني، واستمرّ فيهما 17 عاماً، أي لغاية تقاعده.

مارس صادق مهنة المحاماة لمدّة عامين بين العامين 1997 و1999 حيث صدر مرسوم بقبوله في منصب الشرف بناء على ما تنصّ عليه المادة 93 من قانون القضاء العدلي الصادر بالمرسوم الاشتراعي الرقم 150 بتاريخ 16 أيلول من العام 1983 من أنّه «يُقْبل في منصب الشرف القضاة الذين لم تنلهم خلال عشرين سنة من ممارستهم لمهامهم أيّة عقوبة تأديبية باستثناء عقوبة التنبيه، ويتمتّعون عندئذ بامتيازات القضاة. ويقبل القضاة في منصب الشرف بمرسوم يتخذ بناء على اقتراح وزير العدل بعد موافقة مجلس القضاء الأعلى». وهكذا نال رتبة قاضي شرف مع ما يستتبع ذلك من احتفاظ بالحقوق والامتيازات القضائية ومنعٍ من الجمع بين القضاء وأيّة وظيفة أو مهنة أخرى.

ستارة إبن المعتزّ

حال وجوده في القضاء دون تمكّنه من نشر قصائده الغزلية على الملأ وفي الصحف «فهي تعطي فكرة عن عدم تمتّع القاضي بالرصانة والاتزان»، على حدّ تعبيره، كما أنّه تحفّظ عن نشر قصائده السياسية وتلك التي تنتقد القضاء وتعرض قضايا الإنسان في لبنان والعالمين العربي والإسلامي وذلك خشية أن تؤثّر هذه القصائد الوطنية والاجتماعية في منصبه كقاض مسؤول معنوياً عن أعماله وآثاره، وبقي محتفظاً بها إلى أن راودته فكرة التستّر خلف اسم مستعار، فاختار لنفسه اسم «إبن المعتزّ العاملي» تيمّناً بالشاعر والأمير العبّاسي عبد الله بن المعتز «الممتاز جدّاً» بحسب توصيفه له، وصار ينشر أشعاره وقصائده في الصحف اللبنانية: «السفير»، و«النهار»، و«البيرق»، وفي المجلاّت اللبنانية: «العرفان» للشيخ أحمد عارف الزين، و «المعهد» لصاحبها السيّد جعفر شرف الدين، و«الألواح» العائدة للسيّد محمد صدر الدين شرف الدين.

ومن هذه القصائد واحدة مسمّاة «استقامة القضاء واستقلاليته» وفيها:

«غداً نحظى بتشكيلات عدْلٍ/ بها يسمُو القضاءُ بتاج نصْرِ

يُشيدُ بها لسانُ الحقّ عزّاً/ ويزهو المجلسُ الأعلى بفخرِ

فلم تخضع لذي شأنٍ وقدرٍ/ ولم تنصع لذي نهي وأمرِ

فبشّرَ كلّ قاض مستقيمٍ/ بنهج سيّد في العدل حرِّ

تسودُ به الكفاءةُ والمزايا/ وينعمُ كلّ ذي قدْر بقدرِ

فإنّ العدلَ عاد لقصر عدلٍ/ بلبنانٍ ليعلو كلّ قصر».

وبُعيد «استعادته» حرّيّته من الوظيفة الرسمية، جمع قصائده في ثلاثة دواوين هي: «العدالة والحياة»، و«صدى الأشواق»، و«دموع الوفاء»، وقد صدرت في العامين 2002 و2003 على التوالي.

تأهّل صادق في البدء من السيّدة نجلاء شاهين شقيقة وزير التربية والنائب الأسبق المغفور له غالب شاهين، ووزير الإعلام والنائب الأسبق المغفور له فهمي شاهين، وأنجب منها ثلاثة أبناء هم: الطبيب أكرم، ومنى وغنى ولم تعمّر طويلاً فتوفّيت بعد صراع مع داء عضال ألمّ بها، ثمّ تزوج من السيّدة نجاح عبد الله ولم يرزق منها أولاداً.

تعليقات: