عندما ينتمي الإنسان إلى جنوب لبنان


تتعثر كلماتي، ولا أعرف من أين أبدأ، لم أدرك أنني سأعيش لأرى كل ما يحصل في بلدي الغالي، الذي عشقت كل حبّة تراب فيه؛ هي قصتي وقصة المئات لا بل الآلاف غيري.

أمشي في شارع الحمرا، وأشعر بأني غريبة فيه، أنظر الى كل شيء حولي كأني أراه للمرة الأولى، وجوه الناس المصفّرة، المباني المغبّرة ببقايا الصيف الحزين، الناس التي تسأل عن أسماء الفنادق، التائهين من أنفسهم لخوفهم من الموت المحتوم الذي يلاحقهم.

بعد منتصف الليل، يُطلق المتحدث باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي أوامره بإخلاء المباني في الضاحية الجنوبية، فتهرع الناس من كل حدب وصوب، يجرّون وراءهم أذيال الألم والغضب والإحباط ومشاعر متناقضة، يمشون أو يركبون الباصات الممتئلة، يبحثون عن المدارس التي تستقبل خيبتهم وتحتضن بؤسهم، تقول لي مروى صديقتي: “هل بقي غرف في الفندق، لو حتى واحدة، هل ننام في الشارع”؟ كيف سأقول لها أن الناس تنام في مستودع الفندق، سألتها كم عددكم، قالت أحد عشر فرداً.. وفكرت، لا أستطيع أن أستقبل في غرفتي أكثر مما عندي، ستة أشخاص، نتدبر أمرنا بكل شيء.

ذهبت مروى وعائلتها الى المدرسة الأقرب في رأس النبع وافترشت البلاط بانتظار الصبح عسى أن تنقضي لحظات الليل اللئيم سريعاً، ولكنها مرت ثِقال.. ثِقال.

أنا أيضاً أحتاج إلى أن أبكي، ولا أقدر، هل جفّت دموعي على أطفال غزة، هل أصبح قلبي قاسياً ولا شيء حي في مايا إلا الدموع، هي ماء ومن الماء خلقنا كل شيء حي؛ لقد مات قلبي، لكن كيف أنعيه؟ وكيف أقول أنني لم أعد أشعر؟

لن أعود إلى طفولتي المقهورة، التي قضيتها في جنوب لبنان، تحت أصوات الغارات وقذائف المدفعية، لن أتكلّم كثيرا عن زوايا الملاجئ المظلمة التي كنت أنزوي فيها خوفاً من المجهول الذي أعرفه، كان الكبار يتكلمون عن الحرب، وانا ابنة الثماني سنوات لا أعرف حقيقة معنى الحرب.

كنت نائمة كملاك يطير بين الغيوم، وكمعظم الأطفال كان نومي خفيفاً جداً، لكن في تلك الليلة لم أستيقظ، وعندما شقّ النور خيوطه من نوافذنا المكسورة، عرفت أنّها كانت ليلة صعبة، فقد قصفت إسرائيل الحقول القريبة وتطايرت الشظايا ولم تُصبني أياً منها.

في الصباح ذهبنا إلى الحقل المجاور، وجدت حفرة كبيرة بين نباتات الحمص الأخضر التي كنّا ننتظر نضوجها حتى ترافق جلسات السهر والسمر، اقتربت جدتي من الحفرة وحملت معها الجزء السفلي من القذيفة المنفجرة وأخذتها معنا إلى البيت، هناك زرعت فيها وردة جميلة واستقرّت القذيفة على درج جدتي.

أتكلم مع أختي التي تُصّور لنا كل شيء، تصرخ عند كل غارة “الله أكبر”، ترتجف يدها وتستمر بالتصوير، “هل رأيتم كم هي قريبة”؟

لا أعرف هل اعتادوا رؤية الموت، أم ملّوا من ألاعيبه السوداء، أراهم يستمرون بحياتهم الطبيعية، وكأنهم بمنأى عن هذا الشرّ كله.

***

كبرتُ وعشتُ محطات كثيرة حفرت في ذاكرتي جروحاً عميقة.

كان يوم عيد الفطر وكانت أمي في بيت أهلها في ضيعة جنوبية نائية اسمها يحمر في جنوب لبنان، وعدنا أبي بزيارتها وزيارة أسرة جدي، لبسنا أجمل ما لدينا، وركبنا سيارة الأجرة، وعندما وصلنا إلى حاجز “الجيش اللحدي” (نسبة إلى جيش كبير عملاء إسرائيل انطوان لحد) وصلنا إلى هناك، وركن السائق السيارة على اليمين، طلبوا منا النزول، وسألونا عن سبب زيارة البلدة، ولأنه غير ضروري بالنسبة إليهم، منعونا من الدخول، رجعت وأنا لا أتذكر سوى الشابة ذات الضفيرة السوداء الطويلة وبدلتها العسكرية وملامحها الصارمة، ومن بعدها لم أتذكر كم من الأيام انقضت من دون رؤية أمي.

ليس لديّ الكثير من الذكريات الواضحة ولكن وجعها ما زال محفوظاً حتى اليوم، كانت المدرسة قريبة من بيتنا، وفي طريق عودتي كنت أسمع صوت الطائرات الحربية، لأنطلق جاريةً راميةً خلفي حقيبتي ومتناسية أختي الأصغر مني، علّني أصل قبل وصول الغارة.

هكذا كانت حياتي. سباقٌ مع الموت، ودائماً كنت أسرع منه.

***

كعادتي في كل يوم، استيقظ فجراً أشرب قهوتي واستمتع بصمت الرحلة بين الليل والنهار، هذه اللحظات بالنسبة إليّ مقدّسة، أستغلّ فيها بعض وقتي الذي سيمتلىء بطلبات الأطفال والعائلة.. ولكن يومها ما حصل كان مرعباً.

منذ بدء الحرب على غزة والجنوب اللبناني، في خريف العام 2023، وأنا لستُ بخير. أنا ابنة الجنوب، أعرفُهُ جيداً، وأعرف أنه يدفع ما لا يطيقه من أرواح وجراح وممتلكات ولكن تربيت أيضاً على فكرة أنّ كل شيء يهون في سبيل فلسطين.

الغضب الذي ملأ حناجر الشعوب حول العالم تضامناً مع فلسطين، كان غضباً يُشعل قلوب الجنوبيين، وكانوا يقاومون بصمت ويألمون ويصمدون.

في بداية الحرب، جبِنتُ أن أذهب إلى الجنوب خوفاً من أصوات الصواريخ وجدار الصوت ولكن الرسائل التي كانت تصلني من أختي الثانية والتي تسكن قريبة من الحدود، واصرارها على الصمود جعلني أشعر بالذنب وألوم نفسي، هل حياتي أهم من حياتهم؟

تسأل سما ابنة أختي ذات الخمس سنوات، متى يا ماما يتوقف العدو عن قصفنا؟ تجيبها عندما يتوقف عن قصف غزة؟ ومتى سيتوقف عن قصف غزة؟ تقول أختي: لا نعرف يجب أن نتحمّل أكثر، تجيبها: لا أستطيع أن أتحمل أكثر، تسألها، هل أنت خائفة؟ لا لا لست خائفة لكن عندما يحصل الانفجار القوي (تقصد جدار الصوت) أرتجف وقدماي تسرحان يميناً وشمالاً.

تلك إبنة أختي الجميلة كسماء أيلول، أبكرت في عيش ما عشناه، بقسوة شديدة وعنف غير معهود.

***

بعد عدة أسابيع من اعلان “جبهة الإسناد” وانكفائي إلى بيتي البيروتي، اشتدّ بي الحنين، إلى بيتي الجنوبي، إلى جنتي، إلى شرفتي التي تطل على البحر والمدى المفتوح.

وفي رحلتي الأسبوعية إلى الجنوب أفكر بتلك النعمة التي صنعت التحرير في أيار/مايو الألفين. في ذلك اليوم، كنت في بلدتي الأولى، بلدة أهلي، وهي إحدى بلدات شمال نهر الليطاني. كانت الساعة الخامسة فجراً، سمعتُ ضجيجاً وتكبيرات، البعض دلف إلى السطح والبعض الآخر تجمّع أمام النوافذ، وأنا أراقب من الخلف، وإذ بقلعة الشقيف، أشهر قلاع الجنوب (احتلتها إسرائيل في العام 1982 لتسيطر من خلالها على مناطق واسعة من الجنوب) وإذ بها تنفجر، على دفعات متتالية. تلك الأصوات والأضواء كانت تكسر سكون النائمين ليستفيقوا على يوم جديد هو يوم التحرير.

في ذلك اليوم، جُنّ جنون الجنوبيين، لم يُصدقّوا ماذا حصل وانطلقت الحشود في السيارات والمركبات وسيراً على الأقدام، يكسرون بالحجارة البوابات والحواجز الحديدية ويقطعون بأياديهم الأسلاك الشائكة ويقتحمون البلدات المحتلة، واحدة تلو أخرى.

***

قبل نحو ثلاثة أسابيع تقريباً، كنت أضحك بشكل هستيري خلال سهرة جميلة وطويلة قضيتها مع زوجي وأمي، في الحقيقة لا أعرف السبب، كنت أبحث عن أي شيء يُضحكني، حتى لو كان تافهاً جدّا، ضحكت حتى نمت متعبة، وبين الرابعة والخامسة فجراً كنت أجلس في سريري وأفكر كيف مرّ يومنا ولم يرعبنا الصهاينة بجدار الصوت، ولكن سكوني لم يطل، سمعت أصوات الصواريخ تنهمر كالمطر، كانت غارات قريبة جداً، وبسرعة نهض زوجي مسرعاً إلى غرفة الأطفال التي تُطل على الوادي، ولم أستطع اللحاق به لعجز ركبتيّ عن الوقوف.

اجتمعنا في غرفة الدرج، نغلق آذاننا عن الأصوات المرعبة، وبين سقوط الصاروخ وانفجاره كانت تمر بعض الثواني، هذه الثواني تُلخّص حياتنا كاملة، وكلّما ينفجر صاروخ، انتظر الآخر، ولا أعرف أيّ واحد منها سيُحدّد مصيرنا وقدرنا.

لم أخَف هذه المرة، فأنا عشتُ حرب 2006، بأدق تفاصيلها. انتظرنا حتى الصباح وهرعنا إلى بيروت، بعدما تركت جنتي وذاكرتي وذكرياتي في أرض الجنوب.

بعد أسبوعين تقريباً نسيتُ ما عشته في تلك الليلة وعدتُ من جديد إلى بيتي الجبلي، جارتي المُسنّة وجاري المُقعَد، نباتاتي والدجاجات والقطط الجميلة على مدخل بيتي ومشاجرات أطفالي في الحديقة، وغروب الشمس وفنجان قهوتي، كُلُها تفاصيل تدفعني للذهاب من جديد إلى الجنوب، ورسائل أسرتي وأقاربي وأولاد عمومتي وعماتي وأصدقائي يسخرون مني لجبني، ويقولون لي ستعتادين.

في الحقيقة لم أعتد، وكنت لا أستوعب صراخ أولادي مع أولاد الجيران بعد كل خرق لجدار الصوت بينما يفرّ قلبي من مكانه مستغرقة برسم سيناريوهات المستقبل.

***

للمرة الثانية بعد أسبوع تقريباً، عُدنا إلى جوار الموت، الحنين إلى الجنوب، شعور غريب لا يمكن التعبير عنه بالكلمات، خوفاً من فقده مرة أخرى وكأننا دائماً بحاجة للإطمئنان عليه.

اتفقت مع زوجي أن نغادر إلى بيروت قبل حلول المساء، ولكنّنا لم ننتبه إلى الظلام الذي حلّ بنا، انهمرت الصواريخ كالأمطار، لم نستطع عدّها، ابنتي الصغيرة تطلب مني أن أقرأ لها بضع آيات قرآنية علّها تهدأ وأنا لا أستطيع أن أُهدّىء نفسي.

اليوم أنا في الحمرا برأس بيروت، أجلس على شرفة الفندق، وأنظر إلى أفواج الناس النازحة، لا أعرف من أين يأتون يحملون معهم ما قلّ وزنه، ظهورهم التي انحنت من هول ما عاشوه في الأيام الأخيرة لم تقوَ على حمل المزيد، حملوا حياتهم على أكتافهم وساروا. لا أعرف كم من الأيام مرّت، أصلاً لم أعد أكترث للوقت، لم يعد هناك معنى لشيء، أحتاج إلى أن أبكي ولا أبكي.


مايا ياغي - 180post





تعليقات: