أكثر من خمسين عامًا على مسرحيّة “جحا في القرى الأماميّة” لجلال خوري، تمثيل نبيه أبو الحسن، ولا يزال الصراع دائرًا في تلك القرى المواجهة للاحتلال الإسرائيليّ. لم تعرض أيّ مسرحيّة نخبويّة بنجاح جماهيريّ كما تلك المسرحيّة التي قدّمت جلال خوري واحدًا من صنّاع المسرح اللبنانيّ ونبيه أبو الحسن الذي انطلق من هذه المسرحيّة بشخصيّة وملامح الأخوت، والتي بنى عليها أعماله اللاحقة “أخوت شاناي”، “أخوت في الجبهة”، “أخوت حتّى الحرية” وغيرها من الأعمال التي كرّسته ممثّلًا مسرحيًّا ونجمًا تلفزيونيًّا في منتصف السبعينيّات.
أكثر من خمسين عامًا على مسرحيّة عرضت على مسرح “مهرجانات بعلبك” في شهريّ كانون الثاني (يناير) وشباط (فبراير) 1971، كتب جلال خوري في كتيّبها معرّفًا بشخصيّة جحا: “سنة 1283 مات في فونيا (تركيّا) المدعو نصر الدين خوجة، رجل ذو حكمة كبيرة دخل الأسطورة وهو حيّ لذكاء أجوبته وتصرّفاته، لم يكن على سبيل الصدف أن تبنّت الشعوب شخصيّة جحا، التي عُرفت بأسماء متعدّدة في مناطق متعدّدة”.
باختصار، إنّ جحا يعكس نوعيّة إنسان ذي وجهين: الصامد والغنيّ بطرافته وحسّه السليم. “جحا في القرى الأماميّة” لقاء هذه الشخصيّة الشعبيّة البسيطة مع واقع متأزّم لعالم عنيف مزوّد بوسائل قمع خبيثة.
تتحرّك شخصيّة “جحا” في أكثر المناطق تعقيدًا وهي منطقة الحدود الجنوبيّة، ويختار جلال خوري لجحا مهنة صنع المشاحر والفحم. تظهر المنطقة ميدانًا لنشاطات عدّة. مزارعو تبغ وفدائيّون مسموح لهم ظاهرًا في الجانب اللبنانيّ ودوريّات احتلال إسرائيلي على طول الحدود. لا ينسى خوري الإشارة إلى الأوضاع المزمنة في المنطقة كالإقطاع وأسعار التبغ وتوزيع رخص الزراعة وغيرها، فتبدو السلطة آنذاك في خلفيّات الحوار وهي تشدّ الخيوط وتقيم بعض التوازنات وتموّه بعض التنازلات والمفارقات.
ليش بعدو صامد؟
تتألّف المسرحيّة من مقدّمة تبرز الأحداث التاريخيّة الراهنة كما يقضي المسرح الملحميّ، تبرز المصالح الأميركيّة– الإسرائيليّة من جهة، والمصالح العربيّة بشكل عام، واللبنانيّة تحديدًا لتكشف خصوصيّة خطط دولتين ومنطقهما وبين السلوك الفرديّ الفطريّ لجحا.
كُتب في المقدّمة: ربيع 1970، مشروع روجرز، هكذا نرى الرئيس الأميركيّ نيكسون ورئيسة الوزراء الإسرائيليّة غولدا مائير في شكل دميتين في البيت الأبيض أمام خريطة للشرق الأوسط، يتكلّمان حول اقتسام الموارد من نفط ومياه قائلة: “مع الكبار بيمشي الحال بس الصغار شاغلين بالي، الإنسان العادي عقلو غامض لحد هلّق ما فهمت شو مصلحتو وليش بعدو صامد؟”.
بعد المقّدمة توزّعت أحداث المسرحيّة على سبعة مشاهد في قسمين، قسم أوّل يقع في الأراضي اللبنانيّة حيث الصراع مع الأجهزة الأمنيّة اللبنانيّة (المكتب الثاني آنذاك) وقسم ثانٍ في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة حيت يقع جحا معتقلًا في السجون الإسرائيليّة. يلعب جحا على بلاهته للتخلّص من الورطتين ويكشف جدليّة السذاجة والذكاء للصراع الداخليّ والخارجيّ للسلطة في السبعينيّات، كذلك ينقد الأفكار البائدة في مواجهة التطور العلميّ الذي يستخدم بخبث الدول وموازينها.
في إحدى ندواته عن شخصيّة جحا قال المسرحيّ جلال خوري: “حين كان جحا يقول (نعم) على الخشبة كان الجمهور يفهم (لا) وهو تفسير غير دقيق، إذ (نعم) جحا كانت تجيء متبوعة بما يفضح ويكشف بشكل عفويّ، وهو ما يدلّ على حسّ غريزيّ بمواضع الخلل والصواب. حوارات جحا مبنيّة على الانعطاف أو التعرُّج بحيث تفلت نتائجه من مقدّماته، فهو مذعن أو موافق في مقدّمة الكلام لكنّه في الشقّ التنفيذيّ ينقض مقدّمة كلامه.
الناقدة المسرحيّة خالدة السعيد كتبت في مؤلّفها “الحركة المسرحيّة في لبنان 1960-1975” أنّ الجمهور حوّل شخصيّة جحا إلى شخصيّة إيجابيّة وقد تجاوب مع ناحيتين في منطق جحا: الأولى هي أنّه كان يفضح الفساد دون أن يتعمّد ذلك، والثانية هي ثباته على ما اعتقده صحيحًا، فرفض الخيانة على رغم التعذيب.
فيما اعتبر جلال خوري أنّ شخصية جحا (ضدّ- بطل) هو بطل ناقص مثل كثير من أبطال الروايات بعد هزيمة 1967، إذ تراجعت صورة البطل الكامل وبدأت بالظهور صورة أبطال مجروحين ومتأزّمين يطرحون أسئلة حول أنفسهم وحول عالمهم ومسلّماته.
أكثر من خمسين عامًا على مسرحيّة “جحا”، وما زال جحا في القرى الأماميّة.
*المسرحيّة من إنتاج وكتابة وإخراج جلال خوري 1971. تمثيل: نبيه أبو الحسن، أحمد هاشم، صالح الأشمر، حسني موسى، منير غاوي، سهيل نعماني، سمير حداد، جورج قاصوف، فوزي بعلبكي، علي الخليل، سعاد طراف، مصباح تنير، جويل نوش، نزيه قطان. صمّم الديكور بّول غيراغوسيان، موسيقى غازي مكداشي، تصميم أقنعة عبد الحميد بعلبكي.
ربيع شامي - manateq.net
المخرج الراحل جلال خوري
من مسرحية “جحا في القرى الأمامية”
تعليقات: