شكلت موجة النزوح الإستثنائية التي شهدتها مختلف المناطق اللبنانية أحد أكبر المآسي الإنسانية (المدن)
شكلت موجة النزوح الاستثنائية التي شهدتها مختلف المناطق اللبنانية أحد أكبر المآسي الإنسانية، بعد استشهاد المدنيين العزل نتيجة للعدوان الإسرائيلي المتمدد الى مختلف النواحي. غير أن هذا النزوح أتاح للبنانيين بأن يكتشفوا طينة الـ"إنسانية" المتجذرة في جزء كبير منهم. فعززت مصيبة الحرب روح التضامن في المجتمعات وبين الأفراد، محطمة في بعض الأماكن الأفكار النمطية التي عمقتها الاصطفافات السياسية، والتي جعلت أجيالاً تكبر على توجس من الآخر والخوف من نواياه وبالتالي عدم التعرف إليه.
وعلى رغم محاولات بادية لـ"عسكرة" أنظمة بعض مراكز الإيواء في مواقع محدودة، غلبت إنسانية العلاقات، سواء على نُزلاء المراكز أو بينهم وبين الجوار. وتجلت هذه الإنسانية خصوصاً في المجتمعات المتنوعة سياسياً، بحيث بات الناس أكثر قبولاً لبعضهم البعض، فلم تعد المودة تجابه بحجبها من قبل المجتمعات المضيفة، ولا برفضها من قبل المجتمعات النازحة، خلافاً، في بعض الأحيان، لما ساد في الأيام الأولى للنزوح.
يُستخلص من جولة ميدانية مختزلة على بعض مراكز الإيواء، أننا دخلنا حالياً في حالة من تقبل الواقع وغلبة روح التضامن. ولكن التحديات تبقى قائمة، ويرافقها شعور الخوف من المستقبل وعدم اليقين الذي يلازم النازحين والمجتمعات المضيفة معاً. ومع ذلك تعكس قصص كثيرة قدرة اللبنانيين على التكيف مع المحن صغارا وكباراً، وإيجادهم الأمل في الإنسانية التي تجمعهم.
"من ترك داره بيقل مقداره"
يروي محمود أنه عندما ترك منزله في بلدة رياق في الأيام الأولى لتوسع العدوان الإسرائيلي على البقاع، كان يعلم أن "من ترك داره بيقل مقداره" كما يقول، ولكنه اضطر لأن يفعل ذلك، حتى يحمي عائلته ويحافظ على راتبه من عمله في الضاحية الجنوبية. استقر في أولى المدارس التي فتحت كمركز إيواء للنازحين بمدينة زحلة، مؤجلاً موعد زواج ابنته الذي كان مفترضاً في نهاية الأسبوع. ولكن ما لم يحسب له حساباً هو أن تنقلب ظروفه رأساً على عقب، فخسر عمله في الضاحية أولاً، وتعرضت إحدى ابنتيه لحادث اضطر على أثره لمعالجتها بما ادخره لعرس الثانية. كبر الحمل على أكتافه، وبدأ يشعر بأن الكون تآمر عليه، ولكن "الإلفة" التي جمعته بأصدقاء في مركز الإيواء "سهلت الأمور" كما يقول، فبقي ممتناً على نعمة جمعتِه مع عائلته وبقائهم جميعاً سالمين..
قصة الصداقة التي ولدت في أحلك الظروف بين فاطمة من رياق، زينب من علي النهري وآسيا من شمسطار، واحدة من تلك القصص التي تقول كل منهن أنها سترويها لأولادها، عندما تسأل عما قاسته خلال العدوان. تعرفت الآنسات الثلاث الى بعضهن في أحد مراكز الإيواء بزحلة، وعلى رغم تفاوت أعمارهن، تشاركن قصص "الحب" و"أخبار الحرب" ليصبحن من بعدها "أعز الأصدقاء". هذه المودة انعكست أيضاً على علاقتهن بالجوار، فتقول آسيا (29 سنة) "نحن كبرنا على فكرة أن الآخرين يكرهوننا، ولكننا لم نتلق من محيطنا سوى كل المحبة والاحترام والتعاطف مع ظروفنا. وأعتقد أن هذا الأمر سيتحول نقطة تحول في نظرتنا الى الآخر".
ترعى آسيا إبنة شقيقتها النازحة معها بينما تذهب الأخيرة الى عملها في أحد مصانع زحلة، وتنتظر في باقي ساعات النهار خطيبها المقيم في بيروت ليحدثها أو يأتي لزيارتها. ولذلك كانت ساعات النهار قاتلة بالنسبة لها بين أربعة حيطان، الى أن تعرفت الى أصدقاء جدد في المركز وخارجه، فبات الانتظار وسط الناس أسهل عليها.
التأقلم مع الواقع
إنقلبت حياة فاطمة في المقابل من التحضير لعرسها الذي كان مقررا قبل يومين من نزوحها الى إقامة في مركز إيواء. ولكنها وجدت عزاءها في زينب التي تشاركت معها الأحلام والطموحات، فتبادلا أرقام الهاتف حتى يحافظا على علاقتهما بعد مغادرة كل منهما الى بيتها، ومعها خرقت حواجز مركز الإيواء ليتعرفا أيضاً على محيطهما الذي باتا يكنا له "كل احترام". تقول فاطمة أن ما يجعلها تصمد هو أنها نازحة في بلدها، ولو غادرت لبنان كانت ستفقد الأمل، ولكنها الآن تتوقع كل يوم العودة الى البيت ما إن تعلن نهاية الحرب أو حتى ندخل في وقف لإطلاق النار، وكل ما تتمناه أن يبقى لها بيت في قريتها كي تدعو إليه أصدقاءها الجدد.
تبدي السيدات الثلاث قلقاً في المقابل عندما تتحدثن عن إحضار السجاد لفرشه في المركز، فذلك يبدو لهن بمثابة مؤشر لكون إقامتهن قد تمتد لأشهر الشتاء. ومع ذلك تقول زينب "أننا سنتأقلم مع الواقع"، متحدثة عما واجهه من قصدوا مراكز النزوح من ضيق جراء عدم القدرة على الاستحمام، إلى أن اكتشف بعضهم طريقة "لتسخين المياه على الطاقة الشمسية" فتبتسم السيدات الثلاث لفكرة وضع "غالونات" المياه تحت الشمس ليحصلن على المياه الدافئة.
الحمامات الجاهزة هي الحل
داخل المركز يبدو وصول الحمامات الجاهزة كمصدر فرج للكثير من النزلاء. إذ يبدو أن الحمام، ونزعة البعض للتسلط عليه، مشروع فتنة بين المقيمين في مراكز الإيواء، وهذا ما تتحدث عنه سيرمين، وهي ربة منزل وأم تحاول أن تحافظ على نظافة غرفتها حتى لا تصاب مع عائلتها بأي نوع من الأمراض. تقول سيرمين "خرجنا من بيوتنا قسراً، ولولا الخوف على أولادنا لما خطونا خطوة خارجها. وعليه فنحن في ضيق بالأساس، ولا نحتاج الى ما يتعب نفسيتنا." مؤشرة الى "أشخاص معتادون على التسلط في قراهم، ويتنمرون على من يقيمون في المركز، مع أننا جميعاً متساوون هنا، ولا أفضلية لأحد على آخر".
مبادرات لتنظيم الخلافات
تضع بعض مبادرات تنظيم "الخلافات" بين نزلاء المراكز، المبادرين إليها في موقع المسؤولية، بحيث وجد بعضهم مهمة يحاول أن يقتل بواسطتها الوقت الذي يبدو طويلا من دون عمل. إلا أن ذلك يحمل في طياته كما يقول البعض، الهواجس من أن يستغل هؤلاء المسؤوليات التي وكلوا بها ليتسلطوا بإسمها على من يتشاركون معهم المأساة. ومن هنا يعتبر البعض أن "ديوك مراكز الإيواء" غير مسموح بهم، لأنهم لا يسيئون فقط لعلاقتهم مع المحيط، إنما لعلاقة الناس الذين يتشاركون الغرف والحمامات معهم.
تقول إحدى السيدات "نحن لا نحتاج لمن يقودنا. قائدنا الوحيد استشهد في هذه الحرب، ولم يعد يهمنا أي أحد غيره" ولذلك تتمنى "أن يتم إعلان وقف الحرب الآن، ولنعد الى بيوتنا ونرى الى أين ستقودنا ظروفنا من بعد ذلك".
تعليقات: