«دابليو» وإرثه العربي

مشهد من فيلم «دابليو»
مشهد من فيلم «دابليو»


يحاول المخرج الأميركي أوليفر ستون في فيلمه الجديد «دابليو» أن يؤرّخ بالصورة لسيرة حياة جورج دابليو بوش وصعوده (وهبوطه). الفيلم، رغم قصوره، يبقى أكثر دقّة ممّا يحفل به بعض الصحافة العربيّة

أوليفر ستون مخرج مثيرٌ للجدل في هذه البلاد، وقد انخفضت مصداقيّته عبر السنوات، لأنه ينزعُ إلى المبالغة والاختلاق والتخيّل التاريخي. فيلمه عن اغتيال جون كينيدي أزعجَ المؤرخين (والمؤرّخات)، لأنه لم يعتمد على براهين وأسانيد لكنّه يُطوِّع التاريخ ليتوافق مع انعطافاتِه الأيديولوجية وأهوائه السياسيّة. وستون الذي خدم في حرب فيتنام، تحوّل باتجاه يساري عبر السنوات، وقد أسهمت أفلامه في نقد السياسة الخارجيّة الأميركيّة ونقد توحّش الرأسماليّة في فيلمه «وول ستريت». لا يمكن الركون إلى أفلام لدراسة التاريخ، لأن الهدف هو في أساسه تجاري: التسلية (والهوى) أهم من الوقائع، مثل أفلام «أل.بي.سي» «الوثائقيّة».

يظلّ فيلم ستون «دابليو» أفضل وأكثر دقّة من تحليلات عن أميركا نقرأها في الصحافة العربيّة. الأقلام الموالية للممانعة تتعامل مع باراك أوباما كأنّه محمد علي كلاي آخر، أي أنه جاء من أجل عزّة الأمّة ونصرة مجاهديها. يتصوّرُ بعضُهم أنّ رحيل بوش كفيل بوأد الإمبراطوريّة الأميركيّة وطمرها في التراب إلى غير رجعة. يتصوّر بعض هؤلاء أن رحيل بوش سيُلحق الإدارة الأميركيّة بحزب فايز شكر. أما في المقلب الآخر في فريق «من يحسب أن ماله خلّده» فحدِّث بكثير من الحرج (لهم). يساري سابق في نشرة «المستقبل السلفي» يحاول أن يصوّبَ رأي العامة في أمر السياسة الأميركية، وهو يفهم السياسة الأميركية كما يفهم سعد الحريري فلسفة هيغل. إذ إنه يقول إن انخفاض شعبيّة بوش إلى نسبة تقل عن 27% في بعض الاستطلاعات (وهي أقلّ من ذلك في بعض الاستطلاعات) أمرٌ اعتيادي في التاريخ الأميركي، مع أن التحليل السياسي الأميركي يركّزُ على هذا الانخفاض كعلامة فارقة في التاريخ الأميركي المعاصر، وكظاهرة لم تُسجّل منذ فضيحة ووترغيت، أو من أيام هاري ترومان من قبل. لا غرابة. فصاحبُكم يجد صعوبة في تقبّل الحقيقة: أن نبيّهم بوش الذي كان على وشك تحريرهم لو أن حروبه نجحت في أهدافها، سيودّعهم بعد أسابيع إلى غير رجعة. تعثّرت حروب بوش وتبخّرت أحلامهم. ينازعهم حنين لسنوات بوش الأولى حين كانت تهديداته تخيف أعداء أميركا في الشرق الأوسط. أقلام حاشية آل الحريري تظنّ أن الشغل الشاغل للرئيس المقبل في أميركا سيكون كشف «الحقيقة» وقلب النظام في سوريا وتركيب أكثريّة نيابيّة لعيون الشيخ سعد.

يروي الفيلم سيرة بوش من عهد اليفاع إلى سنوات البيت الأبيض. حاول ستون أن يخفّف من تظهيره السياسي الذي طغى على أفلام سابقة له، مثل فيلمه عن نيكسون الذي أظهر الأخير سكراناً مترنّحاً من دون توقّف. أراد ستون أن يحظى فيلمه بنجاح تجاري، وكان له ما أراد. الفيلم ليس نقديّاً كما كُتب في بعض الصحافة العربيّة عنه. خيّب آمال منتقدي بوش في هذه البلاد.

وكانت الصالة ممتلئة في الأسبوع الثاني من عرض الفيلم هنا في كاليفورنيا. الحضور في مدينة جامعيّة ذات هوى يساري كان ساخراً من بوش ويسارع للضحك من عثراته ومن تخبّطاته. يبدو ستون مُضحكاً عندما يحاول سبر غور نفسيّة بوش عبر التحليل النفسي الابتدائي. وستون في التحليل النفسي مثل شوقي عازوري الذي يجود بنظريّات 14 آذار تحت مسمى التحليل النفسي، والذي ينغّصُ على فرويد رقاده في القبر. يحاول ستون أن يعزو كل سلوك بوش وشخصيّته إلى علاقة صراع وتنافس مع والده. ووالد بوش يظهر في الفيلم كملاك في حقل السياسة. كان جورج بوش الأب كامل الأوصاف في فيلم ستون. فهو يعتمدُ على مبادئ لا يحيد عنها، كما جاء في الفيلم. طبعاً الحقيقة مختلفة. فالرجل كان خالياً من المبدئيّة وكان مستعدّاً لتغيير مواقفه السياسيّة والأخلاقيّة لكسب أصوات الناخبين. كان مناصراً لحق الإجهاض، مثلاً، قبل أن يكتشف صوابيّة معارضة الإجهاض عندما تعزّزت طموحاتُه الانتخابيّة. المعلّق المُحافظ، جورج ويل، وصفه يوماً بأنه أقل مبدئية من رجال السياسة الذين مرّوا على البلاد. الفيلم لم يتطرّق إلى هذا الجانب من شخصيّة بوش الأب. ولم يتطرّق إلى ممالأة بوش الأب للعنصريّين ضد السود في ولاية تكساس في الستينات عندما شغل منصب عضو في الكونغرس. وبوش الأب انتقل من عضو في فريق المعتدلين الذين سيطروا في الستينات وأوائل السبعينات على الحزب الجمهوري في الشرق الشمالي من الولايات المتحدة إلى مدّعي مناصرة المحافظين المتطرّفين في الجناح الديني داخل الحزب الجمهوري الذي تغيّر بعد ثورة ريغان في الثمانينات. الفيلم لم يتطرّق إلى أي من ذلك واتخذ موقف مناصرة الأب في صراع مُفتَرض مع الابن. وكعادته، يختلق ستون ما يُناسبُه من أحداث، حصلت أو لم تحصل، إذ يحقّ للمُخرج ما لا يحق للمؤرّخ.

أرسلوا قردة من أجلكَ يا بوش

ويأخذك الفيلم إلى سيرة الصعود المذهل للابن بوش. العائلة لم تكن تعوّل عليه: لا في السياسة ولا في الأعمال. كان مثال «الواد الصايع» كما يقول الإخوة في مصر. لا يثبتُ في عمل ولا يستقرُّ في مشروع. المؤرّخ الأميركي الأسود، كورنيل وست، قال عنه مبكراً: لو لم يولد لعائلة بوش، لكان جورج دابليو يدير دكاناً صغيراً في بلدة صغيرة في تكساس. لكن هذه البلاد تقيم شأناً عظيماً للمراتب والعائلات والثروات والطبقات. حتى فكرة الضريبة على الميراث لا تحظى بتأييد هنا، وقد سمّاها الجمهوريّون «ضريبة الموت» من أجل إقناع الناخبين والناخبات بضرورة إلغائها. وعائلة بوش كانت ترى أن جيب بوش (شقيق دابليو الذي شغل منصب محافظ ولاية فلوريدا والذي يُمكن أن يُعدّ أكثر من عمل على تقديم الرئاسة كيفما اتفق إلى شقيقه عام 2000) هو الذي سيرث اسم العائلة في الحقل السياسي. برع جيب في الدراسة كما برع في دراسة السياسة العامة والقوانين الانتخابيّة في ولاية فلوريدا. لكن نزق دابليو وغرور من يولد في عائلة أرستقراطيّة تغلّب على الصعاب. و«الواد الصايع» تقدّم في الحقل السياسي وبسرعة قياسيّة.

في الأربعين امتنع دابليو عن شرب الخمرة بعد معاقرة استمرت عقوداً، تغيّر واكتشف كما يكتشف الملايين في هذه البلاد «نوبة الدين»، كما كان عبد الناصر يسمّيها للإشارة إلى اللحظات الدينيّة التي كان الملك الأردني يكتشفها لغايات محاربة اليسار والقوميّة العربيّة أثناء الحرب الباردة. ويروي الفيلم ما لا يعرفه كثيرون من المواطنين والمواطنات هنا: أن بوش خاض معركة لعضويّة مجلس النواب من تكساس قبل أن يبلغ الثلاثين. وتروي كتبُ سيره أنه عندما سُئل عن قدرته على جمع أموال الحملة الانتخابيّة أجاب أن الأمر سهل جداً. قال إنه أرسل طلبات مكتوبة إلى قائمة مُتلقّي بطاقات المعايدة من والديه، فانهمرت الأموال عليه من كل حدب وصوب. لكن بوش الصغير لم يكن يستعين بفريق من المُتخصّصين في ما يُسمّى هنا «الألاعيب القذرة» داخل الحزب الجمهوري. خصمه فاز عليه عبر تعيير نخبويّته وانعدام مظاهر مسيحيّته. كانت الصدمة كبيرة عليه. استمر دابليو في حياة من الضياع والبحث عن الذات، كما سمّاها أنور السادات الذي لا يبدو أنه عثر عليها في الحياة، وإن كان من المُمكن أن يكون قد عثر عليها في الممات.

لا شك في أن بوش يتمتّع ببريق ما في الشخصيّة، وإن كنّا نحن العرب لا نراه. فهو يحتكّ بالناخب بصورة شخصيّة غير مدّعية في الظاهر. ولا يمكن التقليل من عامل الشخصية في عصر الانتخاب التلفزيوني. لو كانت شخصيّة آل غور أو جون كيري أكثر جاذبيّةً لكان الشعب هنا أكثر ميلاً نحوهما في انتخابات 2000 و2004، لأن نظام الانتخاب الرئاسي هنا يشجّع على الشخصانيّة. يعرف بوش كيف يتعامل مع الشخص العادي، والناخب (والناخبة) هنا غيرهما في أوروبا. النزعة المعادية للنخبة الثقافيّة قويّة جداً. أحياناً يتساءل أجانب هنا عن طبيعة الشعب الأميركي: كيف يمكن مواطنين في إمبراطوريّة عالميّة أن يقبلوا برئيس محدود الذكاء والمواهب. الجواب بسيط. نقطة الضعف عنده هي مكمن نقطة القوة. في مناظراته مع آل غور، كان بوش يرفض الإجابة عندما يكون الموضوع مُعقّداً، وكان يضيف أن المواضيع المعقدة والمتشعّبة هي من اختصاص محترفي السياسة لا من اختصاصه. أُعجب المشاهد بهذا الجواب. ينجذب الناخب هنا نحو المُرشّح الذي يُشعِره بأنه مثله، وليس أرفع منه مرتبة. كان الأمر مختلفاً مع غور ومع كيري. الاثنان بالغا في تقدير ذكائهما، وفي الاستهانة بخصمهما، كما أنهما ثقيلا الظل في نظر الناخب (والناخبة). لا ينعم الجميع بظرف قاسم هاشم أو غنوة جلّول.

يركّز الفيلم على دور كارل روف، الذي أدار حملات بوش الانتخابية، من أجل موقع المحافظ في تكساس في البداية، ثم الرئاسة مرتين. وهناك سيرة لكار روف بعنوان «عقل بوش». ولم يذكر الفيلم ما يرد في السيرة المكتوبة عنه: أنه تدرّب على يد «لي أتواتر» الذي كان من أبرع مدبّري الحملات الانتخابيّة القذرة، والذي لا يتورّع عن استعمال الرموز الكوديّة العنصريّة (كما يستعين فريق الحريري في لبنان بالرموز الكوديّة الطائفيّة والمذهبيّة) ضد الخصوم الديموقراطيّين. يمكن أن نعزو فوز بوش الأب في انتخابات 1988 إلى إعلان سياسي عنصري أعدّه «أتواتر» ضد المرشّح الديموقراطي يومها، مايكل دوكاكس. وقبل أن يموت «أتواتر» بداء السرطان اعتذر من «دوكاكس» عن فعلته الشنيعة تلك. واستعان روف بخبرته من تجربة العمل تحت إدارة «أتواتر» ليكرّسها في انتخابات قاسية ضد كل من نازل بوش في حلبة الانتخابات الرئاسيّة.

لكن الفيلم يتعثّر عند التطرّق إلى رئاسة بوش. المعايير التجاريّة طغت. المراجعات العربية افترضت خطأً أن الفيلم حاكم بوش على أفعاله وحروبه. لم يفعل الفيلم ذلك. أضفى مسحةً مثاليّة على والده الذي هو أيضاً غزا منطقتنا العربيّة وفرض شروط مدريد المهينة (التي رقص على وقعِها النظامان اللبناني والسوري) على كل الحكومات العربيّة.

والفيلم، مثل الصحافة الديموقراطية الهوى هنا، يرى أن فشل حرب العراق هو فشل في التحضير والتخطيط، لا في الأخلاق والقانون الدولي. نقد الحرب الديموقراطي هو نقد مُلطّف ويستفيض في إضفاء عنصر البطولة على تلك القوات الأميركية المُحتلّة في العراق التي عاثت في أرضه فساداً ودماراً. والفيلم، مثل كتاب بوب ودوورد السابق عن إدارة بوش، يتضمّن الكثير من المديح لشخص كولن باول، مع أن الأخير هو الذي باع الحرب الأميركيّة على العراق من الشعب الأميركي عبر خطابه في مجلس الأمن. وباول لم يستقل ولم يسر في خيار معارضة الحرب. وهناك قول معروف لوزير الخارجية الأميركي الأسبق جيمس بيكر يقول فيه إن باول كان الرجل الوحيد الذي كان قادراً ـــ لو أراد ـــ أن يمنع الحرب. لم يمنع الحرب، وانتقاداته للحرب تقلّصت تحت وقع ضرب الحذاء بالأرض تحيةً لدابليو. والفيلم يستعين بحوارات صحافية منشورة في كتب مع بوش ليجعل منها مادة لسيناريو حوار داخلي في المكتب البيضاوي. لكن الدقة والأمانة التاريخيّة ليستا من سمات أفلام ستون.

يحتاج بوش إلى دراسة وافية. يقول بخفّة إنه لا يكترث لحكم التاريخ، لأن الحكم لن يصدر قبل وفاته. لا يزال يجاهر بعناد أن التاريخ سينصفه. يعدّد سكان العراق وأفغانستان (كما كان يفعل وليد جنبلاط قبل أن يتحوّل في أحد تحوّلاته التي لا تنتهي) وكأنهم جزء من رصيده. يتحدّث عن تحرير الشعوب، كما يتحدث زعيم كوريا الشمالية عن الديموقراطية، وكما يتحدّث حزب البعث بشراذمه عن الوحدة العربيّة. لكن الفيلم غفل الشق العربي من سيرة بوش. حتى حياة أهل العراق وأفغانستان ليست بذات بال. العرب كومبارس في الأفلام الأميركيّة، حتى اليساريّة منها. نتذكر كيف صُوِّر العرب في فيلم «لورانس الجزيرة العربية».

لكن إرث بوش في العالم العربي سيكون عميق الأثر. سيؤَرَّخ لحقبة ما قبل بوش وما بعدها. تغيّر العالم العربي والنظام العربي الرسمي تحت ريادته. سيحفر التاريخ صور الأمراء والملوك في السلالات النفطيّة الموروثة وهم يهزّون أردافهم أمام بوش للترفيه عن نفسه. سيحفر التاريخ تفاصيل عن استضافة حكام العرب لجيوش الاستعمار الأميركي المُتجدّد. سيحفر التاريخ أن ملوك العرب وأمراءهم أنشأوا القواعد العسكريّة لاستضافة قوات الاحتلال الأميركي. عصر بوش بليغ في دلالاته. كانت الولايات المتحدة تشكو في الثمانينات من خَفَر الحكومات العربيّة الموالية وترددها. كانت تقول إنهم يريدون السفن والأساطيل الأميركيّة إنما على مسافة من وراء الأفق. لم يعد هناك أفق. حتى تلك البيانات العربيّة الرسميّة المملّة عن تحرير فلسطين وعن الوحدة العربية وعن الهمّ القومي أصبحت ممنوعة. الكل دخل في الحظيرة، والذي لم يدخل يسعى بجهد للدخول. كان الاستشراق التقليدي يقول إن العرب لا يفهمون إلا لغة القوّة. تلك كانت نصيحة استشراق إدارة بوش (من فم برنارد لويس وفؤاد عجمي) قبل غزو العراق. النصيحة كانت مسؤولة عن العنجهيّة والاستعلاء والتبجّح التي وسمت لغة بوش قبل غزو العراق، وبعده بقليل. كان واثقاً من أن الاحتلال الأميركي سيُهلّل له. لو قرأ ما كتبته الفيلسوفة حنة أرندت في أوائل الخمسينات لربما كان اتعظ. المُفكّرة الصهيونيّة حذّرت الصهاينة من وقوعهم تحت تأثير مقولة «العرب لا يفهمون إلا لغة القوة». أرندت قالت إن من الجليّ أن اللغة التي لا يفهمها العرب هي لغة القوة، رغم شائعات ومقولات معاكسة. لكن أرندت نسيت أن تضيف أن لغة القوّة مفهومة جداً عند الحكام، وإن كانت غير مفهومة عند الشعوب.

تنظر إلى تعاطي العالم العربي مع ظاهرة بوش وحروبه على امتداد السنوات الماضية، فتجد أن الدلائل، بما فيها استطلاعات رأي قامت بها شركات أميركية، تجمع على رفض الشعب العربي لبوش وعقيدته. لكن الحكام ارتاعوا من عقيدة بوش. منذ أحداث 11 أيلول، تعاملت الإدارة الأميركية مع رؤساء الدول العربية وملوكها ووزرائها كما يتعامل ناظر المدرسة مع تلاميذ المدرسة الابتدائية. بدأت طريقة التعاطي الجديد بعد أيام فقط من تفجيرات أيلول. أوردت صحف وكتب ما جرى في لقاء شهير (استفسرتُ من سفيريْن عربيّيْن عن فحوى اللقاء) في وزارة الخارجية الأميركية. استدعى كولن باول كل السفراء العرب إلى وزارة الخارجية وتلا عليهم بحزم وبلغة يشوبها التهديد ـــ المُهذّب طبعاً ـــ فرمان أوامر جديدة، وأبلغهم أن حقبة جديدة تنتظرهم. تلا عليهم أوامر، وانهمكوا بتدوين الأوامر. هرعوا بعد الاجتماع لمراسلة حكوماتهم حتى لا يتأخّر تنفيذ الأوامر. سقطت شعارات (حكوميّة ورسميّة) عن الاستقلال والسيادة وعن فلسطين. حتى طلبات تؤدّي إلى تولّي وزارة الخزانة الأميركيّة أمر فريضة الزكاة لُبِّيت. هناك من تحدّث في الإعلام الأميركي عن «تعديل» ترغبه أميركا في النصوص القرآنية. هؤلاء الحكام فعلوا المستحيل، ووالاهم مثقّفو الإعلام الوهّابي. حازم صاغية دعا في محاضرة له في الذراع الفكرية للّوبي الصهيوني (حيث دعا جنبلاط أميركا إلى إرسال سيارات مفخّخة إلى دمشق، لكن حزب الله اعتبر الأمر مزحة مهضومة فقبّله محمد رعد على وجنتيه مسامحةً) جميع العرب إلى «تشرّب» عقيدة بوش في الديموقراطية.

انتهى عهد بوش. كيف نعرف ذلك؟ من متابعة الإعلام السعودي طبعاً. لا نحتاج إلى روزنامة. عندما تقرأ أقلاماً في صحف الأمراء تنتقد بوش، تعلم أن عهده انتهى. هؤلاء لم يجرؤوا على انتقاده من قبل، لا بل إنهم هلّلوا له ونشروا المقالات الطوال عن فضائل عبد الستار أبو ريشة ومحمد دحلان وفؤاد السنيورة وحامد كرزاي تكريماً له. طبعاً، يخطئ من يظنّ أن العهد الأميركي المُقبل سيكون أقل إيلاماً من بوش. لكنّ هناك فارقاً كبيراً. عناصر القوة في الإمبراطوريّة الأميركية تتناقص، ورغبات الشرّ في الإدارة الأميركيّة مهما كانت، سترتطم بحائط إسمنتي من إرث الفشل والتخبّط الأميركي الذي تركه بوش، إضافة إلى أزمة مالية واقتصاديّة تلقي بظلال ثقيلة على النظام السياسي والثقافة السياسية هنا. سينعم حلفاء أميركا ببيانات تأييد ودعم وهيام بالشيخ شخبوط، لكن الذراع الأميركيّة ستقصر، والانكفاء، المحدود، سيحكم طبيعة التعاطي الأميركي مع منطقة الشرق الأوسط. وليس هذا سيناريو للارتياح، لأن ترجمة الانكفاء الأميركي النسبي ـــ وهو يحتاج إلى سنوات من التبلور ـــ سيعزّز قدرة العدوّ الإسرائلي على الضرب والغيّ والاجتياح حتى ولو تلقّى نتانياهو وليفني دعوة لمشاهدة رقصة العرضة في مهرجان الجنادريّة المُقبل.

لم يفِ فيلم ستون بالغرض. سنحتاج إلى فيلم جديد وكتب جديدة لتؤرخ لتلك المرحلة المُظلمة والظالمة من التاريخ الإنساني. ونحتاج إلى تأريخ عربي عاجل لمرحلة بوش، ولكن من المشكوك فيه أن يسمح طغيان السيطرة السعودية على وسائل الإعلام والنشر بتغطية وافية وكافية وشافية. الرقيب الملكي لن يسمح إلا بالعموميّات، والدور العربي الرسمي المُساند لعقيدة بوش يحتاج إلى حريّة إعلاميّة للحديث عنه. بعض فصول التعاون العربي مع المُحتل والغازي الأميركي يتضمن فصولاً كوميديّة. نقرأ أن الملك المغربي سعى لدعم حرب بوش في العراق من دون أن يشعر سكّانه بالأمر. أرسل قردة ـــ قردة يا محسنين ومحسنات ـــ إلى القيادة الوسطى الأميركية لمساعدتها في اكتشاف الألغام. هذا الذي يتكنّى بلقب «أمير المؤمنين» (مع أن الملك الحسن الثاني منع كتاب جون ووتربري، رئيس الجامعة الأميركيّة السابق في بيروت، عن المغرب بعنوان «أمير المؤمنين» لما رآه من تهكّم على شرعيّته المُفترضة) فعل المستحيل لإسعاد بوش مثله مثل ملوك العرب وأمرائهم ورؤسائهم. أرسلوا قردة من أجلكَ يا بوش. أما في لبنان، فلن ننسى مشهد زيارة السنيورة المظفّرة، ومشهد تربيت بوش كتف السنيورة. لم نذكر أننا شاهدنا السنيورة منتشياً قبل ذلك المشهد أو بعده. وحكام العرب يتكيّفون بسرعة. العرب الذين رقصوا بالسيف ترحيباً ببوش سيرحبّون بخلفه، ولو كان قرداً.

ملاحظة: كُتبت هذه المقالة قبل صدور نتائج الانتخابات الأميركيّة.

* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا

تعليقات: