“منذ مغادرة منزلي وانتقالي إلى منطقة أكثر أمنًا، أعتمد بشكل أساس على المبالغ التي يرسلها لي ابني المغترب في دبي نهاية كلّ شهر”. هذا ما قالته مريم عبّاس (56 سنة)، النازحة من الضاحية الجنوبيّة لبيروت، لـ”مناطق نت”. ما قالته مريم ليس سوى عيّنة عمّا يقوم به المغتربون اللبنانيّون المنتشرون في كلّ بقاع العالم من دعم لذويهم في لبنان، في ظلّ عدوان إسرائيليّ قاسٍ يتعرّضون له منذ سنة ونحو شهرين، وازدادت شراسته منذ الـ 23 من أيلول (سبتمبر) الماضي ولا تزال.
واقع النزوح المرير دفع بالمواطنين إلى الاستعانة بذويهم في بلاد الاغتراب بغية تأمين الحدّ الأدنى من مقوّمات الحياة، فالنزوح زاد من الأعباء الماليّة المُترتّبة على الناس التي خرجت من منازلها تبحث عن أماكن آمنة تلجأ إليها. تشير مريم إلى أنها اضطرّت “إلى استئجار غرفتين مقابل 300 دولار شهريًّا، فضلًا عن مصاريف الحياة اليوميّة من موادّ غذائيّة وغيرها، فكلّ ذلك يُثقل كاهلنا في ظلّ عدم توافر الإعانات الغذائيّة بشكل دوريّ وكافٍ”.
لا يقتصر الأمر عند هذا الحدّ، فقد اضطرّت مريم، على غرار السواد الأعظم من النازحين، إلى شراء كلّ احتياجاتها من جديد، من ملابس إلى مستلزمات الطبخ وغيرها، لأنهّا تركت وراءها كلّ ما تملك. أمام هذا الواقع، لم يبخل ابنها على القيام بقصارى جهده لدعمها، إلّا أنّ الظروف الاقتصاديّة جعلت من الصعب عليه إرسال مبالغ أكبر، وهذا ما ضاعف الضغوط الماليّة عليه وعليها. وبسبب هذه التحدّيات، لم تجد مريم خيارًا سوى المغادرة إلى العراق، حيث توجد جهات تقدّم مساعدات مادّيّة وتوفّر المسكن، ممّا ساعدها في توفير حياة كريمة، لكن هذا الأمر كلّفها الخروج من بلدها.
استنزاف للاقتصاد وتعطيل للحياة
انعكس العدوان الإسرائيليّ على لبنان استنزافًا للاقتصاد، الذي يواجه منذ سنوات عدّة أزمات عدّة وبنيويّة. فالوضع الماليّ والنقديّ في البلاد لم يكن في أفضل حال، لتأتي الحرب وتضع المواطنين، الذين خسر جزء كبير منهم مدّخراته بفعل الأزمة المصرفيّة، في موقف صعب ومُعقّد.
لا شك في أنّ إحدى أبرز إفرازات الحرب الإسرائيليّة هو تعطّل مختلف مناحي الحياة لأكثر من مليون و400 ألف لبنانيّ اضطرّوا إلى النزوح نحو مناطق يعتبرونها آمنة. هذا الأمر، فرض عليهم كلفّا إضافيّة في ظلّ تناقص أو افتقارهم إلى مدخول شهريّ نتيجة خسارتهم لأعمالهم ومصادر دخلهم، باستثناء بعض موظّفي القطاع العام ممّن لم تكن رواتبهم تتناسب مع متطلبّات الحياة أساسًا.
النزوح كِلَفٌ مضاعفة
بالعودة إلى قصّة مريم وهي حكاية ليست يتيمة، بل تتشابه إلى حدّ بعيد، مع قصّة جميل أحمد، ربّ عائلة مكوّنة من خمسة أفراد نزحوا من منزلهم في الجنوب بعد توسّع الأعمال العسكريّة في الـ 23 من أيلول الماضي، إذ يعتمد في مدخوله بشكل أساس على “المبالغ التي يرسلها لنا ابني المقيم في كندا شهريًّا، ولكنّها لا تكفي تأمين احتياجاتنا الأساسيّة للعيش بكرامة”، وفقًا لما قاله لـ “مناطق نت”.
إنّ نزوح أحمد مع عائلته إلى أحد مراكز الإيواء في ضهور الشوير، زاد من الصعوبات التي تواجهها العائلة بسبب “البرد القارس في هذه المنطقة الجبليّة، ومع ارتفاع كلفات التدفئة أصبح تأمين الدفء لعائلتي أمرًا صعبًا للغاية”. ويلفت أحمد إلى أنّه لا يملك الموارد اللازمة لتغطية هذه المصاريف “ونعاني كلّ يوم من تدنّي مستوى المعيشة والضغط النفسيّ في ظلّ هذه الظروف الصعبة”.
ما يزيد من الوضع سوءًا، هو نُدرة المساعدات التي تُقدمها الدولة للنازحين، فضلًا عن نقص في المعلومات المتوافرة حول آليّات توزيع المساعدات وكمّيّاتها والمستفيدين منها. وهذا ما جعل المساعدات الخارجيّة من المغتربين إلى عائلاتهم المنقذة شبه الوحيدة لانتشالهم من هذا الواقع المرير.
ما يزيد من الوضع سوءًا، هو نُدرة المساعدات التي تُقدمها الدولة للنازحين، فضلًا عن نقص في المعلومات المتوافرة حول آليّات توزيع المساعدات وكمّيّاتها والمستفيدين منها
نموذج الاغتراب الجنوبيّ
يتميّز الاغتراب الجنوبيّ عن غيره، أنّه أكثر تواصلًا مع وطنه الأم لبنان، ومع منطقته الجنوب، وهذا يتجلّى ليس بالزيارات الدوريّة التي يقومون بها فحسب، بل بدعم مستمر ومنتظم لأسرهم وأقاربهم، وأيضًا من خلال الدور التنمويّ الذي يتجلّى من خلال مشاريع الخدمات التي ينفّذونها في بلداتهم وقراهم، وتشكّل بمجموعها مظلّة أمان اجتماعيّة للجنوبيّين، وباتت تشكّل أحد المصادر الأساسيّة لصمودهم ونموّ مناطقهم.
هذا الارتباط يتمظهر أيضًا من خلال حجم الاستثمارات التي يقوم بها المغتربون الجنوبيّون في أرضهم، ولا سيّما لناحية شراء العقارات وبناء المنازل الفخمة، والزيارات الدائمة والمنتظمة، إذ يكاد لا يمرّ عام من دون أن يزور المغترب بلدته أو قريته بصرف النظر عن قدرته المادّيّة.
يعزو الجميع ارتباط المغتربين الجنوبيّين بأرضهم إلى كون الاغتراب الجنوبيّ في جزء كبير منه وبخاصّة قضاءي صور والنبطية هو اغتراب إلى أفريقيا وتحديدًا دول غربها، حيث يصعب الاندماج هناك، ممّا يؤدّي على بقاء صلة الوصل مع الوطن، فضلًا عن أن كثيرين من أبناء الجنوب يفضّلون إبقاء عائلاتهم في لبنان مع المحافظة على الزيارات المتبادلة كلّما سنحت الظروف.
زيادة التحويلات الخارجيّة
لا يُعدُّ مفاجئًا اعتماد النازحين في تدبُّر أمورهم على تحويلات ذويهم من الخارج، فلبنان في أيّام السلم والرخاء، تشكّل تحويلات المغتربين فيه حصّة وازنة من حجم الناتج المحلّيّ، ويعتمد عليها الاقتصاد في حركة النموّ. في هذا الإطار، يلفت المحلّل الاقتصادي، محمود جباعي، في حديث لـ “مناطق نت” إلى أنّ “نسبة التحويلات الماليّة من الخارج ارتفعت خلال الشهرين الماضيين بين 30 و40 في المئة، حيث وصلت إلى نحو 750 مليون دولار شهريًّا وفق التقديرات الاقتصاديّة، مقارنةً بـ 500 مليون دولار شهريًّا قبل اندلاع الحرب”.
يتميّز الاغتراب الجنوبيّ عن غيره، أنّه أكثر تواصلًا مع وطنه الأم لبنان، ومع منطقته الجنوب، وهذا يتجلّى ليس بالزيارات الدوريّة التي يقومون بها فحسب، بل بدعم مستمر ومنتظم لأسرهم وأقاربهم
إلّا أنّ هذه الأرقام تبّقى في إطار التقديرات، وقد تفوق حجم التحويلات الحقيقية ذلك بكثير، إذ إنّ جزءًا كبيرًا منها “يُستلم نقدًا بشكل مُباشر، ممّا يجعل تقدير حجمها الحقيقيّ أمرًا صعبًا”. ويُشير جباعي إلى أنّ “التحويلات الماليّة من المغتربين تسهم في تخفيف جزء من الأزمة، لكنّها لا تستطيع حلّها بالكامل”.
ويؤكّد جباعي أنّ “هناك غيابًا للبيانات الدقيقة المتعلّقة بالنازحين، ممّا يجعل من تحديد الكلف التي يتكبّدها هؤلاء سواء لناحية كلف المعيشة أو الإيجار أمرًا صعبًا للغاية”، مضيفًا أنّ “هناك مسؤوليّة تقع على عاتق البلدياّت لإجراء هذا الاحصاء للمساعدة في تقدير حجم المساعدات الغذائيّة والماليّة اللازمة”.
وعلى رغم ذلك، يلفت جباعي إلى أنّ بعض التقديرات تُفيد بأنّ “الإيجارات التي يتكبدها النازحون تُقدّر بنحو 300 مليون دولار شهريًّا، بينما تصل كلفة المعيشة إلى نحو 300 مليون دولار شهريًّا أيضًا، ممّا يجعل المجموع قرابة 600 مليون دولار شهريًّا”. ويوضح أنّ “الدولة والمصرف المركزي لا يستطيعان تغطية هذه الكلفات، إذ إنّها تتجاوز الإمكانات المتاحة”.
يجزم جباعي أنّ “الأزمة عميقة وتحتاج إلى تدخّل جادّ من الأحزاب اللبنانيّة، بالإضافة إلى دعم خارجي أكبر ممّا هو متوافر حاليًّا”. ويكشف أنّ “حوالي 80 في المئة من النازحين لا يتلقّون مساعدات، في حين أنّ عدد المستفيدين من المساعدات يُقدّر بنحو 250 ألف نازح، أيّ ما يعادل الـ 20 في المئة من المجموع”، موضحًا أنّ “هذا الأمر يضع عبئًا إضافيًّا على الأفراد ممّن فقدوا وظائفهم ومصادر دخلهم”. ويحذّر جباعي أخيرًا من “احتمال حدوث انفجار اجتماعيّ في ما يتعلّق بملف النازحين، إذا لم تنتهِ الحرب قريبًا”.
“يُنشر هذا التقرير/التحقيق/ التحقيق المصوّر بالتعاون مع المنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية DRI، ضمن مشروع الأصوات المستقلّة: دعم صناعة المحتوى المبتكر والمتمحور حول المواطنين والمواطنات في الإعلام اللبناني“.
المغتربون مصدر دعم أساسي للنازحين اللبنانيين في ظلّ الحرب
تعليقات: