لاجئون سوريون أثناء توجههم نحو معبر المصنع الحدوديّ بين لبنان وسوريا (Getty)
ح سقوط الأسد، وخصوصًا بعد تحقّقه من دون ثأرٍ أهليٍّ أو اشتباكٍ دمويّ منفلت -على غير المعهود- طاقة أملٍ عظيمة أمام الشعب السوريّ المُتشظّي في شتات الأرض، للعودة إلى وطنه، بعد سنواتٍ من التهجيرِ والنفيّ والاغتراب القسريّ. والحال أنّه، وعلى مدى أربع عشرة سنةً، وفي فضاءٍ هائلٍ من التعبئة العنصريّة والتحريض ضدّ اللاجئين السوريّين، ولا سيّما في البلدان المجاورة المُضيفة كتركيا ولبنان، والمصحوب بحملاتٍ أمنيّةٍ وإعلاميّةٍ وقانونيّةٍ ورسميّةٍ لطردهم وتهجيرهم، عادت إلى الواجهة دعواتٌ لبنانيّةٌ تُطالب بإعادة اللاجئين السوريّين فورًا إلى بلادهم، وذلك عقب إعلان سقوط النظام مباشرةً. وتزامنت هذه الدعوات اللبنانيّة مع قرار بعض الدول الأوروبيّة تجميد النظر في طلبات اللجوء الجديدة للسوريّين، على إيقاعِ جدلٍ سياسيٍّ وحقوقيٍّ حول استمرار انطباق صفة "لاجئ" عليهم .
في الشكل، وإن كانت هذه الدّعوات قد حُجِّمت وبَدت سطحيّةً أمام مشهديّة قوافل العائدين إلى سوريا، منذ اليوم الأوّل لسقوط النظام، فإنّها تُثير بعض التوجّس من انقلابها نحو حملاتٍ أمنيّةٍ مسعورة لترحيل مَن تبقّى من اللاجئين في لبنان، نظرًا لصعوبة عودتهم حاليًّا، وبحجة انتفاء ذريعة لجوئهم. وخصوصًا أنّ التجارب خلال السّنوات الماضية أظهرت أنّ السّلطات اللّبنانيّة غالبًا ما استغلّت الأزمات لترحيل اللاجئين قسرًا، من دون أيّ وازعٍ حقوقيٍّ أو قانونيٍّ أو إنسانيٍّ. وهذا ما يَطرحُ في المقابل تساؤلاتٍ حول مدى قانونيّة الإسراع بإعادتهم في الوقت الرّاهن، ومدى انسجام ذلك مع الالتزامات الدوليّة.
المسارعة للعودة واستحالتها
حتّى هذه اللحظة، وبحسب ما تشير إليه مصادر "المدن" في المفوّضيّة السّامية للأمم المتّحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR)، فإنّ نحو عشرة آلاف سوريّ سارعوا إلى العودة، خلال الأيّام العشرة الأخيرة، إلى سوريا (بحسب بيانات وزارة الشؤون الاجتماعيّة). وقد تواصلت "المدن" مع عددٍ من العائدين، لا سيّما أولئك الذين أقاموا سابقًا في منطقة البقاع، وهُجّروا من محافظاتٍ مثل حمص وأرياف دمشق.
في حديثه إلى "المدن"، يشير محمد أ.، اللاجئ السابق المُسجَّل لدى المفوضيّة، إلى أنّه سارع إلى العودة في اليوم الأوّل عقب سقوط النظام. ومحمد، الذي أقام في بلدة عرسال البقاعيّة سابقًا، يقول: "الأضرار الّتي طالت منزلي في القصير لم تكن جسيمة. إذ كان بيتي مُحتلًّا من قِبَل بعض الجماعات، فعُدتُ إليه مع أسرتي فور تحرير القصير. علمًا أنّ عددًا كبيرًا من الأشخاص الذين كانوا يقطنون معي في المخيّم عادوا ووجدوا بيوتهم مدمّرة، فاضطرّوا للإقامة عند أقربائهم. أمّا آخرون فكانت عودتهم مستحيلة، خصوصًا أولئك الذين ينتمون إلى مناطق شرق سوريا، حيث علموا أنّ بيوتهم مدمّرة بالكامل، فاضطرّوا إلى البقاء في عرسال حتّى الآن، بانتظار تدبير أمورهم".
أمّا فاطمة، وهي لاجئة تقيم في بيروت، فتقول لـ"المدن" إنّ "عودتنا في القريب العاجل غير ممكنة". وأضافت: "لحظة إعلان التّحرير كانت فرحتنا لا توصف، وقد عقدنا العزم على العودة إلى سوريا، لكننا في الحقيقة غير قادرين حاليًّا. فقد فقدنا كلّ شيء في الحرب الإسرائيليّة الأخيرة على لبنان، ومنزلنا في ريف دمشق مدمّرٌ بالكامل".
ومثل فاطمة، هناك آلافٌ اصطدموا بالواقع نفسه، واضطرّوا، مرغمين، إلى البقاء في حالة اللجوء. فالنزاع المسلّح في شرق سوريا لا يزال قائمًا حتّى اللحظة، فضلًا عن الآثار المدمّرة للحرب التي ألحقت دمارًا واسعًا بالبنية التحتيّة، وأدّت إلى إعادة توزيعٍ ديموغرافيٍّ للسكّان. وإلى جانب ذلك، لا تتوافر ظروف تضمن عودة آمنة وكريمة لرهطٍ واسع من اللاجئين إلى مناطقهم، خصوصًا في ظلّ تدهور الأوضاع الاقتصاديّة وانعدام الخدمات الأساسيّة كالتعليم والرعاية الصحيّة. وهذا ما يساهم في تردّد الكثيرين في العودة، حتّى مع الضغوط الممارسة عليهم في الدول المضيفة.
مراقبة المستجدّات
من جهتها، تشير مصادر في المفوضيّة إلى أن إحدى الحلول المفضلة لأي أزمة لجوء كانت دائمًا هي قدرة الناس على العودة إلى منازلهم بأمان وكرامة. وتُبدي المفوضية ارتياحها لرؤية أن هذا الأمر قد أصبح ممكنًا لبعض السّوريين. وأضافت المصادر بالقول: "تلتزم المفوضيّة بمساعدة العائدين على إعادة بناء حياتهم داخل سوريا. لكن لا يزال بعض اللاجئين متردّدين وحذرين، ويفضلون الانتظار ومراقبة تطور الأوضاع. لكلّ فردٍ الحقّ في العودة إلى وطنه، والمفوضيّة مستعدة لدعم اللاجئين السّوريين الذين يقررون طواعيةً العودة، بعد أن يكونوا على درايةٍ كاملة بالأوضاع في أماكن عودتهم أو في مناطق بديلة يختارونها".
وتؤكّد المصادر أنّه ومع تطور الوضع، ستواصل المفوضيّة مراقبة المستجدّات والتّواصل مع مجتمعات اللاجئين، ودعم الدول في أي عودةٍ طوعية منظّمة. قائلةً: "في لبنان وخارجه، نتابع التغيرات الجذريّة الّتي شهدتها سوريا في الأيام السّابقة، ونترقب تغيرات إيجابية واستقرارًا بعد سنوات طويلة من الحرب. ولا يزال سقوط النظام حدثًا جديدًا، وكما أشار وزير الشؤون الاجتماعية، هيكتور حجار، من المهم منح بعض الوقت لفهم الوضع بشكل أفضل، وضمانٍ عودة مستدامة وآمنة، مع الاعتراف بأن البعض قد قرر بالفعل العودة".
وتُشير المصادر بالقول: "نأمل بشدّةٍ أن تظهر بيئة مواتية تمكّن المزيد من الناس من اتخاذ قرارٍ مستنير بالعودة إلى سوريا، ونؤكد استعدادنا للمساعدة في هذه الجهود، وضمان تقديم الدعم للسوريين المحتاجين خلال هذه الفترة الانتقالية. مع الإشارة إلى وجود ثلاثة معابر حدودية رسمية مفتوحة، وهي: المصنع والقاع في البقاع، وعريضة في الشمال".
صفّة "اللاجئ"
وفي مقابل هذا الواقع المُعقّد والمتشابك، تنبثق تعقيداتٌ قانونيّةٌ جديدة، بيد أنّ عددًا من الحكومات، ومنها الحكومة اللبنانيّة، قد بدأ باعتبار أنّ ذريعة اللجوء انتفت مع سقوط الأسد. ومن الناحية القانونيّة، تؤكّد اتفاقية جنيف لعام 1951 ومبدأُ "عدم الإعادة القسريّة" أنّ الدول المُوقِّعة عليها مُلزَمةٌ بحماية طالبي اللجوء وضمان عدم إعادتهم قسرًا إلى دولٍ قد يواجهون فيها خطرًا على حياتهم أو حريّتهم، حتى وإن طرأَ تغيّرٌ في الأوضاع السّياسيّة أو الأمنيّة في بلدانهم. ويُعتَبر هذا المبدأ حجر الأساس في القانون الدوليّ الإنسانيّ لحماية اللاجئين.
ومع ذلك، تُنظّم الاتفاقيّة أيضًا الحالات التي يُمكن فيها إنهاء وضع اللاجئ تحت ما يعرف بـ"شرط التوقّف"، حيث يتيح للدول إلغاء الحماية الممنوحة عند زوال الظروف الّتي أدّت إلى طلب اللجوء، مثل انتهاء النزاع المسلّح أو تحقيق استقرارٍ سياسيٍّ واقتصاديٍّ في بلد الأصل.
في هذا السياق، تقول المحامية والخبيرة في القانون الدوليّ، ديالا شحادة، في حديثها إلى "المدن" إنّه "ينبغي على السّلطات اللبنانيّة أن تُنسّق وتعمل بتعاونٍ إيجابيّ مع الأمم المتّحدة والمفوضية السامية لشؤون اللاجئين فيما يتعلّق بأوضاع اللاجئين السوريين الموجودين في لبنان. والمطلوب من السّلطات الّلبنانيّة عقد اجتماعٍ فوريّ مع المفوضية السّامية لشؤون اللاجئين، وطلب المشورة في هذا الأمر، قبل الانزلاق إلى خطابات غير دقيقة وغير سليمة، قد تصل إلى مستوى الخطاب العنصري، كالخطابات المتكرّرة للوزير السابق جبران باسيل".
وتُضيف: "ننتظر من حكومة ميقاتي، وكذلك من النواب المعنيين، أن يتوجّهوا إلى المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، المرجع الأكثر حيادية، من أجل تطبيق القانون الدولي على حالة اللاجئين اليوم. ومع التأكيد على أنّه في حالات كثيرة، أسباب اللجوء القسري للاجئين السوريين في لبنان يُفترَض أن تكون قد انحسرت، إن لم تكن قد زالت، ينبغي تذكّر أنّ هناك مناطق في سوريا ما يزال النزاع المسلّح فيها قائمًا حتى اليوم، وخصوصًا في المناطق القريبة من الحدود مع تركيا. كما ينبغي تذكّر أنّ البيوت المُدمّرة لا يزال أصحابها من دون بديل حتى الآن. وليس لديّ إلا الأمل في أن تضع الحكومة السورية الانتقالية هذا الموضوع ضمن أولوياتها، لا سيما إذا قرّر المجتمع الدولي رفع العقوبات عن الحكومة السّوريّة، ومن ثمّ الانخراط في مرحلة إعادة الإعمار وتأمين العودة الآمنة للاجئين."
الإدارة السّوريّة الجديدة
سياسيًّا، ولمعرفة موقف الإدارة السّوريّة الانتقاليّة من ملف اللجوء السّوريّ في لبنان، اتصلت "المدن" بمصادرها في إدارة العمليات العسكريّة، وأشارت المصادر لكون موضوع اللجوء السّوريّ في الدول المُضيفة هو على رأس أولوياتها، قائلةً: "منذ أوّل يومٍ بعد التحرير، وجّهنا نداءً للسّوريين للعودة إلى بلادهم، ونحن نعي أن هناك صعوبات تواجه أعدادًا كبيرة منهم، وفي المرحلة الانتقاليّة نسعى لتحديد الأولويات، وتنظيم توزيع السكّان في مناطقهم وإيجاد بدائل سكنيّة للأشخاص الذين فقدوا منازلهم".
إذًا، تبدو مسألة عودة اللاجئين السوريّين من الخارج، وفي مقدّمهم أولئك المقيمون في لبنان، معقّدةً وحسّاسةً تتطلّب معالجة شاملة تتجاوز الخطابات الشعبويّة والحلول الآنيّة. فعلى الرغم من سقوط النظام وبدء مرحلة انتقاليّة جديدة، لا تزال تحدّيات عودة اللاجئين آمنة وكريمة ملحّة. تتداخل فيها عوامل قانونيّة دوليّة، وأخرى اجتماعيّة واقتصاديّة وأمنيّة، فضلًا عن الحاجة الماسّة لإعادة الإعمار وإيجاد بدائل سكنيّة، إلى جانب ضرورة ضمان توافر الخدمات الأساسيّة في مناطق العودة. وإزاء ذلك، تنبثق توصيات للحكومة السوريّة الانتقاليّة والمجتمع الدوليّ لاتخاذ خطواتٍ ملموسة لضمان عدم الانزلاق نحو سياساتٍ تمييزيّة ولاإنسانيّة، وتجنيب اللاجئين تكرار معاناة التهجير، وذلك عبر التنسيق الوثيق واستثمار الموارد الدوليّة في إعادة الإعمار وتأمين الاستقرار. وبذلك فقط، يمكن تحويل لحظة التحوّل السياسيّ في سوريا إلى فرصة حقيقيّة لإرساء مناخ يؤسّس لعودة آمنة ودائمة للسوريّين إلى أرضهم.
تعليقات: