النبطية.. العدو يثأر من حاضرة جبل عامل


المملكة الشقيفية، حاضرة جبل عامل، مدينة الحسين، وممر الفدائيين… تعددت الأسماء والمقصود واحد، إنها النبطية، الضاربة في التاريخ والعريقة بالثقافة والاجتماع والاقتصاد والعمارة، مدينة أكبر من حجمها، من أحيائها تخرّج رجالات أدب وثقافة وعلم ونضال ومقاومة.

ربما لهذه الأسباب مجتمعة، خصص العدو الإسرائيلي مقداراً كبيراً من حقده للنبطية في الحرب الأخيرة وترجم ذلك قصفاً بربرياً لمرافق مدنية وخدماتية وصحية وتجارية وتعليمية واجتماعية. مئات الصواريخ الثقيلة ألقتها الطائرات الإسرائيلية على الأحياء السكنية بلا أي سبب عسكري، مخلفةً مئات الشهداء والجرحى منهم 130 شهيداً من أبناء المدينة، جُلّهم مدنيون وأطفال ونساء، إضافة إلى عشرات الشهداء ممن آووا إليها أو من المقاومين الذين مروا بها.


ثأرٌ وانتقام

السوق الرئيسي في النبطية وشرياناه الحيويان لاقتصاد المدينة، شارعا حسن كامل الصباح ومحمود فقيه، الأول بطول 3 كلم والثاني 2 كلم، دُمرا بالكامل وسوُّي 700-800 محل ومتجر ومؤسسة بالأرض (نوفوتيه، أحذية، حلويات، مطاعم، مقاهٍ، خرضوات، صيدليات، عيادات، مكتبات، اتصالات، حلاقة...)، أما باقي محال المدينة، فقد لحقت بها أضرار جسيمة أكان من حيث البناء أم البضائع. تعمّدَ العدو تزخيم قصفه للنبطية ولم يوفر حياً أو بيتاً تراثياً أو مسجداً، لكن تدميره للشارعين كان انتقاماً لدور المدينة الحاضن لمحيطها تاريخياً لا سيّما إبّان الاحتلال ولجوء المهجّرين قسراً من قرى الشريط الحدودي المحتل للسكن والعيش فيها.

«خلال الأشهر الستة الأخيرة من الحرب (ما قبل 23 أيلول) فتحت أكثر من 300 مؤسسة وافدة من الجنوب فروعاً لها في النبطية، انتقل بها أصحابها من القرى الخطرة كون النبطية كانت ملاذاً آمناً لهم، فضلاً عن آلاف النازحين إليها، كان لهذه المؤسسات وكذلك للنازحين إسهام في دفع العجلة الاقتصادية والتجارية» يقول موسى شميساني رئيس جمعية تجار المدينة لـ«الأخبار».


على امتداد مساحة «سوق الإثنين» الشعبي، يتوزع الخراب وحلّ الركام مكان البسطات التي كانت تختلط فيها المأكولات بالملابس بالأنتيكا، «كان سوق الإثنين تقليداً نبطانياً بدأ قبل نحو 500 سنة، حيث جذبت عيون المياه المتدفقة آنذاك قوافل التجار ونشأت بينها تجارة المبادلة بادئ ذي بدء ليتحول المكان إلى تجمّع حضَري، ثم إلى أكبر حيٍ سكني حالياً (حي السراي)، الذي جذب باعة الجوار البعيد وفلاحيهم للتبسيط على رصيفه وعرض منتجاتهم لبيعها والعودة بالغلال إلى قراهم»، يشرح مؤرخ النبطية والباحث علي مزرعاني.

بلؤمٍ وبزنار من نار دمرت صواريخ الطائرات الإسرائيلية السوق القديم، بعبثية تتكوم حجارته الصخرية التي تعود للقرن التاسع عشر، حطام القناطر الصخرية يدمي القلب، كما حال البضائع المشلّعة تحت الغبار، الدمار اللاحق بوسط النبطية وسوقها التجاري لم يسبق أن شهدت مدينة دماراً يشبهه في كل الحروب الإسرائيلية، فهو قضى على مربع حيوي يتوسط قلب المدينة وحوّله إلى كتل إسمنتية محطمة. بديهي أنه لم يكن في السوق لا راجمات صواريخ للمقاومة ولا مخازن أسلحة، إذ إن هناك استحالة في إخفائها عن أعين آلاف المتسوقين الوافدين يومياً. الآن تعلو فوق أكوام الدمار صور السيد الشهيد حسن نصرالله وأعلام «حزب الله» وصور الرئيس نبيه بري، وكذلك عبارات طُلِيَتْ على الجدران المائلة «خيارنا المقاومة ونرفض المساومة» و«لن نترك الساح، ولن نترك السلاح».

هو إذن ثأر إسرائيلي قديم مع النبطية، مُنطَلَقِ عمليات المقاومة الوطنية والإسلامية نحو الشريط الحدودي المحتل قبل التحرير عام 2000، والسوق نفسه كان عرضة لقصف مدفعي إسرائيلي بدءاً من 1974 (مع حي السراي) مروراً باجتياحَيْ 1978 و1982، امتداداً لعدوانَي «تصفية الحساب» و«عناقيد الغضب» 1993 و1996 وكذلك نال حصته من القصف والتدمير في عدوان تموز 2006. يشدد مزرعاني على أن «كل ذلك القصف لا يقارَن مع النكبة التي أصابت النبطية في حرب الـ 66 يوماً (بدءاً من 23 أيلول 2024)».

نال سوق النبطية نصيبه في كل الاعتداءات الإسرائيلية منذ ١٩٧٨ لكن لا شيء يقارن بنكبة حرب الـ ٦٦ يوما


البلدية الشهيدة

لعبت بلدية النبطية ورئيسها خلال الحرب دوراً رئيسياً في توفير مقومات الصمود لمن بقي في المدينة، وعمل أعضاء خلية الأزمة كاستشهاديين بعد أن حوّلوا البلدية ورشة إغاثة توزع الخبز والمواد الغذائية والأدوية وحليب الأطفال على الأحياء تحت أعين المسيّرات والطائرات الحربية المعادية. وفي 16 تشرين الأول، أغارت تلك الطائرات على مبنى البلدية ودمرته وارتكبت مجزرة حصدت رئيس البلدية الدكتور أحمد كحيل مع 13 شخصاً بينهم عدد من أعضاء المجلس البلدي منهم الحاج صادق إسماعيل وعدد من موظفي البلدية بينما كانوا يوضبون الحصص لتوزيعها على الأهالي. وبعد أسبوعين، قتلت غارة إسرائيلية محمد جابر المدير التنفيذي للبلدية الذي حل مكان رئيسها الشهيد مضطلعاً بجهود الإغاثة. وبعد أيام، استشهد خمسة من عمال الصيانة في البلدية بغارة على أحد مستودعاتها.


أسرع عودة... فرحة وغصّة

مع دخول قرار وقف النار، غصّت شوارع النبطية بالأهالي العائدين حاملين في عيونهم دموعاً تحتار بين الفرح والحزن، فرح بعودة طال انتظارها 66 يوماً، وحزن لشهادة أحبة أو لخسارة جنى العمر، منزل أو متجر، توقيت وقف النار عند الرابعة فجراً لم يتح لأي جهة أن تجري استعدادات للعودة كرفع الركام من الشوارع لتسهيل عبور آلاف السيارات إلى النبطية وجوارها، ومع ذلك كثر من توجهوا إلى مقبرة المدينة قبل أن يلقوا النظر على منزل مهدم أو رزق ضاع، هناك أمام القبور بكوا شهداء سقطوا أثناء غيابهم القسري ودُفنوا في قبور جماعية ومنهم «غرباء» دُفنوا فيها كوديعة مؤقتة.

جلال نصر صاحب مقهى كبير كان أول العائدين، شوهد عند الساعة 4:30 من فجر يوم وقف النار، يجلس فوق حطام مقهاه الشهير في نزلة شارع الصبّاح مُعَمِّراً نفَس أركيلته وفوق رأسه برجان من ثماني طبقات مهشمة من شدة عصف الغارات الإسرائيلية على المحيط، حاله ككثيرين من المستثمرين في النبطية لم ينتظر المسوحات ولا التعويضات، «أحببتُ من هذا المكان أن أستقبل العائدين، فصاروا يطالبونني بحجز طاولات لهم في المقهى»، وبصوت ينافس نعيق سرب المسيّرات المحلق في سماء المدينة يستذكر الرجل واقعة انتفاضة عاشوراء الحسينية بوجه دورية إسرائيلية إبان الاحتلال عام 1983 «ربما دمروا النبطية اليوم انتقاماً من الانتفاضة التي شاركتُ بها وكان عمري لا يتجاوز الـ8 سنوات» مؤكداً أن إعادة الإعمار ستحصل وإن كانت تحتاج إلى بعض الوقت.


إرادة حياة

ورشة إعادة الإعمار انطلقت إن كان على مستوى مسح الأضرار من قبل مجلس الجنوب و«حزب الله» الذي سلم الدفعة الأولى للمتضررين كبدل إيواء وأثاث وبلغت مليوناً وست مئة ألف دولار وفقاً لما أعلنه شميساني، فيما تم فتح جميع الطرقات ورفع الركام بانتظار تلزيم إزالة أنقاض المباني المهدمة في الوسط التجاري وأحياء السراي والميدان والبياض والراهبات والمقاصد. تضافر الجهود بدا واضحاً عبر المبادرات الشعبية وتداعي الجمعيات الكشفية والرياضية والنسائية والشبابية لحملات نظافة وتكنيس الشوارع، في وقت جال وفد جمعية التجار على قوى ونواب ووزراء المنطقة والمحافظ ومدراء المصالح، وأعلن رئيس الجمعية أن الجميع متجاوب وهناك تكاتف بين كل الفعاليات والقوى المحلية، وكشف أن فرق الصيانة نجحت في إصلاح شبكة الإنترنت بنسبة 60% وكذلك بُدِئ بالعمل لإصلاح الهاتف الأرضي، أما الكهرباء، فقد تم رصد مبلغ 53 مليون دولار لإعادة تأهيل الشبكة على مستوى كل الجنوب، وعاد التيار إلى المدينة بنسبة 50%. كما بوشر بتشغيل محطات الضخ نحو الأحياء السكنية بعد توفير مولدات للتشغيل، لكن مآخذ المياه في المباني المدمرة تعيق العمل فتقرر تركيب سدات في تلك المباني تجنباً لهدر المياه وتوفيراً في تكاليف الضخ.

شميساني اقترح آلية لقمع أي محاولة لاستغلال الوضع الكارثي للمواطنين من قِبل بعض تجار المواد الشديدة الطلب كالإسمنت والزجاج والألمنيوم والحديد والخشب والطاقة الشمسية والأدوات الصحية ولوازم الكهرباء، تقوم هذه الآلية على صرامة مصلحة الاقتصاد وتشديد الغرامات ومحاضر الضبط بحق المخالفين، وكذلك على اضطلاع دوائر المالية بمراقبة أرباح تلك المؤسسات المصرّح عنها.

في موضوع التعويضات، يطالب تجار المدينة بأن يشمل التعويض خسائرهم في البضاعة وليس في الأبنية فقط كما حصل في عدوان تموز 2006، وهم بصدد إعداد لائحة بالتجار المتضررين تتضمن مسحاً بخسائرهم العينية، لوضعها بتصرف الهيئات المعنية ليجري التعويض عليهم عندما تتوافر الأموال والمساعدات الخارجية وذلك وفقاً للفواتير المالية التي يصرِّح بها عادة كل تاجر لدى وزارة المالية، درءاً لأي تلاعب أو غش.


صيدلية حياة Vs دمار

قبل انتهاء العدوان بأسبوع، أغارت طائرات العدو الإسرائيلي على مجمع سكني على طريق المستشفى الحكومي في النبطية، يقطن فيه الصيدلاني نادر خطاب بدر الدين، دمرت الغارة منزله وصيدليته بالكامل، فوراً لمعت في ذهن الرجل فكرة «تحويل الدمار إلى حياة»، فقرر الشروع بتجهيز بيت جاهز (كونتينر) وزرْعِه فوق الدمار وتحويله إلى صيدلية بديلة، فكلّف حدّاداً بتجهيز الكونتينر وأوصى على الآرمة وعثر على بلّاط لتبليط الأرضية وأخذ إذن البلدية، «اتُّهمتُ حينها بالجنون، ولما توقفت الحرب أزلت بعض الركام ونصبتُ الصيدلية الجاهزة» يقول الصيدلاني ابن الصيدلاني، الذي لم يقطع مرضاه الصامدين طوال الحرب وظل يؤمن لهم أدويتهم الضرورية رغم المخاطر المحدقة، حتى أتت الغارة على كامل مخزونه من الأدوية مكبدة إياه خسائر بمئات آلاف الدولارات (مع البناء).

«زرعتُ صيدليتي البديلة في هذا المكان بالتحديد من أجل أن أوصل رسالة مفادها أننا من الدمار سنخلق حياةً وأن إسرائيل لن تقوى على قتل روحنا» ويضيف بدر الدين الذي قضى 11 سنة من حياته في العمل الصيدلي بمعدل دوام 18 ساعة يومياً «بكيتُ في حياتي ثلاث مرات، لما مات والدَيَّ، وثانيةً لما دُمرت صيدليتي، وثالثةً بالأمس لما وضعتُ أول علبة دواءٍ على الرف في هذه الصيدلية البديلة».

في الحي المدمر، تقبع الصيدلية الكونتينر بجوار ركام فيلا وفي مقابل مجمع سكني تداخلت شبابيكه بشرفاته بألواح الطاقة الشمسية من شدة التدمير، وبين كومتَيْ حطام ثمة متّسعٌ لعبور سيارة تترجل منها سيدة تحصل على دواء لطفلها وتغادر على وقع عبارة «شكراً دكتور نادر».


ضريح الفتى الكهربائي

لم توفر الهمجية الصهيونية ضريح النبطاني حسن كامل الصبّاح (1896-1935)، النابغة صاحب الاختراعات في مجال الكهرباء، ففي منتصف تشرين الأول الماضي وخلال زنار النار الإسرائيلي الذي استهدف سوق النبطية التجاري، طالت الغارات الإسرائيلية الضريح وحطمت واجهته الرئيسية وتطاير زجاجه وتبعثرت عشرات براءات الاختراعات فوق قبره وتهشمت صورته المرفوعة في الضريح (شُيِّد في عام 1945 من الحجر الصخري وأُعيد ترميمه قبيل اندلاع الحرب).






تعليقات: