2024: عام نزوح أبناء القرى الحدودية وحياتهم المريرة

قصص كثيرة من آلام النزوح والهجرة لأبناء القرى الحدودية تروى يوماً بعد آخر (Getty)
قصص كثيرة من آلام النزوح والهجرة لأبناء القرى الحدودية تروى يوماً بعد آخر (Getty)


عام وما يزيد، على نزوح أبناء المنطقة الحدودية من منازلهم، بانتظار العودة. عام كامل من الصبر على فراق الأرض والأصحاب والجيران، بانتظار نبأ توقف الحرب بشكل نهائي، والعودة الى ما بقي من منازلهم. وإلى حين تحقق مبتاغهم، قصص كثيرة من آلام النزوح والهجرة تروى يوماً بعد يوم، وتكشف يتم النازحين ومآسيهم.


رحلة النزوح الأول

تذكر ريهام، ابنة بلدة كفركلا، يوم بدء الحرب في 8- 10- 2023: "كانت أصوات القذائف والصواريخ تسمع بشكل واضح، لكن بعد بضعة أيام بدأ القصف يطال المنازل في البلدة، ما دفعنا الى النزوح بدون أن نأخذ ما قد نحتاج اليه، على أمل العودة القريبة".

اضطرت أسرة ريهام السكن مع ثلاث عائلات أخرى من البلدة في شقة واحدة غير مفروشة في منطقة النبطية. وتقول: "بعضنا كان ينام على الأرض من دون غطاء، وصمدنا لأشهر. ومرة جديدة بدأت الغارات تصل الى المنازل القريبة منا، ومن ثم قصف المكان الذي كنا فيه".

أصيبت ريهام بجروح مختلفة، واضطرت الى النزوح مجدداً مع أسرتها وأقربائها. وتروي: "تركنا كل شيء في النبطية، وكذلك سياراتنا المتضررة، وصلنا الى بيت جديد في البقاع، وهو غير مفروش أيضاً. هناك تلقينا نبأ جرف منازلنا في البلدة، وكذلك أشجار الزيتون والحمضيات التي نملكها".


توقعوا عدم استمرار الحرب

قبل توسّع الحرب كانت وجهة معظم النازحين من قرى الحافّة الأمامية الى القرى المحاذية لها، أو إلى منازل أقربائهم في الضاحية الجنوبية والنبطية وصور. وقد تم احصاء 21566 عائلة نازحة من المنطقة الحدودية، 33 بالمئة منهم في المنطقة المحاذية للمنطقة الحدودية، و30 بالمئة في منطقة النبطية وقراها، و20 بالمئة في بيروت والضاحية. والنسبة القليلة المتبقية توزعت بين بعلبك وشمال لبنان.

كانت التوقعات حينها أن الحرب لن تستمرّ طويلاً. لكن يوماً بعد يوم بدأ النازحون يبحثون عن منازل أخرى، لا سيما بعد أن ازداد عددهم. ترافق ذلك مع تنامي أعداد السماسرة والمنتفعين وتجّار الأزمات الذين استغلوا الحاجة فرفعوا بدلات ايجار المنازل بشكل مضاعف أو ما يزيد، رغم أن معظم النازحين من الفقراء ومتوسطي الدخل. ويذكر محمد حيدر (عيترون) أنه "اضطرّ الى استئجار منزل في دير القمر، بـ 1000 دولار أميركي، كان المبلغ المدّخر يكفي لشهر أو لشهرين على أبعد تقدير. لكن بعد أن طال أمد الحرب، قرّر العودة الى بلدة مجدل سلم القريبة من بلدته".


السكن في القرى الخلفية

فضّل أبناء البلدات الحدودية الاقامة مع أقربائهم في البلدات القريبة من بلداتهم، على الاقامة في أماكن بعيدة تزيد من معاناتهم لأنهم كانوا يرغبون بتفقّد منازلهم، كما يقول محمد قاروط ابن بلدة ميس الجبل. ويلفت الى أن "عشرات المواطنين من أبناء ميس الجبل وباقي القرى الحدودية كانوا يتجمّعون في بلدات شقرا وتبنين ومجدل سلم، يشاهدون مباشرة أماكن الغارات ويواسون بعضهم بعضاً، وينتهزون الفرص لقصد منازلهم واحضار ما يمكن الاستفادة منه. إضافة الى محاولة زراعة ما تيسر من الأراضي".


محاولات التكيّف

معظم أبناء المنطقة الحدودية من المزارعين الذين اعتادوا على العمل في الحقول وزراعة التبغ والحبوب، لذلك حاول عدد كبير منهم المغامرة، قبل اتساع رقعة الحرب. قصدوا الحقول قرب الحدود وقاموا بزرعها، ثم عادوا إلى أماكن النزوح. محمد حيدر (عيترون) المقيم في عيتا الجبل كان يذهب صباحاً مع زوجته لزراعة شتول التبغ ويعود عصراً. ويقول: "حاولنا عدم ترك عملنا، نتوجه صباحاً لزراعة الأرض ونعود مساء، على أمل جني ثمار الموسم بعد انتهاء الحرب. لكن ما حصل أن الحرب توسعت وطال أمدها وخسرنا الموسم". يقدّر محمد خسارة الموسم الواحد بـ 14 ألف دولار أميركي.

في أماكن النزوح الأولى حاول عدد كبير من النازحين البحث عن العمل لتأمين قوتهم اليومي، لكن هذه المحاولات باءت بالفشل، بسبب توسع الحرب وانتقال النازحين الى أماكن أخرى. ففي بلدة دير الزهراني استأجر محمد حمدان ( ميس الجبل) ثلاثة محال تجارية، ونقل اليها جزءاً من بضائعه الموجودة في ميس الجبل قبل أن يتعرض مستودعه هناك للقصف، وبعد توسع الحرب اضطر الى النزوح الى طرابلس، وهناك وصله نبأ استهداف محاله الجديدة وتلف البضائع. فخسر أكثر من 40 الف دولار أميركي، إضافة الى تهدم المنزل والمستودع.


خسارة الأرزاق وكتم الموت

أحد المعلمين من بلدة مركبا نزح الى منطقة النبطية حيث استأجر منزلاً. بعد أربعة أشهر اضطرّ الى ترك المنزل بسبب حاجة صاحبه اليه. عاد ولجأ الى بلدة قلاوية واستأجر منزلاً قديماً، واضطر الى اصلاحه وتأهيله للسكن. وعند توسع الحرب ترك كل ما يملكه هناك، وتوجه مع عائلته إلى مدرسة في خلدة، ثم إلى عاليه. وبعد الاعلان عن وقف اطلاق النار، عاد إلى قلاويه فوجد المنزل محطماً. فاضطر الى اعادة اصلاح ما يمكن للسكن فيه، على أمل العودة الى بلدته المهدّمة.

يوم توسّع الحرب اضطرت أسرة كبيرة من بلدة حولا، تضمّ أكثر من 50 فرداً من والدين مقعدين وأولادهما وأحفادهما، للنزوح الى بلدة كترمايا في الجبل. سكنوا في غرفة واحدة كانت تستخدم كمقهى على الشارع العام. تعاونوا على تجاوز مرارة النزوح. يجمعون ما تيسر لهم من أموال لانفاقها دون الاضطرار الى طلب المساعدة. وأثناء اقامتهم، علم الأولاد باستشهاد شقيقهم، فكتموا السرّ على الوالدين المقعدين طيلة فترة الحرب. علماً أن منازلهم قد هدّمها العدوّ في البلدة.

تذكّر أنديرا قطيش من حولا بأن "أبناء المنطق الحدودية لا يزالون يواجهون المجهول من الأيام، فقد تهدّمت مؤسساتهم وأماكن عملهم، اضافة الى منازلهم، وعادوا من النزوح الثاني، ولم يجدوا بيوتهم التي كانوا قد نزحوا اليها في المرة الأولى، ولا أمل لهم بتأمين منازل تأويهم في بلداتهم بسبب كثرة الدمار".


أزمة تعليم النازحين

أزمة التعليم هي واحدة من أبرز الأزمات التي عانى منها النازحون من القرى الحدودية التي تضمّ عدداً كبيراً من المدارس الابتدائية، والثانوية والمهنية. لكن معظمهم لم يلتحقوا بمدارس جديدة في الأماكن التي نزحوا اليها. أما باقي التلاميذ ففضلوا التعليم عن بعد. ومعاناة التعليم عن بعد كبيرة جداً، بسبب عدم قدرة التلاميذ على مواكبة هذا النوع من التعليم بشكل منتظم لعدم توفّر خدمة الانترنت السريع وسكن أكثر من عائلة في منزل واحد. اضافة الى تغّير أحوال المعلمين وأماكن نزوحهم واضطرار بعضهم الى البحث عن أعمال جديدة تؤمن لهم قوت يومهم.


العودة المستحيلة!

توقفت الحرب، لكن معاناة النازحين من المنطقة الحدودية لم تتوقف، حتى أنها ازدادت سوءاً عند عدد كبير منهم، والسبب بحسب حسن رمال (العديسة) "أن جميع النازحين عادوا من الأماكن التي نزحوا اليها بعد توسع الحرب على أمل العودة الى منازلهم أو المنازل التي نزحوا اليها في الأشهر الأولى. ولكن مئات العائلات لم يتيسّر لها السكن فعدد كبير منهم فقدوا منازلهم في قراهم، كما باتت المنازل التي نزحوا اليها في الأشهر الأولى من الحرب اما مسكونة من أصحابها، أو تعرضت للقصف".

تشكو مريم حجازي، ابنة ميس الجبل من عدم القدرة على ايجاد منزل في القرى القريبة وحتى البعيدة. وتروي: "لقد تهدم منزلنا في البلدة، وباقي المنازل التي يمكن السكن فيها لاحقاً لا تكفي لاقامة أصحابها. وفي القرى الخلفية نجد المشكلة ذاتها. لذلك بتنا كالمشردين من جديد نسكن حيناً عند أصحابنا وحينا آخر عند زميل أو قريب بانتظار ايجاد الحل الأمثل والمناسب".

لم يكف أي تعويض حصل عليه النازحون خلال الحرب. فبدلات الايجار كانت مرتفعة جداً، وأي أسرة تحتاج ما لا يقل عن 500 دولار شهرياً لتأمين الحاجات الأساسية، في حين أن حزب الله استطاع تأمين ما لا يزيد عن 300 دولار أميركي لكل أسرة نازحة اضافة الى 200 دولار كبدل ايجار. أما الدولة ومؤسساتها، اضافة الى المنظمات الدولية والجمعيات الانسانية فقد آثرت الصمت وعدم التحرك لمساعدة أي نازح أو منكوب.


المزارعون والعودة المنتظرة

عند عودة أبناء المنطقة الحدودية الى قراهم المهدّمة، مئات العائلات لن تجد المأوى. سيلجأ البعض منهم الى السكن في أماكن مؤقتة. لكن معظم الأهالي كانوا يعتمدون على الزراعة والانتاج الحيواني. والخسائر في هذا المجال كبيرة جداً. ويتساءل المزارع حيدر عواضة عن "الخطة المفترضة لاعادة عمل العائدين الى قراهم. ومن سيعوّض علينا خسارة موسمين زراعيين ومواسم مقبلة، ومن سيؤمن لنا المعدات والآلات الزراعية التي فقدناها، اضافة الى الأبقار والأغنام وغيرها؟".

عدد مزارعي التبغ في عيترون وحدها وصل قبل الحرب الى أكثر من 900 مزارع، هؤلاء جميعاً فقدوا موسمين زراعيين، حتى الأن، اضافة الى خسائرهم المتعلقة بتلف آلاف الشتول والأشجار ومن بينها أكثر من 1000 شجرة زيتون مثمرة.

وكان اتحاد بلديات جبل عامل عمد خلال السنوات الماضية الى زراعة أكثر من 54 ألف شجرة مثمرة بينها 25 ألف شجرة زيتون و5000 شجرة تفاح وكيوي، ساهمت في زيادة نسبة المزارعين منذ حرب 2006 إلى نحو 60 بالمئة من السكان. ويبيّن رئيس مركز الارشاد الزراعي في مرجعيون فؤاد ونسة أن حجم أراضي منطقة مرجعيون المزروعة بأشجار الزيتون وصل قبل الحرب الى ما يقارب 30 ألف دونم. أما حجم الأراضي المزروعة بالأشجار المثمرة فقد وصل الى ما يقارب 7000 دونم. وكانت المنطقة تنتج حوالي 125 ألف تنكة زيت زيتون. أما انتاجها من العنب فوصل الى حوالي 1500 طن، اضافة الى حوالي 4000 طن من الدرّاق.

ويشرح أنه بعد الحرب يبست معظم الأشجار المثمرة وخسر الأهالي مواسمهم. هذا فضلاً عن دمار مزارع الأبقار والدجاج ومعاصر الزيتون ومئات المحال التجارية التي يصعب التعويض عن البضائع فيها. وهذه حال بلدة ميس الجبل التي كانت تضمّ أكثر من 300 محل تجاري ومعمل للمفروشات والأدوات المنزلية.

تعليقات: