آلاف الأشخاص عاشوا في ظروف صعبة، حيث تراكمت الفرش في غرفة ضيقة (مصطفى جمال الدين)
كان عام 2024 عامًا استثنائيًا في تاريخ لبنان الحديث، لما شهده من موجة نزوح غير مسبوقة، جعلته يكون "عام النزوح" بامتياز. فبعد مرور 18 عامًا على حرب تموز 2006، عاد اللبنانيون لمواجهة مأساة النزوح، معيدةً إلى الأذهان مشاهد الحرب والمآسي التي ظنوا أنها أصبحت جزءًا من الماضي. فبعد قرابة العام على نزوح أبناء القرى الحدودية عقب اندلاع الحرب على قطاع غزة، كان تاريخ 23 أيلول المنصرم مفصلياً. فقد اشتدت الغارات الإسرائيلية العنيفة على القرى والبلدات الجنوبية وحصل نزوح سريع ومفاجئ. نزوح جماعي ضخم لم يشهد لبنان مثيلاً له في كل الحروب السابقة. ومشاهد ازدحام طرقات من الجنوب بالنازحين وبقائهم لأكثر من عشرين ساعة في السيارات، كانت إحدى المشهديات المعبرة عن حجم هذا النزوح الذي طال عشرات آلاف العائلات الهاربة دفعة واحدة من الجنوب. والمختلف عن الحروب السابقة أن النزوح كان في السابق يتم على دفعات، فيما في الحرب الأخيرة، اندفع الجنوبيون بغالبيتهم هاربين من القصف. ثم أتت الضربات الإسرائيلية على الضاحية الجنوبية وتكرر مشهد النزوح الضخم خلال ساعات.
نزوح يثقل كاهل الوطن
أسفر القصف العنيف عن تهجير حوالي 1.2 مليون شخص، توزعوا بين أقارب في المدن والبلدات الآمنة، أو لجأوا إلى مراكز إيواء مؤقتة بلغ عددها 1163 مركزًا (حوالي 200 ألف شخص). شملت هذه المراكز مدارس، جامعات، كنائس، وحتى أماكن غير تقليدية مثل الملاهي الليلية، التي تحولت جميعها إلى ملاذات مؤقتة. إلا أن العدد الأكبر للنازحين اتجه إما للإيواء لدى أقاربهم ومعارفهم، أو راحوا يبحثون عن شقق للإيجار.
في المدن الكبرى مثل بيروت وطرابلس وصيدا، انعكست الأزمة بوضوح. شوارع مكتظة، ارتفاع في الطلب على السلع الأساسية، وضغط متزايد على بنية تحتية منهكة أصلًا، مما جعل الحياة اليومية أكثر صعوبة على الجميع.
سريعاً، بدأ استغلال النازحين منذ اللحظات الأولى لنزوحهم. فقد وجد فيها بعضهم فرصة لتحقيق مكاسب سريعة على حساب معاناة الآخرين. على الطرقات، تعرض النازحون لمواقف مذلة، منها بيع قنينة مياه صغيرة بمبلغ خيالي يصل إلى 100 ألف ليرة لبنانية. ولم يتوقف الأمر عند الطرقات، بل امتد إلى استئجار البيوت التي باتت مساحة للاستغلال الجشع. بعض الملّاك رفعوا أسعار الإيجارات إلى مستويات غير معقولة، فيما لجأ آخرون إلى محاولة جمع عائلتين في بيت واحد بهدف تحقيق أكبر قدر من الربح. كما وُعدت العديد من العائلات بمساكن لتكتشف عند وصولها أنه لا توجد شقق أو أن الشروط المتفق عليها لم تتحقق.
سكن مؤقت بلا استقرار
المشهد في مراكز الإيواء كان مؤلمًا. مئات الأشخاص يعيشون في ظروف صعبة، حيث تراكمت الفرش في غرف ضيقة، وغابت الخصوصية والخدمات الأساسية. الأطفال بلا مدارس، والشباب بلا عمل، بينما المستقبل يبدو غامضًا. ومع بداية فصل الشتاء، تفاقمت المعاناة. فالاستعدادات كانت متفاوتة بين مركز وآخر، ولم تكن المساعدات المقدمة كافية لتلبية الاحتياجات. واجه العديد من النازحين نقصًا في البطانيات والمواد الأساسية، مما زاد من صعوبة تحمل البرد القارس. ووسط الحاجة الملحة للأمان والمال، أدرك النازحون أنهم لا يستطيعون الاتكال على المساعدات فقط. ومع طول أمد الأزمة، بدأ البعض منهم البحث عن فرص عمل.
لم تكن الحرب قاسية فقط على الأحياء، بل امتدت معاناتها إلى الموتى أيضًا. مع استمرار القصف، دفنت عائلات كثيرة موتاها بعيدًا عن قراهم الأصلية. وأقدمت العديد من العائلات إلى دفن أحبائهم كوديعة إلى حين انتهاء الحرب.
الخوف من النازحين
وتفاقمت معاناة النازحين بعد توسع نطاق العلميات الأمنية الإسرائيلية إلى مناطق كانت تصنف "آمنة". وقد استهدف الطيران الإسرائيلي ما زعم أنها أهداف لحزب الله، راح ضحيتها نازحون. وهذا الأمر، أطلق العنان لإصابة المجتمعات المضيفة بما عرف بـ"فوبيا النازحين". فقد شكّل تواجد النازحين عامل ريبة وخوف لبعض المجتمعات المستضيفة، التي أبدت تشددًا تجاههم. وقد صدرت بيانات رسمية عن بلديات لوضع الشروط حول كيفية استقبال النازحين وفرضت قيوداً على تحركاتهم، ومنعت البعض من استقبال الزوار.
الخراب والدمار
في 27 تشرين الثاني، ومع إعلان وقف إطلاق النار، عادت مشاهد الازدحام إلى طريق الجنوب، لكن هذه المرة اتجهت السيارات جنوبًا، حاملةً العائلات العائدة إلى قراها، باستثناء قرى الشريط الحدودي التي ما زالت تعتبرها إسرائيل منطقة عمليات.
عاد معظم النازحين إلى منازلهم، ليجدوها مهدمة ومحيطها يغرق في الدمار وبنية تحتية متضررة، وأحياء تحتاج إلى سنوات من إعادة الإعمار. أما من لم يتمكن من العودة، فوجد نفسه يبحث عن منزل للإيجار بأسعار أقل وفي أماكن قريبة من قراهم الأصلية، أو يستمر في الإقامة لدى أقاربه الذين استضافوه خلال الأزمة.
في كل هذه المشاهد، تتجلى معاناة العودة كما تتجلى مأساة النزوح؛ عائلات عادت لتحاول بناء ما تهدم، وأخرى ما زالت تنتظر فرصة للعودة إلى أرضها وبيوتها، تحمل معها أملًا بالخلاص من آثار الحرب واستعادة حياة طبيعية كانت تبدو مستحيلة قبل أسابيع قليلة.
تعليقات: