يوسف غزاوي: فنون ما بعد الحداثة.. التدمير والسخرية


تناولنا في مقال سابق ماهية الحداثة مفهومًا وإشكاليّة، وما نجم عن هذا التبدّل في الفكر الإنسانيّ من آثار أرخت بثقلها على حياتنا الآنيّة؛ إذ إننا نعيش حاليًّا نتائج ما أتت به الحداثة وما بعدها من تدمير وفوران عقائديّ راديكاليّ مدمّر لكلّ شؤون الحياة. سنحاول في هذه المقالة التطرّق إلى مفهوم ما بعد الحداثة القاتل، لنطلّ من خلاله على فنونها، وما حملته من إرهاصات وبدع نسفت كلّ مفاهيم الإنسانيّة وأبعادها. بماذا اختلفت ما بعد الحداثة عن سابقتها الحداثة؟ وماذا حملت من مفاهيم وأبعاد فكريّة جديدة؟ وكيف ساهمت بتحطيم الإنسان كقيمة وكيان؟ وماذا أحلّت مكانه؟ ما هو أثرها في الفنون التشكيليّة والعطاءات الإنسانيّة؟ بماذا اختلفت فنون ما بعد الحداثة عن سابقتها الحداثة؟ وما هي التيّارات الفنيّة التي نشأت معها؟ ما هي مصادرها وحدودها وفلسفتها؟ إلخ… هذا ما سنحاول الإجابة عنه بشكل مختصر… ستساعدنا دراسة ما بعد الحداثة على فهم الحداثة أكثر، كونهما فكرين متناقضين يُظهر كلّ منهما أبعاد الآخر…


ميلاد ما بعد الحداثة وتعريفها:

كما تعدّدت تعاريف الحداثة فإنّ ما بعد الحداثة، بدورها، لم تنأ عن هذا الشيء؛ فليس هناك ما بعد حداثة واحدة، بل هناك ما بعد حداثيّات، لكنّها تشترك جميعها في بعض الأسس النظريّة. يتناول الكاتبان “ميجان الرويلي” و”سعد البازغي” في “دليل الناقد الأدبيّ” هذا المصطلح بقولهما: إنّ مصطلح ما بعد الحداثة، بفرعيه، من أهمّ المصطلحات التي شاعت وسادت منذ الخمسينيّات الميلاديّة، ولم يهتدِ أحد بعد إلى تحديد مصدره. فهناك من يعيد المفردة إلى المؤرّخ البريطانيّ “آرنولد توينبي” Arnold Toynbee 1956م. وهناك من يربطها بالشاعر والناقد الأميركيّ “تشارلز أولسون” Charles Olson في الخمسينيّات الميلاديّة من القرن الماضي أيضًا. وهناك من يُحيلها إلى ناقد الثقافة “ليزلي فيدلر” Leslie Fiedler ، ويُحدّد زمانها في العام 1956م.

مهما يكن من أمر، فإنّ ما بعد الحداثة هي حركة شموليّة أيضًا كما الحداثة، تنشط في الفضاءات كافّة: السياسيّة، الاقتصاديّة، التعليميّة، الاجتماعيّة، الفلسفيّة، الأخلاقيّة النفسيّة، المعرفيّة، الأنتروبولوجيّة… وتتشظّى ما بعد الحداثة إلى ما بعد حداثات مختلفة. وهي أبرز ما تكون في العمارة (التي بدأت منها) وتخطيط المدن. يمكننا التمييز بين قسمين منها:

Postmodernism, Postmodernité أو POstmodernty؛ تُعالج الأولى المنهج والنظريّة النقديّة فلسفيًّا ومعرفيًّا، وتعتمد الثانية كممارسة عمليّة، وكتطبيق لهذه المنهجيّة والنظريّة على حقل معيّن كالأدب أو الفنّ التشكيليّ أو الموسيقى أو العمارة… يرى الكاتبان “الرويلي والبازعي” أنّ ما بعد الحداثة يخلط بين المظاهر الاجتماعيّة والفكريّة والثقافيّة، وأنّها ردّة فعل على الحداثة كما هو متفق عليه بين الكثير من آراء المفكّرين. المفكّر “إدوارد لوسي سميت” أسماها الحداثة المتأخّرة، ولم يسمها ما بعد الحداثة.

لقد قلبت ما بعد الحداثة نظريّات الحداثة وفرضيّاتها. احتفت الحداثة بالعمق والمعنى، أمّا ما بعد الحداثة فقد نادت بعدم ثبات المعنى وانفتاح النصّ وتعدّد القراءات (نذكر هنا كتاب أمبيرتو إيكو Emberto Eco “العمل المفتوح” L`oeuvre ouverte). وحاربت النخبة والنخبويّة، وآمنت بالسطحيّة والمبتذل اليوميّ، وتغلَّب فيها الهامش على المركز. قوّضت ما بعد الحداثة السلالم الهرميّة، واهتمّت بأشكال التعدّديّة اهتمامًا شديدًا. فما بعد الحداثة تشظٍّ وتشتيت، في حين أنّ الحداثة ثبات وشموليّة، وعمل مغلق مكتمل ذو مدلول Signifié (معنى)، بينما ما بعد الحداثة شكل مفتوح، دالSignifiant (شكل). تبنّت ما بعد الحداثة أطروحات البنيويّة وما بعدها، ومن أبرز منظّريها ومفكّريها: جاك دريدا، جاك لاكان، رولان بارت، ميشال فوكو، وغيرهم… الذين أسّسوا لثقافة ما بعد الحداثة. يمكننا القول آنئذ، إنّ ما بعد الحداثة عجز عن تقديم البديل عن الحداثة والمأزق الذي وقعت فيه. فحسب “ليوتار” أصبحت المعرفة سلعة من بين سلع أخرى. وانطلاقًا من تحليله لوضعيّة المعرفة ما بعد الحديثة، يشير “ليوتار” إلى أنّ ما بعد الحداثة هي ما بعد ميتافيزيقية، ما بعد صناعيّة، وهي ذات سمات تعدّديّة، ويدعو إلى ديموقراطيّة الحصول على المعرفة. منظّر ما بعد الحداثة “إيهاب حسن” ينقد الحداثة بقوله إنّ سماتها هي اللاتوجّه، وتعني: الالتباس، الانقطاع، الهرطقة للخروج عن المألوف، التعدّديّة، العشوائيّة، التمرّد، الشذوذ، التحويل التشويهيّ. والمفهوم الأخير يدلّ وحده على دزينة من المصطلحات الواهنة حول التهديم: اللاإبداع، التحلّل، التفكيك، اللامركزة، الانزياح، الانقطاع، التقطّع، الاختفاء، اللاتعريف، اللاكليانيّة، اللاشرعنة… إذا كانت الحداثة هكذا، فكيف تكون ما بعد الحداثة أو “اللاحداثة” كما يُسمّيها المسرحيّ الأميركيّ المعروف “روبرت لويل” Robert Lowell عازيًا هذا الموقف إلى قلقه واضطرابه النفسيّ، وإلى تقلّب مواقفه وتناقضها! وتطرّف آخرون فقالوا إنّ ما بعد الحداثة مصطلح يشير إلى السير إلى الوراء، ومخالفة التيّار السائد قولًا وفعلًا وتفكيرًا.

يرى المؤرّخ البريطانيّ “أرنولد توينبي”، في كتابه “دراسة التاريخ”، أنّ عصر ما بعد الحداثة في الغرب سيُهيمن عليه القلق واللاعقلانيّة وفقدان الأمل والعجز.

لنغوص أكثر في تطرّف ما بعد الحداثة وما أوصلتنا إليه، نشير إلى ما تضمنه أحد أعداد سلسلة “عالم المعرفة”، كتاب للباحثة “روزي بريدوتي”، تحت عنوان “ما بعد الإنسان”، ركّزت فيه على النقاش الدائر حول نظريّات ما بعد الإنسان، لتكشف عن البيئة غير الطبيعيّة للإنسان في زمن بدأت فيه الفروقات بين الإنسان واللاإنسان في الاضمحلال، حيث تتحدّث الباحثة عن موت الإنسان (الرجل) وتفكيك المرأة. تقول إنّها نشأت فكريًّا مع نظريّات حول موت الله (نيتشه)، ونهاية الإنسان/ الرجل (فوكو)، وانحلال الأيديولوجيّات (فوكوياما). فهي ترى أنّ العلمانيّة تُعيد قمع المرأة واستبعادها من المجال العام للمواطنة والسياسة العقلانيّة؛ وتتحدّث عن الروبوتات كآلة، وعن درجة الاستقلال الذاتيّ التي توصّلت إليها هذه الروبوتات. أصبح من الممكن تقنيًّا، ومن خلال الروبوتات، الاستغناء عن الإنسان لاتخاذ القرارات على المستويين التشغيليّ والأخلاقيّ. هذا من دون أن نتكلّم عن الإنسان الآليّ (إنسان مكوّن من أشياء عضويّة وأخرى آليّة) الذي تعتزم “النازا” إرساله إلى الفضاء ليحلّ مكان الإنسان البشريّ، كون الآليّ لا يحتاج إلى الأوكسيجين للتنفّس. ووفق هذا التقرير، سيتغيّر دور الإنسان من صانع القرار إلى مشغله، فدوره يكمن في مراقبة الروبوتات المسلّحة والعاملة عوضًا عن التحكّم بها…

تذكر الباحثة الرجل الفيتروني لـ “دافنشي” وكذلك المرأة الفيترونيّة الجديدة لتتحدّث عن النظريّة النسويّة، ولا سيّما عمَّا بعد الحداثة منها، كنقد راديكاليّ للكونيّة الذكوريّة… تذكر الشكل المثير للسخريّة الذي يشير إلى الرجل الفيتروني لـ “دافنشي” الذي نُقش على فنجان قهوة “ستارباكس” والذي يرمز إلى الطابع الممتع لعلاقات ما بعد الإنسان التي أنشأها رأس المال العالميّ: “أنا أتسوّق، إذًا، أنا موجود!” قد يكون شعارًا جيّدًا لها.

إنّ أدبيّات النظريّة الاجتماعيّة، حول القلق المشترك من مستقبل كل من جنسنا وتراثنا الإنسانيّ، غنيّة ومتنوّعة أيضًا. والمفكّرون الليبراليّون المهمّون مثل “هابرماس”، والمؤثّرون مثل “فوكوياما” واعون للغاية لهذه المسألة، وكذلك الحال بالنسبة إلى النقّاد الاجتماعيّين مثل “سلوتيرديك” و”بورادوري”، فهم يُعبّرون بطرق مختلفة عن قلقهم العميق لحالة الإنسان. ويبدو أنّهم بشكل خاص في حالة من الذعر الأخلاقيّ والإدراكيّ تجاه احتمال تحوّل ما بعد الإنسان، ويلومون تقنيّتنا المتقدّمة على ذلك.

بعض رسوم الكاريكاتور الساخرة صوّرت التحوّل الجوهريّ بين الإنسان والحيوانات، حيث الحيوانات منتصبة مثل الرجل الفيترونيّ لـ “دافنشي”، فتتحوّل القطّة أو الكلب مقياسًا لكلّ شيء!

فنون ما بعد الحداثة:

إذا كانت فنون الحداثة قد ألغت كلّ ما يتعلّق بأساليب وتيّارات فنّيّة سابقة، فإنّ ما بعد الحداثة أعاد الدّفّة إلى هذا القديم الذي لا غنىً عنه في مسار الفنّ التشكيليّ وتوجّهاته، مع إعطائه روحًا جديدة مجبولة بالسخرية والتهكّم، وجعله خليطًا غريبًا هجينًا من أشياء كثيرة، وفيه حضور لافت للمرأة. يجد الباحث «مالكولم برادبري» Malcolm Bradbury من يؤكد موت ما بعد الحداثة، ومن يؤيّد استمراريتها. يقول إنّ مصطلح ما بعد الحداثة تقصد به النتاجات الفنيّة التي جاءت بعد الحرب، وهي خليط من الفن التقليديّ ومن فن «اللافن anti-art». تعني ما بعد الحداثة الفنيّة العودة إلى الأصول ضمن مفهوم جديد. تتأتى مصادر تيارات ما بعد الحداثة الفنيّة، لسنوات الثمانينيّات من القرن الفائت، من أفق متعددة، حيث نجد تأثيرات فن الديكور الإسلامي بألوانه العالية المشرقة، وأشكاله المنمقة القائمة على المناظر الطبيعية، كما نجد الموضوعات الإباحية من الشرق، والاستعارة من الخزف المكسيكي، والهندسة المغربية. وفيه أيضًا تأثير الفن الشعبي» البوب آرت» Pop- Art وإيثاره “الكليشيه” والموضوعات أو العناصر المطبوعة على النسيج الصناعي. إلا أن ما بعد الحداثة يبقى على مسمع القديم والحقيقة الآلية في آن، مع تأكيده على الوظائف الجماليّة. من جهة أخرى هناك التصاق مفتوح بتاريخانيّة مؤكدة موصولة بانتقائيّة وتعدّديّة.

وهي بهذا تعارض عمل الطليعيين Les avant- garde حيث أخذت على عاتقها التهكم والسخرية والسقوط الوسخ لمفاهيم الطليعيّين. ما يميّز فناني ما بعد الحداثة (ولا سيّما فنانو الثمانينيّات) وفن المعاصرة هو العودة إلى التقنيّات التقليدية، والفريسك والتصوير الزيتي، والأكواريل والرسم، والموزاييك والنحت بالحجر وبالبرونز، كاحتجاج هائل لجيل الشباب في مواجهة الجيل القديم الذي أعلن نهاية فن التصوير la peinture. حيث نرى هيمنة وغلبة السخرية على أعمالهم كمحرّك لما بعد الطليعيّ، وعدم الاهتمام بمنابع الأفكار… هذا من دون أن نشير إلى أعمال فنانين غارقة في ابتذالها وطرحها وسخريتها وتطرّفها.

تعطي الفنانة والباحثة غصوب في كتابها “ما بعد الحداثة، العرب في لقطة فيديو” أمثلة في الفن التشكيلي، فـ “ماغريت” R. Magritte في غليونه «Ceci n’est pas une pipe» يودّ القول إنّ هذا ليس غليونًا بل صورته الزائفة، وهو ما يعتقده ما بعد الحداثيين. وتتطرّق (أندي وارول Andy Warhol) إلى التساؤل حول تمثيله للحداثة أو ما بعد الحداثة، حين نزع الخط الفاصل بين الصورة وصنع الصورة، وتذكر الباحثة في هذا الإطار صورة “مارلين مونرو”، لتصل إلى التساؤل حول الكومبيوتر بقولها: إنّ ما نتلاعب به، هل هو مجرّد صورة على شاشة الكومبيوتر المحمول، أم إنّ ما نسجله عليها هو الواقع؟

فمثقفو ما بعد الحداثة يصفون فنانيهم بـ«البدو الرحل» كنقيض لـ«الطليعة».

يرى “المسيري”، منظّر ما بعد الحداثة، أنّ فن القرن العشرين هو فن مكعّبات ومربّعات ودوائر وألوان. ويصبح كلّ شيء مرجعية ذاته ومكتفيًا بذاته، من دون أي معنى أو مدلول في عالم مادي. أبرز ما يمثل ذلك الفن المفاهيمي، ويعطي مثالًا على ذلك الفنان (بييرو مانزوني) Piero Manzoni الذي كان يعلّب برازه ويبيعه، ويقارن بين الفن و”نيتشه”، حيث النظام عند كليهما نظام مؤقت وواقع وهمي، لا حقيقة فيه. يلغي “نيتشه” المساحة بين النص والحقيقة، وبين المبدع والحقيقة، وبين نص وآخر.

سنلقي الضوء سريعًا على بعض النماذج من فنون ما بعد الحداثة.


Decoration Pattern &

هذ التيار الفنّيّ هو تيّار (ما بعد حداثي) يمكن ترجمته بـ”نسيج وديكور” أو “نسيج وتزيين”. تيّار فنّيّ، فيه تشظ وتشتيت وتفكيكيّة وخلط المظاهر والنظريات والآراء.

نجد في هذا التيار مصادر متأتيّة من أفق عدّة مختلفة… (كما ذكر أعلاه) تتعارض حركة الـ P & D مع الطليعي l`avant-garde حول نقطتين: رفضها لمفهوم تلقائيّة العمل لمصلحة مفهوم ما لعملٍ يحمل تأثيرات عدّة، ببقائها على مسمع القديم والحقيقة الحاليّة في آن واحد، والتي تميّز الانطباعات والجاذبيّات، مع تأكيدها على الوظائف الجماليّة من جهة، ومن جهة أخرى التصاقها المفتوح بتاريخانيّة مؤكدة موصولة بانتقائيّة وتعدّديّة. كل هذا يفسر الصدمات التي فرضتها تلك الحركة على ما بعد الطليعيّ post avant-garde.

كان لهذه الحركة تأثير اجتماعيّ وسياسيّ مهمّ في إطار تقدير النساء الفنانات… حيث أعطت الكلام للتعبير الأنثويّ في مجالاته الفنيّة، وهو شيء امتازت به مرحلة ما بعد الحداثة.

إنّ جيل ثمانينيّات القرن العشرين، وهو جيل الشباب، خصّ وبامتياز جمالية “بدائية” عنوانها عدائية الفن، أو ضد الفن anti-art، حيث أخذت الخاصيّة البدائيّة على عاتقها الوجوه التهكّميّة والسخرية والسقوط “الوسخ” “للمفاهيم الفارغة” للطليعيّ l`avant-garde.


Polke سيغمار بولك

فنان بولوني الأصل، درس في ألمانيا على يد “جوزيف بويز” Joseph Beuys، في أكاديمية “ديسيلدورف” Dusseldorf . سيكون هذا الفنان الممثل الأوّل للواقعية الرأسمالية Réalisme capitaliste التي أنشأها مع الفنان “جيرار ريشتر” Gerhard Richter، حيث ستتقارب أعمالهما وتتشابه. بعثت هذه الحركة صداها في ألمانيا في الستينيّات من القرن الماضي، بعيدًا من التعبيريّة التي وسمت جيله، وقت ظهور حركة الفلوكسس Le Fluxus . كان عمله تجريبيًّا، حيث استعمل كل الوسائل على مسطح اللوحة الذي التقت فيه المواد الكيماويّة والجذريّة المختلفة.

هناك صلات بين عمله وحركة الـP&D لأنه يستعمل، بشكل غريب ودائم، نسيجًا مزخرفًا مطبوعًا ومصنّعًا tissus imprimés. يمزج، في صوره وأفلامه وبعض منحوتاته، الفني مع المبتذل التافه الزقاقي والأرتيزانا والصناعي… في عمل له تحت عنوان “Le copiste” في العام 1982 استعمل تخطيطًا لرسم قديم، ثمّ راكب عليه لمسات لونية غلبت عليها الصدفة، فأعطى حجمًا وبعدًا للمنظر الطبيعيّ الرومنطيقيّ.

أفكاره في الفن تفتح بعدًا آخر، وتخلق شكلًا جديدًا من التعبير. يرسم مشاهد دينية ورؤى ملغزة سوداء. جمع كثافة الفولوكلور الفلمندي مع سحر المضيء والمعتم للختم الشرقيles estampes، وخاصة الياباني منه، إلا أنه لا يعزل اليومي عن استراتيجته الفنية. بالنسبة إليه فإنّ الواقع مصفى من خلال السخرية؛ ولا يأخذ شيئًا على محمل الجدّ، والواقع بالنسبة إليه غير واقعي، فهو كذب ونفاق متعارض وغير واع. محترفه مختبر كيميائي؛ يحمل معه دائمًا كاميرا التصوير وكاميرا الفيديو.

بولك هو من الأشخاص المفاتيح للفن المعاصر. كل هذه الأمور جعلت منه واحدًا من كبار ممثلي فن ما بعد الطليعيّ post-avant-gardiste في ثمانينيّات القرن العشرين. نجد أيضًا في هذا المجال “دايفيد سال” David Salle و”جوليان شنايبل”Julian Schnabel.

في المشهد الأميركي نجد فنانين كبارًا، يأتي على رأسهم “دايفيد سال” و”جوليان شنايبل”، حيث ستكون لأعمالهما قابلية العدوى بفناني ما بعد الطليعي Poste avant garde الأوروبيين، وأيضًا ببعث الحيوية والنشاط الأوليّ في الساحة الفنية في الولايات المتحدة الأميركية .

يُعد “دايفيد سال” واحدًا من ممثلي الصورة التصويرية الأميركية الجديدة New Image painting américain ، التي تبدل العناصر الواقعية أو الشعبية بتصوير مُستثمر بطاقة تعبيريّة قوية، بانحراف أو ميل نحو إيقونوغرافية مُقتصدة. نرى هذا المسار في الحكايات الملغزة التصويرية لـ “دايفيد سال” بامتزاجاتها المؤسلبة والمعقدة. يعمل الفنان، على غرار “بولك” و”بيكابيا”، من خلال البروجوكتور والصور بالأسود والأبيض، وطبقات لونيّة شبه شفافة، إضافة إلى تقنيات أخرى وصولًا إلى فن السينما، حيث شكل الجسد الإنسانيّ، وخاصّة الأنثوي، حقلًا لاستكشاف الإنسان. رسم ولوّن المرأة بأوضاع غريبة مختلفة، مركزًا على أعضائها الجنسية، ولا سيّما عضوها التناسليّ على طريقة البورنوغراف. تكشف أعماله، على مستوى المسطحات التقنيّة والشكليّة والدلاليّة، عن توازن خاص ونادر ما بين التاريخ والحاضر، بين الحقيقة البسيكولوجية والفيزيولوجية، بين فن مثقف وتافه، بين أيروتيكيّة وبورنوغرافيّة، بين تفخيم مؤرخ وتفاهة. أظهرت أعماله شكًا في نهاية الزمن، ورغبة سريّة في اجتيازه.


جوليان شنايبل Julian Schnabel

أعمال “شنايبل” لها طابع ووجه شاذ وغريب. وفّق الفنان بين تأثيرات متعدّدة لها طابع أوروبي، وجذور أميركية تعود إلى التعبيرية التجريدية. استوعب هذا الفنان تأثيرات تاريخ الفن ووسائط الصورة – الكليشيه. عاش هذا الفنان بعض الوقت في أوروبا قبل أن ينجح في الذهاب إلى أميركا. تأثر بشكل كبير بأعمال “جوزيف بويز” و”بولك” و”كيفر” Kiefer .

يرسم “شنايبل” ويلوّن على حوامل عدّة كالمخمل والجلود ومحفظات من القنب، ويستعمل أيضًا نتفًا من الصحون والأواني الزجاجيّة وقرون الأيّل، وشقفًا من هياكل السيارة والقطار، وتروس الساعة (دواليب الساعة) وأطراف الخشب. هدف هذا الحجم الهائل لأعماله إلى الإمساك بانتباه المشاهد، لهذا السبب لا يتردد في استعمال حوائج وتأثيرات بدائية لخدمة الخيال التصويري الأخاذ. بحسب تعبيره، فإنّ على عمله أن يسلب لبّ المشاهد، وهذا ما حصل معنا في أثناء مشاهدتنا لأعماله في مركز “جورج بومبيدو” في باريس، في نهاية ثمانينيّات القرن الفائت. بعض عناصر أعماله فيها تصوير باروكيّ، على الرغم من التركيز الذي تستحوذه الصورة على عمله. نجد فيها أيضًا موضوعات دينية، ولا نشكّ أبدًا بلجوء الفنان إلى موضوع القديس سباستيان Saint Sébastien المعذب بالسهام، أو إلى السيد المسيح مصلوبًا. نجد في عمله أن التجريد والتشخيص متحابان ومتآلفان… رموز ومجازات سكنت أعماله، تظهر لنا سحرًا من هذا الخليط الشاذ.

فنانون آخرون معاصرون انضووا تحت تيار الـ P& D كالفنان الايطاليّ “ميمو بالادينو” Mimmo Paladino الذي استوحى تقنية الموزاييك وتمفصلات السجاديات الشرقية والفريسك الكلاسيكي. سجاداته هي نسيج وحياكة الكوسموبولوجيّة للعالم القديم المسيحيّ، وللثقافة البدائيّة الأفريقيّة، وجنوب شرق آسيا.

انطلق “بالادينو” من “تجريدات – علامات” من روحية “بول كلي” و”فاسيلي كاندينسكي”، من فناني الحداثة. وقد ركز على اللونين الأحمر والأصفر كتعبير عن روح وضوء الشرق.

وهناك الفنان “ساندرو شيا” Chia الذي جمع في عمله الكلاسيكيّة الجديدة لـ “بيكاسو”، وشاعرية “شاغال” الحلمية، وقلد في منحوتاته “رودان” Rodin. أمّا موضوعاته فهي شديدة الزقاقيّة والابتذال كعمله، على سبيل المثال، “المدخن ذو القفاز الأصفر” المنفذ في العام 1980، حيث يقف شخص يدخن، وبدلًا من أن ينفث دخانه من فمه نراه يحبق (يضرط)! أو قد يحمل أشخاص لوحاته خنجرًا في أيديهم مستعدين للطعن، وهذه دلالة على الغدر والعدائيّة كعمله المعنون “لعبة أيدي Jeu de mains” المنفذ في العام 1981.

أمّا “دوكوبيل” Dokoupil فقد قدّم في العام 1982 سلسلة مدهشة بعنوان (صور زرقاء عن الحبّ )، حيث نجد في أعماله إشكاليات اجتماعيّة – اقتصاديّة.

على ضوء هذه السخرية نصل إلى توضيح العلاقة المعقدة بين الطليعي l`avant garde وما بعد الطليعي Le poste avant- garde لثمانينيّات القرن العشرين. (للاستزادة حول فنون ما بعد الحداثة أنظر كتابينا: رؤى تشكيليّة ومحطّات تشكيليّة… منشورات الجامعة اللبنانيّة).


خلاصة:

ماذا عسانا نقول في كارثة ما بعد الحداثة وأثرها في كلّ مناحي الحياة بعد كلّ ما رأيناه؟ فما بعد الحداثة وقبلها الحداثة نتيجتان طبيعيّتان للتحوّل الجنونيّ الفكريّ للإنسان الباحث دومًا عن التجديد في الحياة. الخطيئة الأولى كانت في جنّة عدن وشجرة التفّاح، لتكرّ السبّحة وصولًا إلى وقتنا الحالي الذي يمثّل جنون الإنسان، ونعني به “ما بعد الحداثة” بناءً لتوصيف المفكّر الفرنسيّ “ميشال فوكو”.

الحداثة حملت راية موت الإله الذي أحلّت محلّه الإنسان كإله جديد. ما بعد الحداثة قتلت الإنسان ليحلّ محلّه الحيوان والبراز وكلّ أشياء هذه الأرض… ما بعد الحداثة، ما بعد الإنسان، قتلٌ للبشريّة والأرض التي ندمّرها، ولا نحافظ عليها كإرث ووديعة ربّانيّة…


المصدر: المجلة الثقافية الشهرية "البعد الخامس"

تعليقات: