أسواق الجنوب: مواعيد ثابتة لبائعين متحركين

في أحد أسواق الجنوب
في أحد أسواق الجنوب


لأهالي جبل عامل وسكانه مواعيد ثابتة مع أسواقهم على مدار الأسبوع. في هذه الأطراف التي قلّما يحرّكها حدث، باستثناء أحداث الاعتداءات الإسرائيلية الدامية التي استنزفت الأهالي عقوداً طويلة، تظل الأسواق الشعبية التي تملأ القرى والبلدات الجنوبية بحركتها فرصة لتنشيط الدورة الاقتصادية الريفية، ولخلق مساحة للتواصل الاجتماعي بين أبناء القرى المتجاورة، من تجار وبائعين ومتسوقين

لطالما تخطّت قيمة الأسواق الجنوبية «العاملية» حدود تنشيط الدورة الاقتصادية الريفية، لتخلق نسيجاً اجتماعياً مهماً بين أبناء القرى. فالسّوق توجِد حيّزاً للتعارف والتبادل الاجتماعي في المجتمع الريفي. إلا أن هذا الحيّز بدأ يفقد بعض بريقه خلال الربع الأخير من القرن العشرين، وخصوصاً بعد ما لاقته هذه الأسواق من مفاعيل سلبية جراء الاعتداءات الإسرائيلية، المتّسعة والمستمرة منذ عام 1967.

إلى جانب أسواق ثلاث تتمايز في الجنوب لأنها الأكبر، وهي سوق الاثنين في النبطية، وسوق الخان التي يعقد كل يوم ثلاثاء في حاصبيا، وسوق الخميس في بنت جبيل، تتفرّع أسواق أخرى تتوزّع على أيام الأسبوع، وتتزامن مواعيدها أحياناً خلال يوم واحد.

تنتشر معظم هذه الأسواق في قضاء مرجعيون: من سوق الأربعاء في الطّيبة وميس الجبل، والخميس في الخيام، والجمعة في العديسة، والسبت في كفركلا ومجدل سلم، والأحد في برج الملوك ـــ القليعة، إلى سوق الجمعة في تبنين والاثنين في شقرا، والثلاثاء في حاريص قبل الظهر وفي يارون بعد الظهر، والأربعاء في دير انطار في قضاء بنت جبيل.

أما منطقة صور، فلها أيضاً أسواقها: السبت في جويا وفق تقليد بدأ منذ عام 1920، وفي عيتيت حيث بدأ منذ نحو عشر سنوات.

أما سوق الأحد في قانا، فيشاع أنها تقليد يعود إلى 300 عام. وتتوالى الأسواق: يوم الثلاثاء في معركة، والأربعاء في البازورية، والخميس في البرج الشمالي والجمعة في العباسية. طبعاً، من دون إغفال سوق الجمعة في جباع وأنصار.

في ظل تزايد عدد الأسواق، أصبح التجار والباعة يتنقّلون ببضائعهم من سوق إلى أخرى ليشاركوا في كل منها.

هذه هي حال علي سلوم، البائع من النبطية الذي انضم إلى رعيل تجار الأسواق المعروفين بتنقلهم من سوق إلى سوق، منذ نحو عشرين عاماً. ورغم أن سلوم يعتبر نفسه حديث العهد بين التجار، «إلا أن عشرين عاماً من الخبرة في عرض البضائع، في عدد من الأسواق الشعبية، كانت كفيلة بتكريس مروحة من الزبائن الذين ينتظرون قدومي إلى هذه السوق أو تلك لشراء الألبسة. فقد اعتادوا على أسعاري الرخيصة، حتى أنني يمكن أن أصبر عليهم في الدفع من أسبوع إلى آخر».

افتتح سلوم أكثر من محل لبيع الألبسة في الساحة القريبة من المكان الذي يعقد فيه سوق الاثنين في النبطية، إلا أنه لم يستغن عن بسطته الأسبوعية في سوق مدينته، «مع أنني أبيع على البسطة بالأسعار عينها التي أبيع بها في المحل، لكنني أصرّ على المشاركة في سوق الاثنين، لأنني لن أتكبر على المهنة التي جمعت منها رأسمالي، ولأنها تجربتي الأولى في مجال البيع، وأؤمن بأنها تجلب لي الحظ».

كان سلوم يشارك في جميع الأسواق، لكنه اضطر، بسبب كثرة انشغالاته، إلى تقليص دائرة مشاركاته، واختصرها حالياً، كما يشرح، «بسوق الاثنين في النبطية وسوق الخميس في الخيام والجمعة في جباع. وكانت سوق الخيام بالنسبة لي بديلة عن سوق الخان قبل التحرير».

والمشاركة في أسواق عديدة لا تعني تبديل الأسعار بين سوق وأخرى، فـ«الأسعار هي هي، لكن الزبون يختلف بين سوق وأخرى. فالبضاعة التي لا تنفق هنا، يمكن أن تباع هناك. والمصاريف التي نفرضها على البضاعة في المحال بسبب الإيجارات والموظفين، نحسمها من درب زبون السوق، الذي يدفع ثمناً أرخص لأننا لا ندفع سوى رسم يسير للبلديات»، كما يقول سلوم.

إذاً تتفاوت نسب المبيع بين سوق وأخرى، ورغم إجماع معظم تجار الأسواق على أن سوق النبطية هي من أهم الأسواق العاملية، إلا أنهم، بحسب سلوم، يشاركون في الأسواق الأخرى التي «تفيد الزبون أكثر مما تفيد البائع الذي يتحمل كلفة إضافية لقاء التنقل».

يختلف الإقبال على الأسواق بحسب اختلاف الفصول، ومن شهر إلى آخر، وكذلك بين أسبوع وأسبوع، إذ تتحكم الأوضاع الأمنية والاقتصادية بحركة الزبائن. ويرى حسين وهبي، بائع الحلوى المتجول في الأسواق، «أن أشهر الصيف هي الأفضل في البيع، وكذلك أسابيع المناسبات والأعياد.

لكن، وبسبب الأوضاع المعيشية الصعبة، فإننا نكاد أحياناً لا نرد التكلفة في بعض الأسواق. مثلاً، كنا نبيع كيلوغرام الحلوى بثلاثة آلاف ليرة فنربح ألفين، اليوم نبيعه بأربعة ونربح ألف ليرة أو أدنى بقليل». كما يشكو وهبي من مزاحمة البضائع المستوردة والتجار الطارئين «فكيلو الحلوى السوري يباع بألفين من دون مراعاة معايير الجودة وسلامة البضائع، وقد ينسحب الأمر على أنواع متعددة من البضائع، الأقمشة والأحذية والأدوات المنزلية». كما يلفت وهبي إلى أن «نكهة الأسواق تبدلت، لكنه تقليد يظل مستمراً، إذ إنه دخل في النسيج الحياتي لأبناء الجنوب، الذين كثيراً ما يأتي أحدهم إلى السوق ولا يشتري، لكنه يصر على المجيء فقط لأنه اعتاد ارتياد السوق».

تطاول الاحتلال الإسرائيلي وعدوانه على مدى أكثر من ثلاثين عاماً، على أنماط الأسواق في الجنوب: على مواقيتها وساعات انعقادها أو فضّها، وفي كثير من الأحيان على أمكنة عقدها. تسبّب ذلك في ضمور بعضها لفترات محددة استعادت بعدها عافيتها، لكنه حتماً، لم يتسبب في القضاء عليها.

تعليقات: