السوريون المنسيون في مخيماتهم: الطريق إلى الوطن مسدود

في هذا المخيم الفسيح، يطفو الهمّ اليوميّ قاسيًّا، مقيماً في ملامح أطفاله كما شيوخه (Getty)
في هذا المخيم الفسيح، يطفو الهمّ اليوميّ قاسيًّا، مقيماً في ملامح أطفاله كما شيوخه (Getty)


اثنان من أولاد المخيّم قالا إنّ ما يعرفانه عن بلدهما هو أنّها قريبةٌ جدًا، لكن العودة إليها صعبةٌ جدًا. أمّا عن العيش في سوريا، فلا يتجاوز ما سمعاه من أهلهما عن حياتهم فيها أيّام السّلم، وهربهم منها أيّام الحرب، في زمنٍ سبق ولادتهما.

وحين رأيا أهلهم يفرحون بسقوط نظام الأسد، ربّما كان ذلك أوّل اتصالٍ فعليّ لهما مع البلد الذي يحملان جنسيته، ويتكلمان بلهجة ريفه، ويعيشان في مخيمات اللّجوء بسببه. لعلّ هذا ما قصدا إليه عندما قالا: "نعرفها بالاسم". لا أكثر من ذلك. إنّه فقط البلد الذي لفظ أهلهم، فاستقرّوا هنا، على بُعد كيلومتراتٍ قليلة منه.

في أذهان أطفال المخيّم الموحل والبارد، فإنّ سوريا، أي الجغرافيا الّتي يتحدّرون منها، هي الحرب والدمار وما سمعوه وحفظوه عن ألسنة آبائهم. غير ذلك لا يوجد شيء مُرتبط بسوريا، لا في التذكّر ولا في التخيّل..

بين حجريّ الرّحى

كل التكهنّات والأحكام المسبّقة، وحتّى الأمل، الذي صاحب سقوط نظام الأسد بحياةٍ كريمة للاجئين السّوريّين، يجب تناسيها تمامًا وأنت تسير في مخيم اللاجئين السّوريّين في البقاع (قضاء زحلة). هنا ستتجول بين الخيم المنصوبة بشوادر بلاستيكيّة على أرضٍ رخوة ورطبة، هي مزيجٌ من مياه المجاري الآسنة ومياه الأمطار، حيث يعيش الآلاف من اللاجئين الذين لم يتمكنوا من العودة إلى سوريا بعد. اجتماعٌ بشريّ من المئات، يسعى لتدبير "قوت اليوم" من النشاط الزراعيّ الموسميّ. اجتماعٌ بشريّ من "الحالات الإنسانيّة"، محشورٌ هنا عند هامش سهل البقاع المترامي، وعند الحافة الأخيرة الفاصلة بين لبنان – بلد العيش واللجوء والعمل، وسوريا – البلد الأمّ الذي لا مأوى فيه.. بين حجريّ الرّحى.

عند الدخول بدايةً إلى المخيم الذي يحمل الرقم 063، كان علينا التنسيق مع "الشاويش"، الذي اعتذر عن ملاقتنا بسبب إصابته بالمرض. المرض، بكلّ أنواعه وعوارضه، هو أوّل شيءٍ يُلاقيك عند الدخول. هو أوّل أسباب الوفيات في المخيّم. وهو الهمّ الأكبر فيه. ثمّ يأتي دور الأطفال الذين يركضون خلفك متسائلين إذا كنا "الأمم" أم جئنا لافتتاح مدرسة. والمفارقة، يعرّف أطفال المخيّم كيفية التموضع أمام كاميرا، هم الذين تزورهم الصحافة المحليّة والدوليّة، دوريًّا.

أمّا المخيّم الكبير، فهو أوّلًا سلسلةٌ من المتاهة المتصلة، والمنقسمة إلى أحياء عدّة والّتي تقود إلى مخيماتٍ أخرى، وهو ثانيًّا مستودعٌ لمئات العائلات الّتي تعتاش غالبًا على العمل الزراعيّ. مستودعٌ مترامٍ وفسيح على امتداد مئات الأمتار. وإنّ تفاوتت أحجام الخيم بين الأربعة أمتار وأخرى الّتي تفوق الأربعين مترًا، فإن مقدار البؤس لأولئك الرازحين تحت معجن الحروب في بلدهم وبلد لجوئهم فضلًا عن الفاقة الاقتصاديّة والضعف السّاحق والعميم والنكبة المستمرة الّتي يكابدها هؤلاء، تبدو موزعةً بالتساوي، وإن اختلفت أشكالها وتلاوينها وفظاعاتها بين لاجئٍ وآخر.

في هذا المخيم الفسيح، يطفو الهمّ اليوميّ قاسيًّا، مقيماً في ملامح أطفاله كما شيوخه.

أرض المنسيين

فتح سقوط الأسد، وخصوصًا بعد تحقّقه من دون ثأرٍ أهليٍّ أو اشتباكٍ دمويّ منفلت -على غير المعهود- طاقة أملٍ عظيمة أمام الشعب السوريّ المُتشظّي في شتات الأرض، للعودة إلى وطنه، بعد سنواتٍ من التهجيرِ والنفيّ والاغتراب القسريّ. وعادت إلى الواجهة دعواتٌ لبنانيّةٌ تُطالب بإعادة اللاجئين السوريّين فورًا إلى بلادهم، وذلك عقب إعلان سقوط النظام مباشرةً. وتزامنت هذه الدعوات اللبنانيّة مع قرار بعض الدول الأوروبيّة تجميد النظر في طلبات اللجوء الجديدة للسوريّين، على إيقاعِ جدلٍ سياسيٍّ وحقوقيٍّ حول استمرار انطباق صفة "لاجئ" عليهم .وقد بدأت الفعل إبان "التحرير الكبير" مواكب العائدين إلى سوريا لكن بنسبٍ خجولة (راجع "المدن").

وعليه، أوّل سؤالٍ – وعلى بديهيته وفوقيته – نسأله لجمعٍ من اللاجئين الذين وقفوا ليستقبلونا بلهفةٍ واستغراب "لماذا لم تعودوا إلى سوريا؟". كل الإجابات متطابقة. "إلى أين نعود في سوريا؟".

في مخيم 063، يتحدر غالبية القاطنين في هذا المخيم من أرياف المحافظات السّوريّة، وتحديدًا حلب ودير الزور ودرعا، غالبية الأرياف الّتي شهدت أمّ المعارك في السّنوات الأربع عشرة الماضيّة، والّتي سبقها عقود من التهميش والنسيان من قبل النظام الذي لم يرهم سوى "زيادة ديموغرافيّة"، نجح في طردها. لا يُنكر غالبية الذين قابلتهم "المدن" أنّ عشرات العائلات عادت إلى سوريا، إلّا أنّها وجدت منازلها مدمّرة ولا مجال للعودة إلى مناطقها أكان بسبب غياب أي فرصٍ للعمل أو حتّى مأوى، فبعضها عاد خلسة والبعض الآخر نصب خيمة هناك.

تخبرنا لاجئة، واكبتنا في جولتنا، أنّها تتحدر أساسًا من ريف حلب، ومنازلهم السّابقة مصنوعة من الطين "كنا نعتمد على الزراعة البعليّة والموسميّة. اليوم أرضنا محروقة وغير صالحة للزراعة وبيوتنا مهدّمة"، تقول أمّ محمود. وعن معيشتهم في لبنان تُشير إلى أنّهم منذ 13 عامًا يقطنون في سهل البقاع "نشتغل بالزراعة، صحيح أن مردود العمل الزراعيّ اليوميّ (حوالى الست ساعات) والبالغ 4 دولارات لا يكفي أن نشتري وجبة واحدة، لكن هنا نستطيع أن نعمل على الأقلّ".

تقف إحداهن على باب خيمتها، تسأل لاجئةٍ كنا نتحدث معها إن كنا "أمم"، تمط شفتيها نافيةً، لتدخل مُجدّدًا.

أكثر ما يشكو منه قاطنو المخيم هو غياب "الأمم"، أي المفوضيّة السّامية لشؤون اللاجئين، الّتي لم تأتِ لزيارتهم وأوقفت دعمها لهم منذ سقوط النظام، وفق ما قالوا. كما ويشكون من تكرار المداهمات وكثافتها، "نحن ما عنا شي ناكله، من وين بدنا نجيب سلاح؟" يُعلّق أحدهم، ويؤكد: "نحن منسيون، لا السّلطات السّوريّة الجديدة تُريدنا، ولا السّلطات اللّبنانيّة راضية على وجودنا، وحتّى الأمم لم تعد تأتي لزيارتنا وتفقد أحوالنا، والمبالغ القليلة الّتي كنا نحصل عليها سابقًا توقفت فجأة".

"كنتم تحصلون على خرائط لتهربوا، نحن كنا ننتظر صوت الطيران الحربيّ، لنهرب من خيمنا وننام في العراء". يقول لنا أحد أطفال المخيّم، الذي قد جرى استهدافه مراتٍ عدّة، ووقع فيه عددٌ من الإصابات. يأتي ذكر الحرب في حديث أطفال المخيّم، فجأة. وكأنّه لم يكن قد بقيّ إلّا الحرب الإسرائيليّة عليهم، ليقول هؤلاء إنّهم رأوا وقاسوا كلّ شيء. حربٌ تبدأ في بلدهم وتُمطر عليهم صواريخ وبراميل، وحربٌ في بلد لجوئهم لتُمطر عليهم السماء صواريخَ أيضًا. ليصل قدرهم الرهيب إلى منتهاه.

فضلًا عن المعاناة اليوميّة والحرمان والنسيان الذي يعيشونه، يجد هؤلاء أنفسهم بلا أفقٍ واضح، لا يوجد من يرغب باستقبالهم كمهاجرين في أوروبا مثلًا ولا قبولهم كمجتمعاتٍ لاجئة على أراضي البلدان المجاورة أو من يُطالب بهم في بلادهم الأمّ (ويوفّر ظروف عودتهم). هذا التعاطي معهم كـ "زيادة ديموغرافيّة" أو "حالةٍ إنسانيّة" أو "ورقة ضغط بأيدي الحكومات"، بات يبتدع شعورًا عند هؤلاء الذين يعيشون على هامش القضايا بأنّهم غير معنيين بالتحولات السّياسيّة ولا بالتحرير والانعتاق من النظام البعثيّ الذي أوصلهم إلى ما هم عليه اليوم بالمرتبة الأولى. هم متروكون، منسيّون، وغير مرغوبٍ بهم أينما كانوا.

مصائر معلّقة

هكذا يبدو المخيّم وعلى شاكلته عشرات المخيمات في لبنان (الّتي توارت سيرتها في الشهور الأخيرة في زحمة التحرير)، ليس فقط مكانًا للإقامة الموقتة، بل لحياةٍ مؤجّلة. لكلٍّ حكاية وهمّ يوميّ وسيرة ينتظم عقدها ضمن سيرةٍ أكبر وقعت على ملايين السّوريّين، جماعات بأسرها، تعيش على أرضٍ لا تحفظهم ولا تودّعهم.

تعليقات: