شيعة الاحتلال وجذور الفتنة

 صورة السيستاني مرفوعة في النجف
صورة السيستاني مرفوعة في النجف


الكل يتحدّث هذه الأيام عن الفتنة، وهناك من يتخصّص في نفخ نارها، وهناك من يتخصّص في إعداد العدّة لنشوبها، وهناك من يُندِّد بالفتنة فيما يُسلّح ويُموِّل جنود الفتنة وشيوخها...

حديث الفتنة ليس جديداً. لقد شَغَل مؤرّخي الإسلام الأوائل واللاحقين. وخطرُ الفتنة وارد أيضاً في كتابات الفكر السياسي الإسلامي. وهناك من خشي الفتنة إلى درجة تسويغ طاعة الحاكم الظالم مخافة البديل المُتجسِّد بالفوضى أو الفتنة، وكانت تلك نقيصة في الفكر السياسي الإسلامي. وفي تاريخ الإسلام هناك مصطلح «الفتنة الكبرى» في إشارة إلى بداية الحرب الأهليّة في الإسلام. الفتنة الكبرى كانت الشرّ المستطير، ولعلّ ذلك ساهم في إهمال الدارسين والمؤرّخين لها. وسبر أغوار الفتنة الكبرى يصيب الدارس بهاجس الفرقة والانقسام، أو بتهييج الأحزان. هشام جعيط (المفكر التونسي الفذ) وضع دراسة قيّمة بالفرنسيّة (نُشرت في ترجمة ممتازة بالعربيّة) ولاحظ (مُحِقّاً) في المقدّمة أن دراسته هي الأولى من نوعها. صحيح أن طه حسين كتب «الفتنة الكبرى» ولكن كتاب حسين كان ذا نفحة أدبيّة، كما أنه روى ما روى الرواة، بقليل من الزيادة أو من الإنقاص. وطه حسين، خلافاً لسمعته الليبراليّة، كان اعتذاريّاً في دراساته الإسلاميّة ولم يُخضِع النصوص التاريخيّة إلى نقد أو تمحيص في ما يتعلّق بتاريخ الإسلام. كما أنه كان يتلقّى دراسات المُستشرقين «بلا كيف» (وليس من الصدفة أن كتاب طه حسين «في الشعر الجاهلي»، وهو الذي دشّن لسجال ومحاكمة أنهكته وأنهكت الثقافة السياسية المعاصرة في العالم العربي، صدر بعد سنة واحدة فقط من مقالة للمستشرق ديفيد مرغليوت نُشرت في مجلة الجمعيّة الملكيّة الآسيوية عام 1925، وتضمّنت شك الكاتب في تاريخ وضع الشعر الجاهلي)، على طريقة حلّ الفقهاء لمعضلة خلق القرآن. لكن حسين أدرك أن الفتنة أرَّخت لما أتى بعدها. كان الصراع آنذاك بين من يُخلِصُ للدين ومن يُخلص للدنيا، كما وصفه حسين. الصراع لم يؤثّر على السياسة وحدها بل على التاريخ، تنازعت الروايات الرسمية بين قراءات مختلفة لـ«الميتا» ـــ تاريخ النبوي ـــ كما سماها جعيط: بين القراءات السنية والشيعية والعثمانية. ومذاك، دخل الديني في الصراع السياسي ولم يخرج منه إلا في استثناءات تحتاج لدراسة حاول هادي العلوي أن ينبّهنا إلى بعضها.

الفصل المعاصر من الفتنة معروف. لم يبتدئ مع حرب العراق. الفتنة جزء لا يتجزأ من العقيدة الوهابية في تاريخها الطويل والدموي. وكانت السعودية تموّل على مر السنوات كتّاباً وفقهاء من أمثال الكاتب الباكستاني إحسان ظهير للتخصّص في تأجيج نار الفتنة ولإيقاظها متى نامت: دارُ نشر في لاهور ضخّت وتضخّ كمية هائلة من التحريض المذهبي على مر العقود بتمويل نفطي عربي. لن نظلم آل سعود. قد يكون التمويل من أجل دعم العلم والمعرفة والتنوير ـــ أليس التنوير الوهابي هو الذي يجذب محبة كتّاب الليبيراليّة العرب ومؤيديها الذين يتقاطرون إلى مهرجان الجنادرية لنهل الفكر الحرّ؟ مثلما يدعم آل سعود مؤتمرات حوار الأديان التي تستجلب إسرائيل من دون علم الداعي. مصنع للفتنة استمرّ وازداد ضراوة بعد الثورة الإيرانية. الثروة الإيرانية بثّت خطاب الوحدة الإسلامية رسميّاً وكلاميّاً لكنها تبنّت عقيدة الفرقة حتى في داخل الصف الشيعي الاثني عشري (لكنّ «أصالتها» جذبت أدونيس وأنور عبد الملك، الذي تنشّق «ريح الشرق»، وحازم صاغيّة قبل أن يكتشف «أصالة» الثورة الوهابيّة في ما بعد). لم تُجمع المراجع الشيعية على صوابية ولاية الفقيه وفرض نظام الخميني الإقامة الجبريّة على من عارض الفكرة، حتى لو كان الخليفة المُعيّن للخميني نفسه، وكان آل سعود بالمرصاد. زادت الولايات المتحدة من حدة تحالفها الخارجي الرجعي الذي استعر في أفغانستان، لكن إيران تلاقت مع هدف محاربة الشيوعية. فتحت الحرب ضد النظام الشيوعي في أفغانستان (الذي مثّل، كالنظام الماركسي في جنوب اليمن، نموذجاً متطوراً من تبني الدولة للنسويّة والتنوير) أبواباً واسعة أمام قوى ظلامية سلفية تنعّمت بأموال النفط للقضاء على الشيوعية. وكانت الولايات المتحدة منذ الخمسينيات شريكة أساسية في بناء الإسلام الرجعي حول العالم، بالتعاون مع الملك فيصل ومرشده بن باز. لكن المرحلة المتقدمة في الفتنة بين السنّة والشيعة بدأت بعد الغزو الأميركي للعراق، أو تحرير العراق كما يسمّيه بلال خبيز المفتون بمدينة تل أبيب. (وصلت رسالة خبيز إلى عنوانها المقصود، أي الصهاينة، وترجمت مواقع صهيونية على الإنترنت في الغرب رسالة غرامه بتل أبيب كاملة، التي نُشرت في «ملحق النهار» الذي يجزم أن ميشيل كيلو هو السجين السياسي الوحيد في العالم العربي، وأثبتها موقع مارتن كريمر الليكودي. لكن خبيز ليس وحده: فنشرة «المستقبل السلفي» وموقع «ناوحريري» بدآ في وقت واحد في نشر مقالات تدعو للسلام والوئام مع دولة العدو الصهيوني، وأبدى اليساري السابق الهائم بالزيدانيّة حماسة مميّزة في الموضوع).

قامت استراتيجيا الحرب الأميركية على العراق على أساس محض طائفي. وقد اعتبر تقرير لمجموعة الأزمات الدولية صدر قبل عام أو أكثر أن الصراع الطائفي والمذهبي هو نتاج لسياسات محدّدة لسلطة الاحتلال الأميركي. حتى لو عدنا إلى تقرير «الفصل النظيف» الشهير، الصادر عن زمرة ليكوديّة أميركية ـــ وقد حُمِّل أكثر مما يحتمل ـــ لوجدنا حجة وتفسيراً طائفياً ومذهبياً لخطط الاحتلال. قسّم الاحتلال الشعب العراقي شراذم وقبائل وعشائر وشيعاً وطوائف وحارات، واستعان بفريق من الانثروبولوجيّين المزروعين، مثلهم مثل الصحافيّين المزروعين في صفوف قوات الاحتلال: الليبراليّون العرب وجدوا في الهوية العشائريّة تعبيراً عن تنوير مستحدث، مع أن صحيفة «الواشنطن بوست» اعترفت أخيراً ومتأخرة بأن سياسة الصحوات ودعم العشائر ساهمت في زيادة قمع المرأة العراقيّة. رأى المحتلّ أن صدّام ظاهرة سنّيّة، مع أنّ حزب البعث اعتمد على تحالف متعدّد الطوائف، كما أنّ صدّام لم يميّز على أساس الطائفة أو العرق.

الاحتلال تعامل في خطّته للغزو مع تحالف مفترض من أعداء صدّام من الكرد والشيعة. ولعب السيستاني دوراً مهمّاً في تسهيل الحرب والاحتلال، وإطالة أمدها.

سيذكر التاريخ أن فتوى السيستاني بعدم مقاومة الاحتلال صدرت في بيان رسمي لقيادة القوة المركزيّة للقوات المسلحة الأميركية. ورفض السيستاني في موقف سيسجّله التاريخ ضدّه وضد المرجعيّة النجفيّة أن يصدر فتوى أو موقفاً ضد الاحتلال أو التعاون معه. وعندما سُئل مرة «هل تريدون من أبناء الطائفة الشيعية الكريمة أن يتعاونوا مع الإدارة المدنيّة الأميركيّة في العراق؟» أجاب: «الذي نريده هو أن يفسح المجال لتشكيل حكومة منبعثة من إرادة الشعب العراقي» (راجع كتاب «النصوص الصادرة عن سماحة السيد السيستاني في المسألة العراقية»). كلام عام بكلام مبهم يحتمل التأويل الذي أثلج قلب بريمر وبتريوس من بعده. أصبحت بعض فتاوى السيستاني (غير المتعلّقة بحظر الشطرنج) جزءاً لا يتجزأ من البيان العسكري الأميركي الدعائي. لعبت مرجعيّة السيستاني دوراً في تركيب حكومة ظل للاحتلال وإسباغ شرعيّة دينيّة عليه (وسياسيّة أيضاً، لأن المرجعيّة تتمتّع للأسف بصبغة سياسية، وذلك لغياب مرجعية مؤسّساتيّة غير إكليركيّة، بالإضافة إلى تعويل الاحتلال، الأميركي وما سبقه، على السلطات الدينيّة لإفشال إمكان ظهور أحزاب وحركات علمانيّة).

صحيح أن الولايات المتحدة عوّلت على خطة سعودية لإذكاء نار الفتنة المذهبيّة في سبيل حشد تأييد شعبي عربي ضد إيران للتخفيف من المعارضة الشعبيّة العربية لوجود إسرائيل، كما أن الولايات المتحدة أرادت مساعدة عربيّة لمحاربة الدور الإيراني في العراق (الذي راوح بين مساعدة الاحتلال ودعم مقاومة الاحتلال). السعودية لبّت الطلب الأميركي صاغرة، على عادتها، كما أن عقيدتها الدينيّة تتطابق بالكامل مع تسعير نار الفتنة المذهبية. لكن كيف يمكن إنكار حقيقة أن شيعة الاحتلال في العراق شكّلوا الطرف الآخر من الفتنة؟ وإذا كانت معادلة رقصة التانغو تقتضي وجود شخصين، فإن الفتنة المذهبيّة تتطلّب مشاركة من أطراف وحركات وأحزاب وشخصيّات من مذهبين اثنين. لا يمكن استسهال تفسير الصراع المذهبي عبر الإشارة إلى المخطط السعودي ـــ الأميركي ـــ الإسرائيلي فقط. هناك أطراف شيعة طائفيّون فاعلون في العراق (وفي خارج العراق) سهّلوا إمرار وحتى تأجيج مخطّط الفتنة. إن الدور الذي لعبته ميليشا بدر الطائفيّة (التي تمتّعت وتتمتّع بدعم إيراني وأميركي) في تفصيل دولة الاحتلال (وأنظمته الانتخابيّة) على مقاس طائفي مذهبي حادّ يستفيد لا من محاولة للملمة صفوف الشعب العراقي بل من الأكثرية العدديّة للطائفة الشيعيّة. ونقل زوّار السيستاني عنه كلاماً طائفيّاً يقارنُ فيه بين دور الشيعة في العشرينيات وبينه في الحقبة الجديدة من الاحتلال.

ومنظمة بدر (أو المجلس الأعلى للثورة الأميركيّة ـــ الإيرانيّة في العراق) شاركت في تركيبة طائفيّة ومذهبيّة، وهي مسؤولة أكثر من غيرها من الأطراف (بالإضافة إلى سلطة الاحتلال المسؤولة) عن قمع الشعب الفلسطيني اللاجئ في العراق أو تهجيره. منظمة بدر تشكّلت بقرار إيراني، وأثْرت وسيطرت على ثروة العراق بقرار إيراني وبمباركة أميركيّة. بدأت بالطاعة للفقيه الإيراني، لكنها عندما تبدّلت الظروف عادت وأبدلت فقيهاً بفقيه، لإرضاء الأميركي. وإذا كانت عقيدة منظمة بدر قد بدأت في تكوينها الجنيني على أساس ولاية الفقيه، فإنها تطورت لتصبح صارمة في إيمانها بولاية المحتل الأميركي، ومن يختاره هو من الفقهاء. وإذا كان قرار القاعدة في بلاد الرافدين بتحريك جذوة الفتنة بين السنة والشيعة متطابقاً مع الاستغلال الأميركي للشقاق المذهبي، فإن منظمة بدر سارعت للانضواء في أتون الفتنة، وتعاملت مع الدولة (القائمة تحت الاحتلال وبإرادته) كأنها قطاع محض مذهبي. لم يخفِ عبد العزيز الحكيم (الذي كان لسنوات قائداً لميليشيا بدر المذهبيّة) نياته الطائفيّة، وسارع بعد الاحتلال إلى طلب تقسيم العراق كانتونات مذهبيّة. وهذه الميليشيا هي التي ساعدت في تسهيل المخطط السعودي لتسعير نار الفتنة عندما اشتعلت. كان سهلاً على المحور السعودي أن يشير بالبنان إلى تجربة بدر (وحلفائه الطائفيّين في العراق) للحديث عن مخطط مذهبي شيعي. كان من الممكن لحزب الله أن يفوّت على الحكم الوهابي الفرصة لو أنه اختار أن يدين بشدّة مخطّط بدر، وتهجيرها الوحشي لإخوتنا الفلسطينيّين في العراق (القابعين في خيم حتى اليوم على الحدود السوريّة ـــ العراقيّة)، وأن يندّد بأدوات الاحتلال في العراق، على اختلاف طوائفهم ومللهم ونحلهم. لكن موقف حزب الله راوح بين الصمت والكلام المهذّب (والمائع) عن هؤلاء الذين «اختاروا المسيرة السياسية». أي إن حزب الله يرى في خدمة الاحتلال الأميركي مجرّد وجهة نظر، تحتمل التأويل والتفسير والاختلاف. هل ينطبق هذا الحكم اللطيف على من خدم الاحتلال الإسرائيلي في لبنان أيضاً؟ مسيرة سياسيّة؟ هل كان بشير الجميل مجرد رجل قبل بـ«المسيرة السياسية»؟ وهل لاحظ حزب الله أن موقفه الليّن من أدوات الاحتلال في العراق قد سهّل مهمة المخطط الوهابي المذهبي بتصوير موقف الحزب انعكاساً للتعاضد المذهبي الصرف؟

أما السيستاني فكان مُعيناً للاحتلال منذ بدء الغزو، وإن كان الاحتلال يعمل على أكثر من صعيد. فقد افترض أن تحالفاً إثنياً وطائفياً مع الكرد والشيعة يستطيع أن يتحمّل تهميش السنة وإقصاءهم في عمليّة سياسيّة مستعارة من النظام اللبناني الكريه. واستعان الاحتلال بفقيه آخر: أسقطت المروحيات العسكرية الأميركية عبد المجيد الخوئي في أرض جنوب العراق بعد أسابيع على بدء الغزو. كان مولجاً بمهمة الترويج للاحتلال، كما يروّج أحمد الأسعد للاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان عبر رفض منطق الدفاع عن جنوب لبنان. ونشط السيستاني في إعطاء فتاوى (كم ترزح منطقتنا تحت ثقل الفتاوى! هل من فتوى عليا لتقليص عدد الفتاوى أو وقفها حتى إشعار آخر؟ وأين كانت الفتاوى عندما كان شيخ الأزهر، المُتخصّص في منع الكتب وحرقها، يشدّ بكلتا يديه على يد شمعون بيريز؟) من أجل تسويغ الاحتلال الأميركي في كل مفاصله. أدرك الاحتلال أهميّة السيستاني له، وتذكُر كتب أميركيّة صدرت عن الحرب أن مهمة الحفاظ على حياة السيستاني أصبحت حيوية لدى سلطة الاحتلال بعد مقتل الخوئي (المزنّر بآلاف الدولارات). ذكرت تلك الكتب أن القوات المحتلة عملت بسرعة على تشكيل ميليشيا قبليّة لحماية السيستاني من جمهور غاضب آنذاك. سدّد السيستاني الدَّين. شَرّعَ كل ما يصدر عن الاحتلال مع اختلافات بسيطة لا تبرز إلا لماماً، وكان حميد كرزاي أكثر نقداً لاحتلال بلاده، وهو مثال الحاكم الدمية، (وأصبح اسمه سبّة في عالمنا العربي، ولم يتذكر ياسر عبد ربّه في حديثه الطويل والتضليلي في صحيفة الأمير خالد بن سلطان أن يروي كيف كان ياسر عرفات ينادي محمود عباس باسم حميد كرزاي فلسطين) من السيستاني نفسه.

كان مقتدى الصدر (النزق الخلق) يقول إنه سيقاوم الفرقة بين السنّة والشيعة. وكان يقول كلاماً جميلاً في هذا الصدد. وفي معركة حرق الفالوجة، أظهر الصدر تضامناً مع أهل الفالوجة المعذبين. لكن ميليشيا جيش المهدي لم تلبث أن تحوّلت إلى ميليشيا طائفيّة وقمعيّة، مثلها في ذلك مثل ميليشيا بدر ومثل ميليشيات القاعدة أو ميليشيات الاحتلال المدعومة من السعودية وبأسماء الصحوة. الكل دخل في اللعبة. وحده الحزب الشيوعي العراقي كان له لو أراد أن يعارض مسار التيّار. لكن هذا الحزب يشكل تذكيراً حيّاً بمأساة محنة اليسار العربي التي شارك في صنعها الحزب الشيوعي العراقي بمساهمة من أحزاب البكداشيّة العربية. تحوّل الحزب الذي تحالف مع صدّام يوماً (كان ذلك بعدما أدلى عزيز الحاج باعترافاته الشهيرة أمام الصحّاف) إلى أداة صغيرة وهامشيّة بيد المحتلّ. كيف سيمحو التاريخ عار مشاركته في مجلس بريمر المُعيّن؟

والسيستاني عزيز على البعض في لبنان، وهناك من أنصار حركة أمل من يقلّده. هم يقلّدون السيستاني، والسيستاني يقلّد بول بريمر، ثم يسألون عن أسباب خراب البصرة... والسيستاني بات عنواناً للإذعان للاحتلال، فيما يتلهّى بإصدار فتاوى ضد الشطرنج واللهو البريء. والسيستاني يحاول أن يبدو حازماً لكن همومه طائفيّة بحتة. إنه مثقل بهمّ تعزيز الثقل السياسي الشيعي، حتى لو كان ذلك على حساب الطوائف الأخرى، أو على حساب العراق نفسه. ومنتقدو عراق الاحتلال من القوميّين العرب يركّزون في أحاديثهم على دور الأكراد السلبي وعلى تقديمهم (عبر الزعيمين المُبجّلين) خدمات جلّى للمُستعمِر. كل ذلك صحيح، ومن المخيف أن تحالفات الزعيميْن القبليّيْن للأكراد ستلحق ضراراً كبيراً بالأكراد، وخصوصاً على المدى الطويل، بعد أن ينسحب المحتلّ جارّاً أذيال الخيبة والهزيمة. والأكراد ضحايا مرات ثلاثاً: مرة على يد العرب، ومرة على يد الزعيميْن الكردييْن (لا يذكر أدعياء الليبيراليّة من العرب أن آلافاً من الأكراد قضوا جرّاء الحرب الأهليّة الكرديّة في التسعينيات)، ومرة ثالثة على يد الأجانب من أميركيّين وإيرانيّين وإسرائيليّين من الذين استعملوا الأكراد واستخدموهم ورموهم وقوداً عبر السنين. وسرّب السيستاني كعادته كلاماً مبهماً عن اتفاق الاحتلال الدائم الذي وقعته حكومة الاحتلال العراقيّة مع إدارة الاحتلال نفسها. والسيستاني لا يصرّح إلا بالكلام المُبهم حتى يختبئ وراء ما سماه كيسنيجر «الإبهام البنّاء». قال السيستاني إنه حريص جداً على السيادة، وإنه سيرقب المسيرة السياسية بعين الحريص على السيادة العراقية. لكن الفقيه لم يشرح لنا مفهومه للسيادة في ظل جنود الاحتلال ومن يعاونهم. والفقيه لم يعترض عند سماع أخبار القتل الأميركي الدوري للمدنيّين والمدنيّات في العراق (نتيجة الخطأ غير المقصود طبعاً، آلاف مؤلّفة من الأخطاء غير المقصودة). الفقيه لم يعترض على اجتياح أميركا للعراق، وإن كان طلب من أتباعه سؤال جيوش الاحتلال بتهذيب شديد عن موعد المغادرة.

للفتنة الجارية أذناب وأذناب. ولها رؤوس أيضاً. من السهل رؤية المحرّك السعودي، ولكن من الأصعب رؤية التطابق بين أطراف الفتنة المتعدّدي المذاهب. كانت حكومة آل سعود ماضية من دون شروط في تحريك الفتنة خدمة للحليف الأميركي الذي ظن بحماقته أنه سيقنع الرأي العام العربي بأن لا خطر عليه إلا الخطر الإيراني. وذهبت مملكة القهر الوهّابي بعيداً في إثارة الفتنة وتسعيرها، لكنها أدركت متأخرة أن الفتنة سلاح ذو حدود أو نصال ثلاثة: 1) فهي تستدعي منظمات وحركات وتيارات من الأصوليات التكفيرية التي غالباً ما تخرج عن السيطرة، كما حصل مع آل الحريري عندما استدعوا من استدعوا لمهمّة تنشيط الصراع المذهبي. وتلك التيّارات البن لادنيّة تجيد بثّ أفكار الفتنة المذهبيّة وسمومها، لكنّها تأتمر لا هي ترتئيه، لا بما يرتئيه من ينفعها ظرفيّاً ومن يموّلها مصلحيّاً. 2) أدركت مملكة بن باز أن تسعير الفتنة المذهبيّة يسبّب تراصّاً مذهبيّاً في الطرف الآخر. وهكذا، ازداد تأييد الشيعة لحزب الله في لبنان، رغم محاولات لا تنتهي من تنصيب شيعة لآل سعود (أمثال مفتي صور المطرود) كأولياء على شؤون شيعة البلد. 3) تتسبّب إثارة الفتنة بزعزعة استقرار الأنظمة الخليجيّة لوجود أقليّات شيعيّة فيها. خفّف آل سعود وآل الحريري من غلوائهم عندما أدركوا أن حلفاءهم يخرجون من القمقم ليحرجوهم (مع أن خالد ضاهر تنويري على مذهب حازم صاغية ورفاقه من اليساريّين السابقين).

الفتنة الحالية جزء من إرث عقيدة بوش ولن تختفي بسهولة، وخصوصاً أن أطراف الصراع في لبنان وفي العراق هم من الطائفيّين في الجهتين. لكن وليد جنبلاط عاد من واشنطن مقتنعاً بأن «كوندي» رايس «مُحِبّة». لكن الحبّ ما هو إلا للحبيب الأوّل.

* أستاذ العلوم السياسيّة

تعليقات: