شهداء صيدا في ذكرى احتلالها: «تصبحون على ساحة»

صيدا ــ

لولا تلك اللوحة الرخامية التي تعرف بالمكان وبضعة حجارة تتخذ شكلاً مقوساً، فلا شيء يوحي بأنك أمام «ساحة للشهداء» في صيدا، بل ترى نفسك أمام ساحة غطّتها الأعشاب و«تعمشقت» على سياجها شتلات يابسة كان من المفترض أن تكون وروداً ورياحين.

من المسؤول عن هذا الإهمال واستطراداً من المسؤول عن «تبخيس» قدسية الشهداء التي تتجسّد لهم في البلاد التي تقدر معنى الاستشهاد «نُصباً» وأماكن لـ «الجندي المجهول» ومزارات، خصوصاً أن أولئك الذين يرقدون تحت ترابها بالمئات، وقد استشهدوا خلال الاجتياح الإسرائيلي للمدينة في حزيران عام 198، وتتفاوت الأرقام حول عدد المدفونين بين قائل إن العدد يناهز الأربعمئة شهيد لبناني وفلسطيني وآخر يجزم أن العدد أكبر من ذلك بكثير، خصوصاً أن الشهداء هم حصيلة جزء من المجازر التي ارتكبتها إسرائيل في صيدا (بنايةجاد ــــــ التي سقط فيها ما يقارب مئة ضحية ــــــ القناية ــــــ التكميلية ــــــ مدرسة الثانوية ــــــ مدرسة الأميركان ــــــ مساكن الجيش ــــــ ملجأ سهل الصباغ ــــــ وملاجئ أخرى) فضلاً عن آخرين قضوا في الشوارع ولا سيما وسط المدينة وبالقرب من البحر وقبالة مدرسة الراهبات والبساتين والمنازل، إضافة الى عشرات المقاتلين الفلسطينيين واللبنانيين الذين سقطوا في التصدي للاحتلال، وكلها تعقّد الأمور في تحديد رقم دقيق، ولا سيما مع وجود جثث مشوهة أو مجهولة الهوية.

والمدفونون في الساحة التي تقع عند مفارق الطرقات المؤدية الى السرايا والبحر والجنوب في منطقة الدكرمان، والتي تشبه كل شيء الا الاسم الذي تحمله، يجسدون الوحدة الوطنية، فالشهداء المسلمون يجاورون عدداً من الشهداء المسيحيين، وفيها من هو سنّيّ وآخر شيعي، وفيها اللبناني والفلسطيني على حد سواء.

وعلى الرغم من افتقار الساحة الى «الدالة» القيمية والرمزية، فإن المكان يمثّل محواً للعديد من الأنشطة التي تقيمها القوى السياسية في المدينة بمختلف أطيافها وتلويناتها، سواء منها اللبنانية أو الفلسطينية، ولا سيما تلك النشاطات المرتبطة بالصراع العربي ــــــ الإسرائيلي والموقف من الولايات المتحدة الأميركية، كذلك تزور المكان وفود عربية ودولية بين الحين والآخر.

محاولات نادرة، وربما يتيمة جرت لتطوير ساحة الشهداء بما يليق بعظمة من قدم الدماء ولكي تكون شاهدة على جرائم الاحتلال وهمجيته، بينها واحدة قام بها التنظيم الشعبي الناصري، الذي عهد في عام 1988 الى الفنان شربل فارس تصميم نصب تذكاري وبعد إتمامه ووضعه في الساحة لم يمكث فيها أكثر من يومين، إذ تعرض النصب الى التفجير على أيدي عناصر أصولية متطرفة، ترى في «النصب التذكارية» مجرد «تقديس» لتماثيل وثنية تتعارض مع الإسلام، وبعدما رمّم الفنان فارس النصب المستهدف عاود «الأصوليون» بعد أقل من أربع وعشرين ساعة على رفعه الى استهدافه مجدداً فأقلع «الناصريون» عن الفكرة، وبقي النصب مهشماً سجين أحد المكاتب.

ويستغرب العديد من أبناء المدينة، بقاء الوضع على ما هو عليه وكيف تبقى هذه الساحة غير محظية بأية التفاتة، ولطالما حوّلها بعض «الفتية» الى ملعب للكرة أو لإجراء تدريبات رياضية، ولا من يعبأ بقدسية هذا المكان ولا لرائحة الشهادة التي تعبق به، ويبقى السؤال الأساسي لماذا لا يقدم المعنيون على خطوة تعطي للساحة قيمتها الأخلاقية والإنسانية والوطنية في احترام «الشهداء» وتخليد ذكراهم، وإلى متى يبقى «ضحايا» ساحة الشهداء ضحية الأهمال وعدم اكتراث أصحاب الحل والربط؟ علماً بأن رئيس البلدية الدكتور عبد الرحمن البزري كان قد أعلن مراراً وفي أوقات سابقة نية المجلس البلدي تنظيم ساحة الشهداء وإخضاعها لمخطط توجيهي جديد وتقويم المفهوم العام للساحة ودراسة تنظيم حركة المرور وإعادة الاعتبار إلى المواد المكونة التجميلية للساحة بما يجسّد بُعدها الوطني والإنساني، غير أن شيئاً على أرض الواقع لم يحصل، وتبقى الساحة في انتظار تحقيق الوعود، علماً أنه وعلى بعد كيلومترات معدودة من ساحة الشهداء، يحظى عشرات القتلى الإنكليز ممن قتلوا في لبنان خلال الحرب العالمية، بالإقامة في «مقبرة» (تربة الإنكليز) من خمس نجوم، وتوكل السفارة البريطانية شؤونها الى من يهتم بها دائماً. الفرق أن الأجانب يحترمون موتاهم فيما نحن نبخس شهداءنا.

تعليقات: