.. وماذا عن التلفزيون؟ هل يستسلم للإنترنت؟


أذهلتني الملاحظة. كنت أظن أن تأثير الانترنت على الصحافة المكتوبة هو الموضوع الذي يأخذ الحيّز الاكبر من النقاش الاعلامي نظراً الى إلحاحه والخسائر التي تُمنى بها الصحف وخصوصاً في الغرب، عندما كنت أتحدث في الموضوع مع شخصية تلفزيونية اميركية فقالت: "صحافة الورق انتهت. لقد دخلنا اليوم مرحلة موت التلفزيون".

موت التلفزيون؟ استنتاج مخيف. قلت إما انه مبالغة وإما انه حكم متسرع. لطالما اعتبرت أن ثورة تكنولوجيا الاتصالات أعطت التلفزيون ميزات اضافية جعلته مدى عقود سيد التغطية المصورة والحيّة للاخبار او الاحداث المهمة محلياً او دولياً وسيد برامج التسلية والمسلسلات والافلام. ولطالما اعتبرت ان الانترنت بما توفّره من منافذ لضخ المادة والصورة فتحت آفاقاً جديدة للبشرية. ولكن يبدو أن النظرة من داخل صناعة التلفزيون مختلفة ومفادها أن ما فعلته الانترنت بصحف الحبر والورق بدأت تفعله الآن بالتلفزيونات وإن بدرجة أقل وأبطأ. وها هي تضعه على الحد بين أن يستسلم لها فينتهي أو أن يعيد اختراع دوره مستفيداً منها ومتكاملاً معها ليبقى ويتطوّر بل ليحفظ موقعاً متقدماً لنفسه في بث البرامج، اخبارية توثيقية كانت أم تثقيفية أم ترفيهية، وطبعاً ليحفظ الثروة التي يحتاج الى تدفقها من الاعلانات.

وهذا صحيح الى حد كبير. فما تفعله الانترنت بالتلفزيون يصيب جوهر ما قام عليه:

كانت محطة التلفزيون تقرر للمشاهد ماذا يشاهد ومتى يشاهد. جاءت الانترنت لتسقط كل حواجز الزمان والمكان وتفتح العالم بعضه على البعض وتتيح لأي شخص أن يشاهد ما يريد وقت يريد. وليس القصد البرامج الاخبارية وحدها. ففي النهاية، إن أحد الادوار الاساسية للتلفزيون هو الترفيه. والانترنت فتحت مجالات واسعة جداً للفيديو أونلاين، من برامج تلفزيونية أو أفلام، مجاناً أو مدفوعة بكلفة بسيطة.

كانت محطة التلفزيون تبث الخبر واذا لم تُعد بثه انتهى. لا يمكن المشاهد أن يحفظه كما يحفظ القارئ خبراً من صحيفة ورقية. لا ذاكرة عملياً. جاءت الانترنت بقدرتها على تخزين المادة لتجعل الوصول ممكناً الى أي خبر بُث في أي وقت.

بهذا المعنى صارت الانترنت تلزيوناً زائداً أكثر بكثير لأنه يلبي كل طلبات المشاهد أو المستهلك. بفضلها صار المشاهد هو المحور وليس محطة التلفزيون. هو يتحكم بالبرمجة وليس هي. وهو يتحكم بما يشاهد ومتى يشاهد حتى من برامج التلفزيون نفسها. واذا لم تعجبه هذه البرامج فله أن يختار بين مواقع عدة ومادة أكبر.

باختصار أنهت الانترنت زمن الاحتكار الذي مارسته محطات التلفزيون وصار المطلوب تلفزيون على طلب المشاهد. برمجة على الطلب. تسلية على الطلب. أخبار على الطلب. المشاهد هو صاحب القرار.

فماذا تفعل صناعة التلفزيون إزاء هذا الواقع الجديد وهل بهذه السهولة تترك الانترنت تبتلعها؟ تقوض دورها بعد عقود من السيطرة تسرق منها المشاهدين؟ تسرق الاعلانات؟

مسيرة التلفزيون هي اساساً مسيرة اختراق تكنولوجي كبير غيّر المشهد العام كلياً في القرن العشرين اذ أحدث اختراقاً اعلامياً وثقافياً يفتح آفاقاً جديدة من وصل العالم بعضه بالبعض. وساهمت التكنولوجيا في تطوير هذه المسيرة في الشكل والمضمون والارسال وطبعاً في استقطاب المشاهدين.

منذ اختراعه دخل ببطء بعض المنازل في الغرب وظل انتشاره محدوداً الى ما بعد الحرب العالمية الثانية. ثم شهد انتشاره الفعلي ابتداء من مطلع الخمسينات وكانت القفزة الواسعة مطلع الستينات. وفي لبنان لا شك في أن كثيرين يتذكرون دخول التلفزيون منازلهم في 1959 عندما تأسست شركة التلفزيون اللبنانية.

من يتذكر تلك الفترة من المشاهدين لا بد انه يتذكر كيف كان التلفزيون. جهازاً ضخماً نسبياً مقارنة بحجم شاشته. دخل البيوت وتصدّر غرف الجلوس فيها. صار هو محور السهرات لأن ساعات البث كانت غالباً في المساء. الصغار ينتظرون أوقات عرض الرسوم المتحركة. الكبار ينتظرون الاخبار والافلام والمسلسلات وبرامج التسلية. وصار محور أحاديث الناس. ومن يتذكر تلك الفترة لا بد انه يتذكر ايضاً أن الصورة كانت بالاسود والابيض وان الارسال كان يتقطع أحياناً كما يختفي الصوت أحياناً. لكن مجرد وجود هذا الجهاز الذي ينطق وتتحرك الشخصيات على شاشته وينقل العالم الى غرفة الجلوس كان شيئاً يشبه المعجزة.

وتدريجاً بدأ التلفزيون يتغير. شكل الجهاز تغير. المؤخر الكبير تقلّص والشاشة كبرت واستقامت حتى بلغنا زمن الشاشات الرقيقة جداً بلا مؤخر. بلازما وغيرها. الصورة تغيرت. الاسود والابيض صار ملوناً والملون صار أوضح حتى بلغنا زمن الوضوح العالي وثمة من يقول إن كل ما نملكه من وضوح اليوم لا يفي الالوان الحقيقية حقها بعد. البرامج تغيرت. صارت أكثر تنوعاً وأكثر جذباً للمشاهدين مع قيام محطات جديدة. بدأ التلفزيون يغير موقعه في المنازل فتسلل من غرف الجلوس الى الغرف الاخرى إما بسبب تضارب البرامج ومشاهديها في المنزل نفسه وإما لحاجة فصل الاولاد مثلاً عن أهلهم بالنسبة الى ما يشاهدون. الارسال تغير. فبعدما كانت البرامج مسجلة او حتى التقارير الاخبارية مسجلة بدأ البث الحي يضفي حيوية جديدة على المادة التلفزيونية.

وهكذا استمر توسّع التلفزيون وتقدم تقنياته. فبعدما كان عدد المحطات محدوداً بدأ يتكاثر وسمحت الاقمار الاصطناعية بالتقاط بث محطات خارجية وصار المشاهد قادراً على التقاط المئات منها على جهازه. وبعدما كانت المحطات أرضية صارت فضائية وصار في إمكان المشاهد الذي يعيش خارج حدود بلده قريباً أو بعيداً أن يلتقط الفضائيات التي يريد. وبعدما كان البث تقليدياً بدأ يصير رقمياً مما يعني نوعية متطورة للصورة وقدرة على تسجيل المادة التي تبث وتخزينها في الكومبيوتر. دول أوروبية عدة انتقلت الى البث الرقمي واميركا تستعد له في شباط المقبل.

ومثلما تغير التلفزيون على المشاهدين، تغير على العاملين فيه. تغطية أي حدث اختلفت الى حد مذهل. كانت أمراً صعباً ومكلفاً. كان المراسل التلفزيوني يذهب الى موقع ما ومعه فريق من المصورين ومهندسي الصوت والضوء محمّلين بمعدات وكاميرات من الوزن الثقيل. ومتى انتهوا من التصوير تبدأ صعوبة ايصال المادة الى الاستوديو. لكن المعدات صغرت وحلت بعض الكاميرات محل فرق بأكملها وتطورت وسائل نقل المادة الى الاستوديوات حتى صار مباشراً وعبر الاقمار الاصطناعية... وأكثر من ذلك. صار في وسع المراسل أن يذهب وحده الى موقع الخبر ومعه "فيديو فون" ويعطي رسالته مباشرة ولو بصورة مشوشة. وتكفي المقارنة في تغطية العراق بين "عاصفة الصحراء" في 1991 واحتلاله في 2003. في عاصفة الصحراء كانت "السي أن أن" تغطي 24 ساعة. الصحافيون يجمعون موادهم وينتظرون في مواقعهم لصعوبة نقل المعدات. والمعدات في شاحنات عليها صحون لاقطة لاقمار اصطناعية تزن أطناناً. والمراسلون مزودون هواتف "ساتيلايت" يزن الواحد منها عشرات الكيلوغرامات. أما في 2003، فأتاحت التكنولوجيا المتطورة تغطية حية من كل الجبهات. صحافي واحد في الموقع بدل فريق ومعه كاميرا صغيرة معلقة على خوذته و"فيديو فون" لبث الرسالة.

ولنعترف بأن ما من شيء غيّر التلفزيون مثل البث الحي. أي حدث سواء أكان كارثة طبيعية أم حرباً أم مجرد مطاردة لسارقين أو لقاء لمشاهير، يصير كالمغناطيس للمشاهدين لأنه يوجد لديهم شعوراً بالمشاركة في صنع هذا "التاريخ". الكل يريد أن يعرف ما يحصل ويريد أن يعرف في الوقت الذي يعرف الآخرون. ولنعترف ايضاً بأن هذا البث الحي الذي جعل الناس، أينما كانوا، يعيشون أحداث العالم في الوقت الحقيقي "ريل تايم" قصّر عملياً عمر الخبر وجعل المشاهد يريد المزيد وإلا فقد اهتمامه.

ولعل هذه إحدى الحاجات التي تلبيها الانترنت بفضل تنوعها واتساعها ومرونتها. فكل التطورات التي قفزت بالتلفزيون الى آفاق جديدة، لم تستطع أن تسد الفجوة التي أحدثتها الانترنت في عمله: التلفزيون لم يعد المنفذ الوحيد المتحكم بالمادة والصورة حتى لو بث 24 ساعة، ثم انه غير قادر على منح المشاهد المرونة التي يطلبها للتحكم في البرامج وفي استعادة خبر ما أو مسلسل فاتته رؤيته أو في الغوص في المادة القديمة أو في متابعة أي خبر في العالم لحظة بلحظة. بكلام آخر، إن الجمهور الذي كان التلفزيون يخدمه صار يتلقى خدمات أفضل من أماكن أخرى وصارت البدائل أمامه كثيرة. كيف؟ لنأخذ بعض الامثلة:

الفيديو أون لاين بديل أساسي. ففي اميركا وحدها لاحظ الخبراء تحولاً دراماتيكياً في كمية الفيديو التي يشاهدها الاميركيون على الانترنت هذه السنة: شاهدوا 10 مليارات فيديو في شهر شباط وحده وهذا ارتفاع بنسبة 66 في المئة عن شباط 2007. واذا كان الفيديو أون لاين مجانياً كتلك الاشرطة التي يبثها موقع "يوتيوب" فالبدائل تزداد. أولاد في اميركا مثلاً يتابعون على هذا الموقع فيلم "اكشن" ياباني اسمه "ناروتو" لا تعرضه التلفزيونات الاميركية. وهكذا في غير اميركا واليابان وعلى مواقع أخرى ولدى فئات عمرية مختلفة. وثمة "بدائل" تلفزيونية على الانترنت. في الرياضة مثلاً، يمكن المشتركين في موقع "ام ال بي تي" مشاهدة 2500 مباراة بايسبول في السنة ويمكنهم متابعة سبق مباريات في الوقت عينه. واذا صادف انهم يتابعون الست وثمة مباراة تعنيهم غير معروضة في تلك اللحظة، فإن الموقع يرسل اليهم تنبيهات خاصة عن تقدم المباراة ونتائجها. أما في الاخبار، فازدادت المواقع التي تلبي طلبات معينة للمهتمين غير القادرين على انتظار موعد نشرة الاخبار التلفزيونية أو حتى مراجعة الانترنت في أي وقت. فموقع "بوليتيكال لانش. كوم" مثلاً يصدر تقريره الالكتروني وقت الغداء ليشبع حاجة المهتمين بالسياسة ولكن من غير المهووسين بها، فيقرأونه وهم يتناولون وجبة سريعة ليعودوا الى عملهم.

هذا طبعاً غير ان من يريد متابعة خبر ما صار أسهل له أن يراجع الانترنت وليس التلفزيون لتنوع المصادر فيها اضافة الى مواقع مثل "يوتيوب" أو غيرها من مواقع، اخبارية كانت أم مدونات "بلوغز"، تضع المادة والاشرطة المصورة مباشرة على الانترنت لتصير في متناول العالم فوراً.

مجرد امثلة. والواقع أكبر بكثير وأكثر تنوعاً واتساعاً.

هذا ما يهدد التلفزيونات. وقد بدأت تشعر بوطأته مع ازدياد هجرة المشاهدين الى الانترنت. وكان لا بد أن تقاوم الخطر خصوصاً انه لم يبلغ بعد مرحلة تكبيدها خسائر، اضافة الى انها لا تزال تمتلك من الثقة بنفسها ما يجعلها قادرة على ذلك. التلفزيونات تعرف ان لديها أكثرية المادة التي يريد الناس متابعتها، وتعرف انها مصدر معظم المادة المصورة الموجودة على الانترنت. وقد أظهرت الاستطلاعات ان عدداً كبيراً من المشاهدين يلجأ الى الانترنت لمشاهدة برامج تلفزيونية فاتته. تحركت سريعاً بانشاء مواقعها الموسعة على الانترنت وحاولت تطويق أي اجراء يمكن أن يسحب قرار بث برامجها الكترونياً من يدها. واذا دخلنا الموقع الالكتروني لأي محطة تلفزيونية كبرى ندرك انه هو يصير المحور وليس قناة الارسال. فما نشاهده على المحطة من برامج هو جزء بسيط مما يمكننا الوصول اليه عبر الموقع. "بي بي سي" مثلاً لديها موقع شامل، مؤسسة اعلامية متكاملة صار التلفزيون والاذاعة جزءاً منها فقط. المستخدم قادر على الوصول الى أي برنامج يعرض اليوم أو عرض في السابق وقادر على الاطلاع على آخر الاخبار وتحديثها وأن يستفيد من اي خدمة تقدمها المحطة باللغات المتوافرة. حتى مثلاً من يريد أن "يتعلم الانكليزية" لم يعد في حاجة الى انتظار موعد البرنامج اذا كان له وصول الى الانترنت. يعود اليه وقت يشاء. وأكثر من ذلك، فإن المعروض ليس مادة الـ"بي بي سي" فحسب بل وصلات الى مواقع أخرى تفتح مجالاً أوسع للمعرفة والمقارنة سواء أكانت مواقع رسمية أو غير رسمية أم مواقع صحف أم مراكز ابحاث.

والحال مشابه في موقع "سي أن أن" من حيث الشمولية والمرونة وتحديث الاخبار والاشرطة المصورة ومناقشات اضافية لمواضيع تكون مختصرة نسبياً على التلفزيون. وهكذا ايضاً مع المحطات التي تبث برامج تسلية ومسلسلات. فهذه تضع المادة على مواقعها بحيث تمنح المشاهد المرونة للتحرك بين البرامج وأوقات مشاهدتها مما لم يكن متوافراً لديه من قبل.

وبهذا المعنى فإن المواقع تتحوّل الاساس لعمل المحطة. فكما ان الصحف الكبرى تنشر أخباراً في الطبعة الورقية وتعيد القارئ الى الموقع الالكتروني للاطلاع على الخلفية والخرائط والصور والأشرطة وغيرها، كذلك صارت التلفزيونات تبث برامج وتعيد المشاهد الى الموقع لمزيد من التغطية

ويبدو ان التلفزيونات تعلمت كثيراً من تجربة صناعة الموسيقى التي اهتزت بفعل اقدام شركة "ابل" على بيع الأغاني مباشرة من المستهلكين عبر برنامج "آي تيونز" ثم حاولت ان تفعل الأمر نفسه معها. فقد رفض بعض التلفزيونات هذا "التوزيع البديل" لبرامجها واصرت على ابقاء السيطرة في يدها. فمحطة "ان بي سي" مثلاً عمدت الى سحب برامجها من "آي تيونز" لخلاف مع "أبل" على الاسعار والقرارات المتعلقة بالسوق والآن صارت هي تعرض تحميل برامجها مباشرة من موقعها بل تعرض على المستخدم برمجة على الطلب.

وفي جهد آخر لتطويق الأضرار المحتملة من الانترنت يتكتل بعض الاستوديوات لانشاء مواقع على الانترنت تعرض العناوين الاساسية لأفلامها من الفيديو على أمل جذب مشاهدين "أون لاين" لها من مواقع أخرى على الانترنت. فمثلاً أطلقت استوديوات "فوكس" و"أن بي سي" و"يونيفرسال" قبل أشهر موقعاً مشتركاً هو "هولو. كوم". وطبعاً هو موقع مدعوم باعلانات لا بد ان تتزايد لكسب مزيد من المشاهدين. بل هي اعلانات مفصلة أيضاً على قياس ما يحتاج اليه المشاهد "أون لاين"، أي اعلانات قصيرة جداً أو مجرّد "فلاشات".

لكن المواقع الالكترونية ليست الوسيلة الوحيدة التي تقاوم بها التلفزيونات تهديد الانترنت. فهي تتأقلم في برامجها وتغطياتها الاخبارية مع المفاهيم الجديدة التي نشرتها الانترنت وخصوصاً سرعة الوصول الى الخبر والتفاعل معه، ومع ما توفره الأجهزة الالكترونية المرتبطة بالانترنت من فرص، مثل الهواتف الخليوية المزودة كاميرات.

صحيح ان الهواتف الخليوية مع كاميرات غيرت المشهد الاعلامي بأن فتحت آفاقاً جديدة لا سابق لها في الوصول الى الخبر والصورة في أسرع وقت، حتى بل الصحافي نفسه، وان المؤسسات الاعلامية كانت ستستفيد منها بمعزل عن الانترنت. ولكن صحيح أيضاً ان قرارها بدمجها في التغطية صار أكثر إلحاحاً بسبب الانترنت. ذلك ان مؤسسة تلفزيونية عريقة تستخدم هذه التكنولوجيا قادرة على الغاء قيمة مواقع اخبارية عشوائية أو متطفّلة على الاخبار وقادرة على تأمين مادة عالية الاحتراف لا يمكن إلا أن تجذب المشاهدين أكثر من مادة الهواة.

ولعل نقطة التحوّل كانت في 2004. تذكروا. عندما حصلت تسونامي في جنوب شرق آسيا وأودت بأكثر من 200 الف شخص، كانت الصور الأولى التي شاهدناها صوراً التقطها أشخاص عاديون بهواتفهم الخليوية وكانت الصور الأكثر مأسوية.

ثم في تموز 2005 حصلت انفجارات القطارات في لندن وكانت الصور الأولى ايضاً لاشخاص التقطوها بكاميرات هواتفهم. هذا الأمر كان كفيلاً بتغيير مفهوم الخبر في "البي بي سي" فيومذاك تلقت المحطة 20 الف رسالة الكترونية و300 صورة وشريط فيديو وثلاثة آلاف رسالة قصيرة على الخليوي في يوم واحد. وبعدها قال مسؤول فيها: اكتشفنا يومها اننا لم نعد نملك الأخبار.

هكذا صارت "البي بي سي" سباقة في استخدام هذه التقنيات وفي الاستفادة من الشهود الذين دخلوا في فئة ما صار باسم "صحافة الشارع" أو "المواطن الصحافي" (سيتيزن جورناليست). فتحت الباب أمام الشهود يضعون المادة التي يرون أو الشرائط التي يصورون مباشرة على موقعها على الانترنت ولديها من يتابع هذه المادة ليصار الى استخدامها في التغطيات. بل حتى ان الموقع الالكتروني للمحطة يسأل في نهاية اي خبر مستعجل أو غير مستعجل: هل انت قريب من الحدث؟ هل شاهدت ما حصل؟ هل لديك صور أو مادة عنه؟ هل لديك ما تقوله؟ ضعه على الموقع.

وكالة "رويترز" ايضاً اطلقت مع شركة محرك البحث "ياهو" برنامجاً مشابهاً اسمه "موجو" وهو اختصار بالانكليزية لـ"موبايل جورناليست" أو "الصحافي المتحرك" على أمل تحويل كل شخص في العالم صحافياً مصوراً مخبراً للوكالة. والفكرة من دمج الناس العاديين في صناعة الخبر تتعزز نظراً الى تزايد الطلب على متابعة الأحدث في الوقت الحقيقي. وهو ما يسعى اليه مستخدمو الانترنت من خلال القفز بين المواقع بحثاً عن مثل هذه المادة. لذا فإن الفكرة بدأت تنتشر في عدد كبير من وسائل الاعلام في مناطق مختلفة من العالم.

باختصار، صارت الانترنت هي الاساس الذي يعيد تعريف عمل التلفزيونات مثلما يعيد تعريف عمل وسائل الاعلام الأخرى. وهذا ما تقر به صناعة التلفزيون. ولكن هل يعني هذا ان الانترنت ستقتل التلفزيون؟

قلة يحسمون الجواب الآن، اذ لا شك في ان المنافسة شديدة، خصوصاً ان استطلاعات الرأي تظهر ان الوقت الذي يمضيه الناس ولا سيما الشباب على الانترنت اطول من الوقت الذي يمضونه على التلفزيون وهو ان تجعل المنافسة متكافئة نوعاً ما بمزيد من ارضاء مستخدمي الانترنت وذلك بجذبهم الى مواقعها.

البعض يرى عوامل كثيرة تصب في مصلحة التلفزيون منها مثلاً التحوّل الى شاشات عملاقة في المنازل والى صورة عالية النوعية والى تنكولوجيات تسمح للمشاهد ان يتحكم حتى بالارسال الحي بحيث يستطيع توقيفه بعض الوقت ليستكمله لاحقاً. هذه مغرية للعين وتوفر مرونة معينة. وهناك ايضاً من يقول بعدم استعداد الناس لمشاهدة فيديو او برنامج طويل على شاشة الكومبيوتر. ولكن اذا صمدت هذه العوامل بضع سنوات فإنها ستسقط لاحقاً. ذلك انه منذ الآن بات في امكان المشاهد للفيديو أون لاين ان يصل جهاز الكومبيوتر بشاشة التلفزين ويتابع برنامجه على الشاشة الكبيرة.

وفي المقابل يذهب آخرون مثل آل ليبرمان من جامعة نيويورك الى القول إن كلمة تلفزيون ستصير بائدة قريباً "وستحل محلها كلمة ما تتعلق بايصال المادة الى المشاهد أو بقدرة المشاهد على البرمجة".

أياً تكن التوقعات، فإن التلفزيون الذي عرفناه عقوداً يتغير ولا يبدو ان استمراره من دون اعتماد كبير على الانترنت ممكن. فما فعلته الانترنت يصعب العودة عنه. قد تصير التلفزيونات في المستقبل أنظمة خليطاً مما هي ومن الانترنت. وهذا هو الأرجح. وقد يصير الارسال التلفزيوني الى المنازل عبر شبكة انترنت خاصة. وهذا هو الاتجاه.

تعليقات: