الشاعر حسن عبدالله.. هل هناك حياة للقصيدة بعد «الدردارة»؟

شاعر الخيام الكبير الأستاذ حسن عبدالله
شاعر الخيام الكبير الأستاذ حسن عبدالله


صاحب أحد أعذب الأصوات الشعريّة في جيل السبعينات، يعيش في الهامش مثل «صيّاد الفخّ». حياته كلها تحدث بين مقهيين في بيروت: «كافيه دو باري» نهاراً و»سيتي كافيه» مساءً. الطفولة سبب هذا الشاعر العصفور… الطفولة كلّ أسبابه

يظنّ الشاعر حسن عبدالله أنّي أطارده، ألم أصادفه مرتين في الأسبوع نفسه، وكنت قد هاتفته لأطلب موعداً؟ أربكني بسؤاله إن كنت أترصّده، اعتقدتُ بأنّه يمزح، إلّا أنّه كان في منتهى الجديّة حتى خلت أنّي أثرت ريبة الرجل. وأخيراً التقيت «صيّاد الفخ» في مقهى الـ «سيتي كافيه» في الحمرا. ورغم برد بيروت ومطرها، يجلس عبدالله على طاولة في الخارج، يخلعُ قبعته الكحلية أمام عدسة المصوّر، يسألني عن منظر شعره، فأطلب منه أن يهذبه من جهة اليمين، رغم أنّه لا يحتاج إلى ذلك حقاً، لكنّ سؤاله الطفولي الدافئ اضطرني إلى الإجابة بمنطق المسؤولية وبدفء مماثل.

يروقني أن ألقّبه بـ«صيّاد الفخ» عنوان إحدى قصائده. إذ سمِعته يسترسل في الحديث عن العصافير التي يجيد اصطيادها، أنواعها وألوانها وطباعها. يستطيع عبدالله أن يتكهّن إلى أي جهة سيحلّق هذا الطائر أو ذاك، يميناً أم يساراً. طائره المفضل هو أبو الحن، ولولا أشجار الخيام وجنائنها، لما كان لأبي الحنّ وجود. هكذا هي الأمور كما يراها الشاعر العصفور: «أذكرُ من حديد الصيف فَخَّ حسن خليل وبأسه المائيّ/ أنا هناكَ في العصفور».

ولولا رحلة الشتاء والصيف في منطقة الخيام، لما قُيِّد لعبدالله أن يكون شاعراً. بفضل تلك الرحلة، عاش طفولةً جنوبيةً لن يكون بعيداً عن الدقة عندما يصفها بالـ«الملحميّة». كان أهل الخيام ينتقلون صيفاً للعيش في الحقول، لكل عائلة خيمة تنصبها بين الكروم وحول نبع الدردارة، الحياة كلّها كانت تنتقل إلى الخارج. هكذا أتيح للأطفال والمراهقين أن يكونوا خارجين على القانون أيضاً، بالمعنى الحرفي لا المجازي للكلمة. كان عبدالله فرداً في عصابة من المراهقين: لصوص الحدائق والبساتين بقيادة «الماريشال تيتو» المندفعين بهراواتهم، يضربون النواطير ويحاكمون الناس ويحبسون مَن يخرج عن إرادتهم.

وحين يحلّ الشتاء، يعود حسن خليل شاعراً، كما يعي ويذكر نفسه، وكما كتب أولى قصائده وهو بعمر اثني عشر عاماً. عاش في بيئة تهوى الروايات والسير الشعبية التي كان يحفظها عن ظهر قلب، ليرويها لعماته الأميّات، ثم يعيد روايتها لرفاقه. ومثلما يسمعون أخبار أدباء المهجر يؤسسون لأنفسهم رابطة قلمية، راحوا يقتنون مكتبة ويدخلون في جدل رصين ومعظمهم لم يتجاوز الرابعة عشرة: «لم أتعامل مع نفسي كأديب مثلما تعاملت مع نفسي في تلك الفترة. مع الوقت، ضعف لدي حس الأديب وتميّزه ورسالته».

يفرد عبدالله جل حديثه لاستعادة تلك الأيام... تشعر من نبرة صوته وتوقّد عينيه بأنّها ذهبُ حياته. حماسته تفتر بالتدريج، كلّما ابتعد عن أيام الدردارة... مثلما قلَّ نتاجه الشعري أيضاً بعد الدردارة المكان والقصيدة. ظهرت «الدردارة» في ديوان حمل اسمها سنة 1981، ووضع فيها عبدالله شيطنة شعرية سحرية، جعلت منه في ذلك الوقت أحد نجوم الشعر بحقّ، وخصوصاً تلك المجموعة التي أطلق عليها لاحقاً تسمية «شعراء الجنوب» وضجّت بها الجامعة اللبنانية، وكليّة التربية، في تلك السنوات.

كان قدومه إلى بيروت سنة (1964) انتقالاً حاسماً في حياته، التحق بمعهد إعداد المعلمين، والتقى مدرستين أدبيتين: في الأولى، تعرّف إلى أصحاب مجلة «شعر» الذين أتاحوا له فرصة الاطّلاع على قصيدة النثر والشعر الأوروبي، فأحبّ نيرودا. وفي الثانية، التقى أصحاب «الآداب» وأجواء شعر التفعيلة في العالم العربي فتعلّق ببدر شاكر السيّاب... وكان يحفظ دواوينه عن ظهر قلب. لكنّه لم يفكّر في نشر قصائده في المجلات والصحف قط، إذ كان يفضّل أن تظهر في كتاب. هكذا، طبع ديوانه الأول أواخر السبعينيات بعنوان «أذكر أنني أحببت»، مجموعة اختار مرسيل خليفة أن يلحّن منها «أجمل الأمهات» و«من أين أدخل في الوطن». (القصيدتان في أسفل الصفحة)

وفي «ثانوية صيدا الرسمية للبنات»، عُيِّن عبدالله معلّماً، حيث التقى صديق عمره مهدي عامل (حسن حمدان) وتزامل مع حمزة عبود وحسن داوود... أمّا ناظرة المدرسة، فكانت يمنى العيد. ولنا أن نتخيّل مكاناً يجتمع فيه هؤلاء المثقفون معاً. انجذب عبدالله إلى الشيوعية عن طريق الأدب، فقد وجد في الأعمال الروسية العظيمة ما يشبهه، وما هو قريب من تكوينه النفسيّ... لكنه لم ينتسب للحزب بصورة فعلية: «كنّا موجودين ولم يشعر بوجودنا أحد، وخرجنا ولم يشعر أحد بوجودنا أيضاً».

كان عامل يهديه مؤلفاته ممهورة بأربع كلمات «أعرف أنك لن تقرأ الكتاب». وقد يكون مرد ذلك لغة عامل التي يصفها عبدالله بأنها معقّدة وصعبة، بينما كان حديثه عذباً وسلساً. حين اغتيل عامل، أدرك حسن أنّ حياته الآن لم تعد كما كانت، وأن طمأنينته خسرت الكثير من أسبابها. وفي 1977، انقلب مصير الكتابة لدى حسن حين قرر كتابة ستّ قصص للأطفال مستجيباً لدعوة دار «الفتى العربي»، لكنّ القصص ستصدر في النهاية عن سلسلة «جنة الأطفال» في «دار الفارابي».

ومنذ ذلك الوقت، يبدو أنّ شاعرنا وجد نفسه أقرب إلى عالم الطفولة من الكبار، استغرقته كتابة هذا الأدب وتوالت إصداراته. أكثرها شهرة «أنا الألف» التي لحّنها وليد غلمية، وباتت أشهر أغنيات أجيال من الأطفال في العالم العربي. حتى بات الحس الطريف والفكاهي يميّز قصيدة عبدالله عن كربلائية شعراء الجنوب. ويمكن أن نلمح ذلك في ديوانه الأخير «راعي الضباب»، حيث آثار الكون الطفولي تسبّب تراجع مفردات عالم الكبار.

لم يتزوج حسن خليل عبدالله. يعيش في شقته في رأس بيروت، تفاصيل حياته كلها تحدث ما بين مقهى «كافيه دو باري» نهاراً و«سيتي كافيه» مساءً مع أصحابه الشعراء. البيت له وحده، مكان الأصدقاء في المقهى، فـ«صيّاد الفخ» يؤثر البقاء وحيداً ينصب الكمائن لعصافير حكاياته وأقاصيصه... الطفولة سبب هذا الشاعر العصفور، الطفولة هي كل أسبابه.

5 تواريخ:

1964

القدوم إلى بيروت للدراسة في معهد المعلمين

1977

ستّ قصص للأطفال صدرت عن سلسلة «جنة الأطفال» (دار الفارابي)

1981

صدور ديوان «الدردارة» (الفارابي)

1995

كتب المسلسل التلفزيوني «طبيب الغابة» من إنتاج شركة «الذات» في بيروت

2008

قصة وسيناريو فيلم «مازن والنملة» من إخراج برهان علوية وأنتجته قناة «الجزيرة» للأطفال

--------------------------------------------

* للتواصل مع شاعر الخيام الكبير الأستاذ حسن عبدالله:

خليوي: 9613635392 +

ثابت : 9611740483 +

-------------------------------------------

قصيدة أجمل الأمهات هي من روائع الشاعر حسن عبد الله

التي غناها مارسيل خليفة:

أجمل الأمهات التي انتظرت إبنها…

أجمل الأمهات التي انتظرتهُ,

وعادْ…

عادَ مستشهداً.

فبكتْ دمعتين ووردة

ولم تنزوِ في ثياب الحداد

***

لم تَنتهِ الحرب

لكنَّهُ عادَ

ذابلةٌ بندقيتُهُ

ويداهُ محايدتان….

***

أجمل الأمهات التي… عينها لا تنامْ

تظل تراقبُ نجماً يحوم على جثة في الظلام…

***

لن نتراجع عن دمه المتقدّم في الأرض

لن نتراجع عن حُبِّنا للجبال التي شربت روحه

فاكتست شجراً جارياً نحوَ صيف الحقول.

صامدون هنا, (صامدون هنا) قرب هذا الدمار العظيم,

وفي يدِنا يلمعُ الرعب, في يدِنا. في القلبِ غصنُ الوفاء النضير.

صامدون هنا, (صامدون هنا) … باتجاه الجدار الأخير

-----------------------------------------------------

قصيدة "من أين أدخل الوطن" (لحنها وغناها أيضاً مارسيل خليفة):

ودخلت في بيروت... من بوابة الدارالوحيدة

شاهراً حبي ففر الحاجز الرملي...

وانقشعت تضاريس الوطن

* * *

من أين أدخل في الوطن...

من بابه؟ من شرفة الفقراء ؟

أيها الجبل البعيد أتيت... أتيت يا وطني

أتيت يا وطني...

صباح الخير... كيف تسير أحوال القرى والقمح

والثلج العظيم ... ومجدنا والأرز يا وطني... يا وطني

يا وطني أريدك عالياً كالغصن...

وأريد أن أفديك

وأطلق ما في قلبي من رصاص...

ضد هذا الراس فوق الرمل...

* * *

كانت أولاً بيروت...

واقفة إلى الفقراء

ثم أتوا إليها من وراء المال والألقاب

وابتدأ الرصاص

وقسموك ولم توافق... قسموك ولم توافق

وانتزعتك من بنادقهم...

بأن أعلنت وقتي... حيث ينطفئون

صوتي حيث... ينهدمون

بيتي... حيث ينهدمون

تعليقات: