حكايات عن الهجرات والحروب والثورات العتيقة

  أبو عفيف - عيد العدس
أبو عفيف - عيد العدس


بلغ ابو عفيف 98 عاماً ولا يزال وجهه "يفور دماً وصحة" وهو يجول في بلدته راشيا الفخار تتقدمه عصاه ذاهباً الى قداس الاحد، ولا يفوت خدمة كنسية او واجباً اجتماعياً من دون ان يستعين بأحد الا بالرب الذي أمد بعمره ومنحه الصحة والنظر السليم والسمع الرهيف.

إنه احد النماذج القليلة المتبقية للرجال الاصحاء الجسم والعقول في القرى والبلدات اللبنانية النائية والتي لم تطالها المدنية بالتلوث البيئي والتمدن.

الهجرة والحلاق القروي

ولد ابو عفيف - عيد العدس عام 1910 في راشيا الفخار في البيت عينه الذي يقطنه اليوم. وهو من عائلة كبيرة ضمت اربعة اشقاء وشقيقتين جرياً على عادة المجتمعات الريفية قديماً في انجاب الكثير من الاولاد. ونتيجة لضيق الاحوال والعسر الشديد وما كان من امر الهجرة التي ضربت لبنان عقب انتهاء الحرب العالمية الاولى، انضم شقيقان لعيد العدس الى قوافل المهاجرين الى البرازيل حيث انقطعت اخبارهم ولم يعد يعرف عنهم شيئاً. اما شقيق ابو عفيف الثالث فقد اختار ان يكون مدرساً للاولاد في راشيا ولاحقاً اصبح كاهناً ارثوذكسياً، وهو الاب اسبيردون العدس الشهير في زحلة صاحب المواقف والعظات الرنانة.

وبسبب ضيق ذات اليد وصعوبة تحصيل لقمة العيش اختار ابو عفيف البقاء في راشيا وكان يعمل في الزراعة مع اهله الى ان تعلم مهنة الحلاقة بالفطرة، ويقول في ذلك: "تعلمت قص الشعر مني لوحدي ومشي معي الكار". واصبح حلاق الضيعة يحمل "شنطة المقصات والموسى والمجلخ والامشاط وبخاخ المياه وفرشاة الحلاقة وصابونة" وغيرها من عدة الحلاقة ويجول بها على ابناء بلدته والقرى المجاورة لقص الشعر ليتقاضى بدل اتعابه سنوياً "مد قمح" (ما يعادل 20 كيلوغراماً) من كل قرية، بناء على اتفاق مع مخاتير هذه القرى الذين كانوا يهتمون على ما يبدو بأناقة مواطنيهم وصحتهم العامة.

الصور والحروب

شهد عام 1933 حدثين في حياة ابو عفيف، الاول كان زواجه من مسعدة معلوف، والثاني افتتاحه صالون حلاقة في بلدته راشيا في محلة "التوان" (جمع آتون)، فأحضر له تجهيزاته من اماكن مختلفة. ومنها كرسي خيزران مرتفع ليتحكم براس الزبائن ومرآة متوسطة الحجم كانت كافية لكي يرى الزبون ما يفعله المعلم ابو عفيف صاحب اول محل تزيين للشعر في كل انحاء الجنوب ربما. وعندما وقعت الحرب العالمية الثانية وصلت قوات الحلفاء الى راشيا في طريقها شمالاً في اتجاه بيروت، فقام الجنود بقص شعرهم لدى ابو عفيف، ثم زودوه بملصقات دعائية تؤيد الحلفاء واهدافهم في الحرب، فقام ابو عفيف بوضعها على جدران دكان صالون الحلاقة ومن بينها صور للرؤساء ايزنهاور وتشرشل وستالين وديغول.

ويتذكر ابو عفيف ان الناس استمرت تقصد صالونه الصغير لرؤية هذه الملصقات التاريخية، لكن الاجتياح الاسرائيلي عام 1978 او ما اصطلح على تسميته "عملية الليطاني" دمر بيوت راشيا الجميلة وازال قرميدها الاحمر بعدما حولتها التنظيمات الفلسطينية المسلحة الى متراس للقتال، واخذت الحرب الفلسطينية – الاسرائيلية في طريقها دكان ابو عفيف الاثري وملصقاته التاريخية. وعندما وصلت القوات الدولية تلك السنة تنفيذاً للقرار 425 وانتشرت في انحاء الجنوب لم يجد جنود الوحدة النورجية افضل من ابو عفيف حلاقاً يقصون شعرهم على يديه خصوصاً انه كان يتقن بعض الكلمات الانكليزية التي اهلته ايضاً لأن يكون صلة الوصل بين المسنين من الاهالي والقوة الدولية.

التعليم والثورة

رزق عيد العدس سبعة اولاد هم نادرة، ليلى، عفيف، فريال، ولسن، اميرة وكوكب، فأرسلهم جميعاً الى مدرسة راشيا ولاحقاً ذهب عدد منهم الى النبطية وصيدا لتعلم المهن الحرة فاصبح أحدهم مدرساً في التعليم الرسمي جرياً على عادة ابناء الجنوب في الانضمام الى دار المعلمين لتعلم مهنة التدريس الفضلى لديهم لما يرافقها من امتيازات.

يتذكر ابو عفيف بعد كل هذه السنين الطويلة ايام المجاعة في الحرب العالمية الاولى عندما حاصر العسكر التركي لبنان ومنع عن مواطنيه الامدادات والقمح، فأخذ الاهالي يأكلون خبز الشعير للنجاة بعائلاتهم من شبح المجاعة الذي ازداد وطأة بعد قدوم الجراد عام 1914. وفي ذاكرة ابو عفيف الطفل ابن الاعوام الاربعة انذاك مشاهد محفورة عميقاً في ذاكرته عن الجنود الاتراك يسوقون الشبان المسيحيين من راشيا زرافات زرافات، الى السفربرلك او التجنيد القسري والسخرة في خدمة الامبراطورية العثمانية التي كانت تشمل كل من بلغ سن 14 عاماً وخسر ابو عفيف في تلك الايام الحزينة من تاريخ لبنان عمه او والد زوجته مسعدة معلوف الذي توفي في تركيا نتيجة المعاملة الصعبة التي كان يتعرض لها المجندون في اعمال السخرة.

اما الثورة السورية الدرزية ضد الفرنسيين عام 1925 فيذكرها ابو عفيف جيداً وخصوصاً ما قام به مختار راشيا وزعيمها في ذلك الحين مسعود مراد الذي تفاوض مع احد قادة الثورة والمدعو نايف مرعي واتفق معه على جمع المؤون من خبز ومياه وسمن وغيره وتسليمها الى الثوار المتوجهين شمالاً في اتجاه البقاع وحاصبيا شريطة ان لا يدخلوا الى راشيا وهذا ما جرى.

إعدامات في ابل السقي

في ذكريات ابو عفيف صور عن الحرب العالمية الثانية واهوالها الكثيرة التي عانى منها اهالي منطقة حاصبيا-مرجعيون بعدما تحولت ساحة قتال بين قوات فيشي المتحصنة على امتداد الحدود المواجهة لشمال فلسطين وقوات الحلفاء المتقدمة. ويذكر ابو عفيف جيداً الحادثة الشهيرة في بلدة ابل السقي عندما هرب فرنسيو فيشي تاركين سلاحهم وراءهم فقام الاهالي بأخذها، لكن الحلفاء انسحبوا فبادر فرنسيو فيشي الى الانتقام من الاهالي واعدموا ثمانية شبان من ابل السقي رمياً بالرصاص. لكن الحادثة الاخطر كانت ما جرى في راشيا التي اتخذ فرنسيو فيشي من كنيستها مقراً لقواتهم التي سرعان ما انهزمت امام زحف الحلفاء وانسحبت شمالاً في اتجاه حاصبيا مخلفة وراءها الكثير من القتلى والجرحى وخصوصاً الجنود من اصل شركسي، فبادر اهالي راشيا الى تضميد جراحهم ومساعدتهم، لكن اصحاب النيات السيئة اخذوا ينشرون اشاعات عن قيام اهالي راشيا بقتل الجنود الشركس وحرقهم في افران الفخار. وخشية ان يصيب اهالي راشيا ما اصاب شباب ابل السقي، قرر الشباب والرجال الهرب طلباً للسلامة واتجهوا الى بلدة جباثا الزيت في الجولان السوري ولبثوا هناك الى ان دخلت قوات الحلفاء الى المنطقة فعادوا الى بلدتهم آمنين.

النكبة والفخار

يتحسر ابو عفيف على ايام زمان عندما كان عدد المقيمين في راشيا حوالى 2500 نسمة يعملون في الزراعات المختلفة ولا يتركون زاوية في الحقول والبراري من دون ان يزرعوها قمحاً وشعيراً وخضراً وزيتوناً اضافة الى صناعة الفخار التي كانت تضم 72 مشغلاً تصنع انواع الاباريق والجرار والخوابي والصحون والقدور وغيره من المصنوعات الفخارية التي كانت تجد طريقها الى اسواق فلسطين وسوريا ولبنان وكانت صنعة أو حرفة مزدهرة جداً تعتاش منها عشرات العائلات آمنة ومكتفية. لكن الاحوال اخذت تتردى منذ 1948 مع نكبة فلسطين عندما تحولت القرى الحدودية الى ساحة حرب لم تعرف الهدوء حتى يومنا هذا. ويذكر ابو عفيف جيداً انه انتخب مختاراً ورئيس بلدية في الوقت عينه وكان يتولى ادارة امور بلدته اضافة الى ادارة دكان الحلاقة الصغير.

القوميون السوريون

تزخر ذاكرة ابو عفيف بالمرويات، ومنها عن ثورة القوميين السوريين عندما طوقت قوة كبيرة من الدرك والجيش اللبناني بقيادة القومندان حيدر راشيا عام 1948 وطلبت منه بصفته مختار البلدة مرافقتهم لمداهمة منزل نواف حردان، احد ابرز مساعدي زعيم الحزب القومي انطون سعادة، وكان للقوميين في راشيا بقيادة نواف حردان وشقيقه حليم دور كبير فيها، لكن الثورة القومية السورية فشلت واخذت الدولة اللبنانية في تعقب القوميين. ويذكر ابو عفيف ان القوى العسكرية فجرت منزل نواف حردان انتقاماً رغم انه لم يكن موجوداً هناك ورغم ان الزعيم أنطون سعادة لم يحضر الى راشيا ولو لمرة واحدة بل حضر عنه مساعده جبران جريج برفقة نواف حردان وشاب من آل معلولي عملوا على نشر الفكر القومي السوري بين الاصدقاء والانصار. وفي عام 1952 جرت الانتخابات البلدية والاختيارية وتنافس القوميون السوريون مع ابناء بلدتهم من مناصري الحزب الشيوعي وفاز القوميون بفارق صوت واحد وانتخب رشيد ابرهيم يوسف مختاراً وخسر ابو عفيف بفارق صوت واحد نتيجة "خيانة" احد اقاربه على ما يتذكر.

وعندما تولى الرئيس كميل شمعون سدة الرئاسة ووقف في وجه الوحدة العربية التي قادها الرئيس جمال عبد الناصر انقسمت راشيا بين مؤيدين وموالين ووقف القوميون الى جانب الرئيس شمعون في حين لجأ الشيوعيون من ابناء راشيا الى الاراضي السورية المجاورة والتجأوا الى زعيم الحزب الشيوعي السوري خالد بكداش الذي يذكره ابو عفيف جيداً. لكن الشيوعيين قرروا العودة مع اندلاع احداث 1958 ومعهم الدعم من سوريا بالسلاح والرجال، فهرب القوميون مرة جديدة واستمر الامر سجالاً بين الطرفين الى ان انتهت الحرب الاهلية الى منطق لا غالب ولا مغلوب وعاد كل مواطن الى بيته.

سر العمر المديد

سر عمر ابوعفيف المديد، بسيط جداً فهو يأكل المآكل كلها ولا يمنع نفسه عن اي طعام. ورغم مرور 15 عاماً على وفاة زوجته ام عفيف الا انه يتدبر امره في شكل جيد ولا يشكو من شيء. وسره الذي يبوح به نصيحة الى الاخرين: السير او المشي مسافة كيلومتين يومياً، وعدم "التعجيق" في الاكل. لكن الاهم برأيه ان لا يتوقف الانسان عن العمل. وابو عفيف زرع نصوب زيتون كثيرة ويواظب على العناية بها وهو ايضاً لا يدخن ابداً ولا يتناول المشروبات الروحية الا مرة واحدة نهار الاحد، كأساً واحدة من العرق البلدي. كما يمتنع ايضاً عن شرب القهوة فترة ما بعد الظهر كي لا تتسبب له بالقلق ليلاً.

يواظب ابو عفيف على القراءة رغم انه لم يجد نظارات تناسب عينيه تماماً وهو يقرأ الكتب المقدسة من الانجيل والقرآن الى العهد القديم الذي تعجبه فيه الفصول عن الانبياء موسى وايليا وآشعيا وزكريا وسفر الملوك. اما فصول العهد الجديد فتعجبه جميعاً وهو يعيد قراءة الفصول مرات عدة ويستزيد منها يومياً. اما القرآن فيعتبر ابو عفيف ان آياته ممتازة وتعجبه جداً سورة مريم وسورة آل عمران. وهو يعتبر ان الايمان بالله شيء جميل جداً شرط ان يحسن الانسان فهم الدين ويتعمق فيه من دون تعصب او تحجر، بل ان يقبل عليه بانفتاح ومحبة. ويقول انه اتهم ظلماً بأنه كان شيوعياً لكنه يجزم انه لم ينتمِ الى الحزب الشيوعي يوماً. اما الآخرون من ابناء بلدته فقد دخلوا الحزب من دون ان يطلعوا على دستوره ونظامه الداخلي ولا عقيدته، بل فعلوا ذلك نكاية بالسوريين القوميين من ابناء بلدتهم ليس الا.

عاشت والدة ابو عفيف 105 سنين طويلة اما زوجته ام عفيف فتوفيت بأزمة قلبية وهو لا يخشى الموت لأنه حق وراحة للانسان بعد العمر الطويل.

ابو عفيف اطال الله في عمرك...

تعليقات: