نوع جديد من الصحافة اسمه \"المدوّنات\"

مدونات لناشطين سياسيين وصحفيين
مدونات لناشطين سياسيين وصحفيين


صدف ان كان الاستاذ في كلية الطب في جامعة هارفرد أرون شانبهاغ في مومباي في 26 تشرين الاول 2008 عندما بدأ الهجوم على "تاج محل". ومن مكان اقامته استطاع ان يشاهد الفندق ويسمع رصاص الرشاشات ويرى حريق البرج والدمار وسيارات الاسعاف. راقب وصوّر كل ما شاهد ووضعه أولاً بأول في موقعه على الانترنت وتناقلته مواقع اخرى فوراً.

وفي ذروة الهجوم كانت أكثر من رسالة فيها اسم "مومباي" توضع كل ثانية مثلا في موقع "تويتر" الالكتروني وهو أساساً موقع لخدمة الرسائل القصيرة تحوّل في السنتين الاخيرتين منبراً اخبارياً كبيراً. وكانت هناك رسائل من داخل الفندق وخارجه تتحرك على الانترنت وكذلك الكثير من الصور وأشرطة الفيديو توضع في مواقع مختلفة. هذا الضخ للمواد والصور وان يكن فوضويا، ربط كثيرين من المهتمين والقلقين في انحاء مختلفة من العالم وأشبع قليلا من حاجتهم الى معرفة ما يجري وربما طمأنهم الى بعض معارفهم هناك.

الأهم أن هذا النشاط "الالكتروني" بلغ الذروة في اللحظات الاولى للهجوم عندما كانت المعلومات الرسمية لا تزال شبه غائبة وعندما كانت وسائل الاعلام التقليدية لا تزال تجهد لمعرفة حجم الاعتداءات وتحاول الحصول على تأكيدات لا تستطيع من دونها تبنّي اي معلومة رسميا والاّ فقدت صدقيتها، وتحاول حجز الهواء لبث رسائلها وسط ازدحام المراسلين والوسائل.

ماذا يعني كل هذا؟

القصة تلخّص أحد معاني ثورة الانترنت، تلك التي لا تغيّر أساليب عمل وسائل الاعلام لتتأقلم وما توفّره التكنولوجيا الجديدة فحسب، بل أهم من ذلك، تغيّر مفهوم الصحافة نفسها. وهذه ثورة صامتة الى حد كبير لا نسمع ضجيجها كما هو الحال مع الصحف، اذ تقرر هذه التخلي عن طبعتها الورقية والاكتفاء بالنشر الالكتروني أو تعيد تلك النظر في الجهد الذي تبذله لتطوير موقعها الالكتروني ووسائل عملها، أو كما هي الحال مع التلفزيونات التي صارت مسيرتها واضحة في اتجاه جعل مواقعها الالكترونية هي الاساس فيما لا تبث المحطات عملياً إلاّ جزءاً مما لديها.

لكن تفاصيل القصة تساهم الى حد كبير في فهم أبعاد هذه الثورة الصامتة في مفهوم الصحافة:

شانبهاغ ليس صحافياً ولكن صدف ان كان في موقع الحدث. قبل الانترنت كان يمكن ان يكون "شاهد عيان" في قصة لو نجح في الوصول الى مراسل لصحيفة أو تلفزيون في الموقع أو نجح مراسل في العثور عليه. كان يمكن مشاهداته ان تصل الى آخرين أو تبقى له يرويها لمحيطين به فقط. ولكن في وجود الانترنت، كل ما كان يحتاج اليه ليشرك عدداً كبيراً من الناس في ما يراه هو جهاز كومبيوتر او حتى اي جهاز آخر موصول بالانترنت وليصير في تلك اللحظة أحد المصادر الثمينة للخبر ربما لمئات الالوف من الناس أو أكثر.

ولانه ليس صحافياً في موقع الحدث ويملك الاداة الحاسمة، الانترنت، كأن شانبهاغ وأمثاله ممن شاهدوا أو صوروا التطورات، متحررين من كل ما يحكم الخبر في الوسائل التقليدية. لم يكن مهتماً باكتمال عناصر القصة ولا بإعلان رسمي ولم يكن عليه "غربلة" بعض التفاصيل ولا حتى انتظار تحرير الخبر أو انتظار ساعة طبع الصحيفة أو فتح الهواء له لينقل رسالة تلفزيونية. كتب ما شاهده. وكان في وسعه ان يحلل ويعطي رأيه من دون اية قيود او تحفظات فيما كانت المعلومات لا تزال قليلة.

اذاً ما أمنته الانترنت هو: ايصال الخبر والصورة عملياً في غضون ثوان الى جمهور كبير من المستخدمين بل تأمين ايصاله والوصول اليه في ثوان أيضاً دونما كلفة، وفوق ذلك جعْله خبرا تفاعلياً، بحيث يضيف من يشاء من المستخدمين معلومات أو مشاهدات أو آراء أو تعليقات.

وهذا بمقاييس ممارسة مهنة الصحافة وعمل الصحافي ليس أقل من انقلاب، سواء أدركنا ذلك أم لم ندرك وسواء اعترفنا بذلك ام فضلنا تجاهله. والنقاش المتزايد منذ سنتين يتمحور على سؤال "من هو الصحافي؟" وعلى استنتاج "جميعنا صحافيون" أو "كل شخص صحافي"، ذلك انه بفضل الانترنت صار عملياً في إمكان كل شخص ان يكون صحافيا واكثر، لانه لا يكتب او يصوِّر فقط بل هو قادر على التحكم بالنشر وبالشكل الذي يريده وربطه بأي خبر أو مقال آخر أو صورة وقادر أن يتفاعل مع أخبار لآخرين فيكتب ويعلق ويحلل. في إمكان كل شخص بهذا المعنى أن يختصر عمل مؤسسة إخبارية. اما كيف سيكون انعكاس هذه الثورة على معنى الصحافة في النهاية فأمر لايزال من المبكر حسمه وإن تكن مؤشراته تتبلور.

التغيير بدأ كما مع دخول اية تكنولوجيا جديدة. التلغراف غيّر الكثير في مفهوم الاتصال والتواصل وفي ممارسة الصحافة في الثلاثينات والاربعينات من القرن التاسع عشر. والتلفون احدث انقلابا عمليا في الصحافة في النصف الاول من القرن العشرين إن من حيث السرعة في جمع المعلومات أو من حيث نقلها. وكذلك غير الراديو والتلفزيون في مفهوم الصحافة وممارستها. ولكن في كل هذا ظلت الصحافة حكراً على المؤسسات الاخبارية. هي تمارسها والجمهور يتلقاها. والان جاءت الانترنت لتكون أولاً وسيلة متاحة غير مكلفة عمليا ووسيلة سريعة جداً في نشر الخبر وتوزيعه، وأكثر من ذلك، لتضع القارئ أو المشاهد، الذي هو مستخدم للانترنت، في جانبي الخبر وليس في جانب واحد منه، أي في جانب المنتج والمتلقي معاً. فاذا كان التلغراف أو التلفون أمّن التفاعل بين شخص وآخر واذا كانت الصحف والتلفزيونات أمّنت التفاعل بين الصحافي والآخرين، أي الجمهور، فإن الانترنت تؤمن التفاعل بين الجميع، وتوفّر لهم في الوقت عينه "منابر اعلامية" مجانية عملياً من خلال القدرة على النشر والتوزيع والوصول. وهذه ثورة لا تقل بأبعادها عن الثورة التي احدثها غوتنبرغ في 1448.

مؤشرات الانقلاب ظهرت في التسعينات من القرن الماضي في شيء كان جديداً كلياً اسمه "بلوغْز"، واسمه المتداول بالعربية "مدوّنات"، بحيث ينشئ الشخص موقعا له، "مدوّنة" على الانترنت يكتب فيها ما يشبه اليوميات او ما يحلو له من كتابات عن أحداث أو مواضيع مختلفة ويضع فيها صوراً أو رسوماً أو أشرطة فيديو ويحدِّثها باستمرار وفيها عادة ربطات لمدوّنات وعناوين لمواقع اخرى. كان عدد المدونات بالعشرات فقط في التسعينات، وارتفع أواخرها، ليهُب مرة واحدة مطلع هذا القرن، وفي أميركا تحديداً حصلت هذه الهبّة بعد هجمات 11 ايلول 2001.

ومع ان لا ارقام مؤكدة لعدد "البلوغز" المسجلة حتى اليوم، فإن المتوافر منها لا يقلّ عن 10 ملايين مدوّنة وهي قد تكون أكثر بكثير ولكن ليست كلها نشطة. عدد كبير من "البلوغز" ينشأ مع أحداث كبيرة، مثل الزلازل والاعتداءات الضخمة والحروب ثم ينام مع انتهائها. وتُظهر مواقع متخصصة بدراسة "البلوغز" ان نحو 347 مليون شخص في العالم يقرأونها وان نحو 77% من المستخدمين النشطين للانترنت يقرأونها بطريقة او بأخرى. وحسب "تكنوراتي"، محرك البحث الخاص بـ "البلوغز"، هناك 81 لغة مستخدمة في "البلوغز" وهي الى تزايد.

منذ البدايات لم تعر الصحافة المدوّنات اية اهمية واعتبرتها عمل هواة لا يعنيها. ولكن مع الوقت بدأت "البلوغز" تفرض نفسها على الصحافة. وطبعا هنا لا نتحدث عن كل "البلوغز" أو عن مضمونها. لكن مسارها عموماً والسياسية او الاخبارية منها خصوصا يحكي الكثير عما يتغيّر في الصحافة. ومع ان موقعاً الكترونياً كان أول من كشف فضيحة الرئيس بيل كلينتون ومونيكا ليوينسكي، فإن كل مسألة "البلوغز" لم تكن جدية بالنسبة الى الصحافة بعد. لكن حصل التحوّل في اميركا مثلاً أواخر 2002 في فضيحة السناتور ترنت لوت. فهذا السناتور قال كلاما عنصرياً كبيرًا في عيد الميلاد المئة للسناتور ستورم ثورموند ولم تعره وسائل الاعلام التقليدية أهمية ولم تبرزه. لكن الكلام تحوّل على "البلوغز" حدثاً ساخناً جداً ومحور تعليقات ومناقشات استرعت انتباه الوسائل التقليدية التي أبرزته من جديد، فتحوّلت "زلة لسان" لوت فضيحة اجبرته على الاستقالة في كانون الاول زعيماً للاكثرية في مجلس الشيوخ. ثم في 2004 فضح "بلوغ" احتمال تلاعب الاعلامي الشهير دان راذر صاحب برنامح "60 دقيقة" (60 minutes) على شبكة "سي بي أس" بوثائق تتعلق بالتاريخ العسكري للرئيس جورج بوش واضطرت المحطة الى فتح تحقيق في الامر ولم تستطع في النهاية التأكد من صحة وثائق راذر وقدمت اعتذارا. وتطور "الاعتراف" بالمدونات في أميركا الى حد مثلاً ان الحزبين الجمهوري والديموقراطي أصدرا في الانتخابات الرئاسية 2004 تصريحات لاصحاب "بلوغز" لتغطية مؤتمريهما. اما في الانتخابات الاخيرة، فإن المرشحين للرئاسة انفسهم كانت لهم "بلوغز" خاصة بهم يتوجهون عبرها الى الناخبين. وفي 2006 فضح موقع آخر التلاعب بصورة لوكالة "رويترز" خلال حرب اسرائيل على لبنان في تموز بحيث يبدو الدخان اكثر كثافة وسواداً واتساعاً.

وفي موازاة "الخبطات" الصحافية التي قامت بها بعض "البلوغز"، كان دورها يتزايد في نشر الاخبار وتعبئة الرأي العام وإعطاء فرص لمن لم يكن صوته مسموعاً في وسائل الاعلام التقليدية. ساهمت كثيراً مثلاً في تعزيز الحركة المعادية للعولمة والتي كان اقصى ما يمكن ان تحصل عليه من تغطية اعلامية في احتجاجاتها في مدينة سياتل عام 1999 دقيقة على التلفزيونات المحلية وهي تقطع الشوارع أو تعتقل الشرطة بعض المحتجين. وفي 2002 ازدهرت "بلوغز" يمينية مؤيدة للحرب على العراق تروّجها وتهاجم كتّاباً لا تروقه أفكارهم مثل روبرت فيسك الذي كان هدفاً للكثير منها، واخرى مؤيدة لاسرائيل تطارد كل من تصدر عنه كلمة مؤيدة للحقوق الفلسطينية.

ولا تختلف مسيرة "البلوغز" في العالم عنها في أميركا وقد برز بعضها في الكثير من الدول واخذت تنتشر وتفرض نفسها على الصحافة. ويمكن القول انه اذا كانت حرب "عاصفة الصحراء" قدّمت "السي أن أن" الى العالم وادخلتها في نظامه الاعلامي، فإن حرب العراق 2003 قدمت "البلوغز" وادخلتها في نظام كثيرين، ففيما كان العالم يتابع أخبار العراق عبر وسائل الاعلام التقليدية كان قسم منه يتابعها عبر "البلوغز" على الانترنت. وفيما انشغل العالم بشائعة مقتل علي حسن كامل المجيد "علي الكيماوي" في 21 آذار 2003 انشغل الوف "المدوّنين" باختفاء زميلهم داخل العراق "سلام باكس" وهو اسم مستعار لمهندس معماري عراقي كان عمره انذاك 29 عاماً دأب على كتابة يوميات الحياة في الحرب. لكنه عاد بعد ثلاثة ايام ليوضح ان سبباً تقنياً "أخفاه" وليسجّل ارتفاعاً في عدد قرائه الى ملايين ولتنقل صحف غربية مثل "النيويورك تايمس" الاميركية و"الغارديان" البريطانية من كتاباته. وفي الحرب نفسها مثلاً تمكّن شاب أميركي من الحصول على صور لجنود أميركيين قتلوا في العراق وقد اعيدوا الى بلادهم بالنعوش ووضعها على مدوّنته وفي اليوم التالي كانت صوره في الصفحات الاولى للصحف. وكان هناك ولا يزال العشرات بل المئات من "البلوغز" لعراقيين ولجنود اميركيين يكتبون عن تجاربهم ومئات الالوف وربما أكثر يقرأونها ويتابعونها.

انتشرت "البلوغز" وتنوعت واتسع استخدامها وصارت اكثر فاعلية وحضوراً في مجال الأخبار. ويتبين انه في احداث كبرى مثل هجمات مومباي وفي السابق مثل التسونامي وتفجيرات لندن وغيرها، كانت بعض "البلوغز" في كثير من الاحيان تفوق وسائل الاعلام التقليدية سرعة وتفوقها في عرض بعض التفاصيل وفي التحليل والتعليق أو الصور. وهذا جعلها تدريجاً جزءاً من عمل الصحافة بحيث صارت الصحف الكبرى تفرد مساحة في مواقعها لمدوّنين معروفين وتنشئ "بلوغز" خاصة لأبرز كتابها ومعلقيها وتقتبس مواد عن "بلوغز" وصارت التلفزيونات تستضيف "مدونين" في برامجها ممن لم يكونوا يوما من المرغوب فيهم لديها. وهكذا.

ومثلما نشأت "البلوغز" من رحم الانترنت وبدأت تغيّر في مفهوم الصحافة، نشأت مواقع مشابهة تعرض اشرطة فيديو، واكتسبت اسم "الفلوغز" كما نشأت مواقع تؤمن خدمة بث مثل هذه الاشرطة وأهمها اليوم موقع "يوتيوب" الذي أعطى بعداً جديدا للصحافة المصورة اذ يسمح لاي شخص ان يضع شريط فيديو ويضمن وصوله الى عدد كبير من المشاهدين في غضون دقائق أو ثوان ومجاناً. وتبسيطاً صارت الانترنت تتيح لاي شخص ان يختصر عمل التلفزيون.

"يوتيوب" الذي تأسس في شباط 2005 حقق انتشاراً واسعاً سريعاً فاشترته شركة "غوغل" في تشرين الثاني 2006 بقيمة 1،65 مليار دولار وهو اليوم ثالث موقع الكتروني من حيث الاهمية والانتشار في العالم والأول في مجاله. ولعل ما يدل على اهميته ومعنى ما يتيحه هو انتاج شركات الالكترونيات كاميرات جديدة فيها ميزة معينة: ميزة التصوير بأسلوب يلائم اليوتيوب. اضافة الى الهواتف الخليوية الموصولة بهذا الموقع والجاهزة لتحميل فيديو مباشرة منه واليه. وما يدل عليها أيضا، اتساع مروحة مستخدميه ولأغراض مختلفة. فمثلما يستخدمه هواة لعرض أشرطتهم ومواهبهم، يستخدمه سياسيون كبار وفنانون ورياضيون للدعاية أو إيصال رسائل محددة. فقد استخدمه المرشحون للرئاسة الاميركية العام الماضي في حملتهم الانتخابية للدعاية والانتشار. واستخدمته الملكة رانيا لاقامة حوار بالفيديو مع مستخدميه يهدف الى مكافحة تنميط العرب والمسلمين وكانت الاولى من عائلة ملكية تستخدمه.

الارقام تتكلم اكثر. ففي تموز 2006 مثلا، وكان "يوتيوب" في حينه الموقع الخامس عالميا والاول في مجاله، اظهرت دراسة ان 100 مليون فيديو تُشاهد عليه يوميا و75 الف فيديو تُحمّل عليه كل 24 ساعة. وجاء في دراسة اخرى في آذار 2008 ان عدد أشرطة الفيديو الموجودة على الموقع يتجاوز 83 مليون شريط. وأظهرت دراسة خاصة بأميركا انه في تموز 2008 شاهد 92 مليون مستخدم اكثر من خمسة مليارات فيديو بما فيها اشرطة الهواة وعروض تلفزيونية وبرامج اخرى على "يوتيوب" وفي تشرين الاول شاهد نحو 100 مليون مستخدم 5،3 مليارات فيديو. ولعل الاهم انه بحسب "يوتيوب" نفسه، يجري تحميل الموقع عشر ساعات من الفيديو كل دقيقة. وما يعطي فكرة عن انتشاره في العالم هو ما يورده موقع "ألكسا" المتخصص بتتبع انتشار مواقع الانترنت عالميا وبحسب الدول. "يوتيوب" هو في لبنان مثلا الموقع السادس من حيث استخدامه وفي مصر الخامس وفي المغرب الثالث بينما هو في فرنسا الخامس وفي اسبانيا الثالث وفي روسيا التاسع وفي الهند الخامس وفي اميركا الرابع.

ولكن هل يعني هذا بالضرورة ان انتاج "البلوغز" و"يوتيوب" صحافة؟

بالتأكيد لا. فالانترنت التي تتيح المجال لظهور المادة الجدية والجيدة في اي موضوع تتيح في الوقت ذاته ظهور السيئ والتافه لان تمكين كل مستخدم من ان يكون له منبر إعلامي يفتح المجال أمام ضخ هائل من المواد وفوضى مرعبة في الكمية والنوعية لا تكفي لضبطها القوانين التي يضعها أي موقع للمستخدمين. هناك "بلوغز" متخصصة بالثرثرة واطلاق الشائعات والاذى مثلما هناك عدد كبير من الاشخاص يتخصصون بفبركة أشرطة فيديو ويستغلون ما يوفره "يوتيوب" من إنتشار سريع لبث سمومهم وتشويه السمعة أو للتضليل وتحريف الحقائق وغيرها.

على انه في هذه الفوضى كلها صحافة من نوع جديد وجيد صارت تعرف باسم "صحافة المواطن" أو "صحافة القاعدة" أو حتى تسمى احياناً "الصحافة الديموقراطية". وهذه من عمل مدوّنين واشخاص آخرين غير محترفين اكتشفوا انهم بما توفره الانترنت والتكنولوجيا عموما قادرون على الاضطلاع بدور نشيط في عملية انتاج الاخبار ونشرها وتحليلها. هؤلاء يحبون التركيز في الكتابة عادة على ما يعتقدون ان وسائل الاعلام التقليدية تفتقده مثل ان يكونوا صوتا لغير المسموعين ويرفعوا شعارات مثل "إعلان الناس" وعدم "فلترة" الاخبار قبل نشرها. وهكذا. ومنهم ايضا من يتخصص بمراقبة ما تنشره وسائل الاعلام التقليدية لاكتشاف اية اخطاء أو أي انحياز. وهناك من يحمل الكاميرا بحثاً عن صورة غير مألوفة او تحقيق مميز.

ويتفق متابعو هذه الظاهرة على القول إن هؤلاء هم من "كانوا يعرفون في السابق باسم الجمهور وكانوا في جانب المتلقّي للخبر لا قدرة لهم على التدخل فيه. حال هؤلاء تغيّر بفضل الانترنت". اكتشفوا اصواتهم وتأثيرها واكتشفوا انهم قادرون أيضاً على انتاج الخبر. وطبعا يفعلون ذلك مجاناً لانهم هواة. وليس مصادفة ان تعمد مؤسسات صحافية كبرى الى استيعاب هذه الظاهرة بتعزيز "الصحافي المواطن" من خلال برامج تدريب للمهتمين ومساحات لنشر انتاجهم من القصص والصور والفيديو. كما انه ليس مصادفة ان يصير تدريس "البلوغز" وفنون الكتابة عليها كما دور "المواطن الصحافي" جزءاً من برامج كليات الصحافة في اميركا وعدد من الدول الغربية الاخرى. بل يصير في أميركا جزءاً لا يتجزأ من جائزة بوليتزر، أهم جائزة صحافية. فقد عدّلت لجنة الجائزة قواعدها لتتلاءم والوضع الجديد بحيث صارت تنظر في "نصوص منشورة في صحف أو أونلاين". وفي ايلول الماضي دخل موقع "يوتيوب" مع "بوليتزر" في شركة لمنح جائزة لغير المحترفين ممن يقدمون قصة مصورة فيديو لا تتجاوز خمس دقائق عن موضوع يعتقد "الصحافي المواطن" ان لا مكان له عادة في وسائل الاعلام التقليدية. اضافة الى ذلك انشأ "يوتيوب" قناة خاصة لصحافة المواطن يضع فيها أفضل الاعمال الاخبارية لغير المحترفين.

فهل نحن في ما تؤمّنه الانترنت أمام صحافة بديلة أم ماذا؟

هي اقرب الى أن تكون صحافة بديلة لجيل الانترنت من الشباب ممن صارت وتيرة حياتهم أسرع وصبرهم على القراءات الطويلة قليلاً وممن اعتادوا "البلوغز" وأسلوب كتابتها غير الرسمي والمتحرر من اي قيد بجمله القصيرة وربطاته الكثيرة مع مواضيع وعناوين أخرى.

وهي أقرب الى ان تكون صحافة بديلة في دول تضيق فيها منافذ التعبير السياسي. فإيران مثلا تشهد ازدهاراً كبيراً للمدوّنات. واللغة الفارسية هي الرابعة المستخدمة عالميا في هذا المجال ويقول كثيرون إن المدونات تحل عملياً محل الصحف المغلقة وتفتح قنوات اتصال بين الايرانيين انفسهم وبين الايرانيين ومدوّنين بلغات اخرى ولا سيما منها الانكليزية. ولكن أبعد من القمع، يرى مؤيدون كثر لصحافة المواطن و"البلوغز" في الغرب انها ضرورية للديموقراطية من منطلق اقتناع بأن وسائل الاعلام التقليدية تمارس نوعاً من "الغربلة" للمعلومات وبأنه يحق للمواطن ان يعرف كل شيء وهو يختار أو يغربل.

لكنها ليست صحافة بديلة أو على الاقل لا تبدو كذلك بعد. هي نوع جديد من الصحافة له قيمه وخصائصه التي لا بد ان تؤثر على الصحافة التي نعرف. فمجرد ان يكون كل شخص قادراً على أن يكون صحافياً يعني زوال الجدار القائم بين المؤسسات الاخبارية والقراء أو المشاهدين ويعني أن هؤلاء بإمكاناتهم الجديدة صاروا أكثر معرفة وتطلّباً وأكثر قدرة على التشكيك والتدقيق والمساءلة والمشاركة لانهم على مسافة "نقرة" واحدة من البحث الذي يعطيهم الاجوبة أو من التحوّل الى خبر آخر يعتبرونه أكثر صدقاً واقناعاً. وهذا يلغي احتكار المؤسسات الاخبارية للخبر ومصادره والتحكم بنشره ويدفعها على الارجح الى مراجعة للمبادئ التي تحكم عملها ولم تحصل منذ زمن لعدم وجود منافس لها. ومع هذا فان "البلوغز" و"صحافة المواطن" ليست منافساً للمؤسسات الاخبارية بل مكمل لها أو لنقل امتداداً لها سيفتحها على آفاق جديدة. فما توفره هذه الصحافة عمليا هو سوق من الافكار غنية وحيوية بقدر ما هي متنوعة وبقدر ما تسأل وتتساءل، وما توفره هو صحافة تسقط عنها صفة المحاضرة لتصير حوارا بين الكاتب وقرائه بكل ما يعنيه ذلك من مساءلة او تضارب آراء أو كشف اخطاء أو مزيد من المعلومات. وما تعنيه في النهاية هو الابتعاد بنقطة الارتكاز من غرف الاخبار التقليدية في اتجاه المواطنين الذين ستزداد مشاركتهم في انتاج الخبر مستقبلا لانهم صاروا اكثر قدرة على التفكير معاً وعلى ايصال افكارهم من "منابرهم الاعلامية". واذا كان من الصعب تحديد نتائج الثورة على مفهوم الصحافة بوضوح الآن، فإن ما يفعله المدوّنون والصحافيون المواطنون اليوم سيحدد الى درجة كبيرة الفضاء الذي سيعمل فيه الصحافيون المحترفون مستقبلا والذي سيكون لغير المحترفين فيه دور اساسي.

تعليقات: