المطران غريغوار حدّاد يشطَبَ مذهبه من سجلّ نفوسه

 في الغرفة 115 كان المطران فرحاً (هيثم الموسوي)
في الغرفة 115 كان المطران فرحاً (هيثم الموسوي)


بعد اليوم لن يعرف أحد أن «المطران»... كاثوليكي

حقّق المطران غريغوار حدّاد جزءاً مما كان يطمح إليه: شطب مذهبه من سجلّ نفوسه، وعاد لبنانيّاً.

المسيحي الإيمان، والعلماني الممارسة فرح بإنجاز اليوم، من دون أن ينسيه ذلك ما يعرفه جيداً من أن الخطوة التالية للوصول إلى «المواطنية المدنيّة» ستكون تحدّي لبنان الأكبر، فمن سيقنع الناس بأنّ شطب المذهب من سجلّات النفوس ليس إلحاداً أو تخلياً عن الدين؟ ربما يستطيع... المطران

شطَبَ المطران غريغوار حدّاد مذهبه من سجلّ نفوسه. شطبه فقط، ولم يرتكب خطيئة كما يتّهمه المقيّدون بطوائفهم. فكلّ ما فعله «المطران الأحمر» أنّه حرّر ما بقي من سنيّ حياته من الدمغة الطائفية التي رافقته، خلافاً لإرادته، ثمانية عقودٍ.

أتت حريّته «متأخرّة بعض الشيء»، أو بالأحرى متأخّرة كثيراً. ثمانية عقود. ولكن «أن تأتي متأخرة أفضل من ألّا تأتي أبداً.. أو أن تكون بعد أن يكون غريغوار حدّاد قد رحل». هذا ما يقوله المطران، بفرحٍ بالغٍ يكاد يخفي العينين الصغيرتين المتوقّدتين، تماماً كروحه. لكن، هذا المنتشي بانتصاره على الطائفيّة، لا يخفي «بعض النقد» للإنجاز المتحقق. فهو، إن ناضل عقدين من الزمن كي يصل إلى هنا، وعمل جاهداً منذ عام كـ«تيّار مجتمع مدني» مع رئيس المركز المدني للمبادرة الوطنية طلال الحسيني، فإنه لم يجد أنّ الخطوة الجديدة هي الطريق الأسرع نحو «التحرر الكامل» من سجن الطائفية. المطران خائف من الطريق الطويلة التي على لبنان أن يسلكها للوصول إلى قانون الأحوال الشخصية المدني. طريق، في اعتقاده، «ستكون شائكة، تحتاج إلى الكثير من الصبر والوقت كي يقتنع الناس بأن شطب المذهب لا يعني مطلقاً شطب الدين». لكن، هل يقدّر الوقت اللازم لقطع هذه الطريق؟ يأتي الجواب محبطاً لولا نبرة السخرية «لن يقل بالطبع عن 300 سنة وشوي»، كما قال. فهو يرى أنّه «كان من الأفضل البدء ببناء قاعدةٍ شعبيّة علمانيّة، تبدأ بالتجمّعات اللاطائفيّة في المدارس والجامعات وفي جميع المناطق، من أجل أن يصبح المجتمع المدني مدنياً، وهنا نبدأ بتغيير القوانين ونظام البلد». هذا هو «المهم والأسرع»، كي «يموت غريغوار مرتاح الضمير»، كما يقول، فيغور قلبنا.

وهناك، حيث اعتدنا أن نراه في الآونة الأخيرة، في «بيت السيّدة للراحة»، وتحديداً في الغرفة الرقم 115 وجدناه. نقرع الباب. لا أحد يجيب. نفتحه للتأكد أن نزيل الغرفة موجود، فنراه. لم يكن نائماً، بل مستغرقاً في قراءة كتاب «كيف أؤمن؟» للقس اليسوعي والفيلسوف الفرنسي بيار دو شاردان، فيما كانت تنتظر خمسة كتبٍ أخرى على المنضدة إلى جانبه. تسلّلنا بخفة، ووقفنا فجأة أمامه، مداعبين. ابتسم واضعاً كتابه جانباً، فهو كان يعرف أننا سنأتي في تلك الساعة، هكذا أخبره «حواريوه» الملازمون له أينما اختار البقاء. «شو اسمك؟» بادر للسؤال كما يفعل الكبار مع الأولاد، وهو يمد يده مصافحاً. تعارفنا وجلسنا. مرت دقائق من دون أن يقول شيئاً. كان يبتسم فقط لعدسة الكاميرا التي كانت منهمكة بالتقاط صوره. «شو كم صورة بدّك؟».

يبتسم للمصور وهو يسأله ليخفف من وقعه عليه. ثم ينخرط، ممازحاً، في لعبة اخترعها للتو: فكان كلما تكّ المصور صورة يصرخ المطران «آخ». لكن المصور ثابر على التقاط الصور فما كان منه إلا أن «هدّده» «ليك رح باخد منّك عن كلّ صورة دولار». يجدها المصوّر «كلفة عالية»، ولكن لا أحد يمكنه أن يغلب أبونا بمرحه «ولو؟ سايرتك بشهر التسوّق! لو مش بشباط أخدت أكتر».

يعود المطران الأحمر إلى جدّيته حالما نبدأ أسئلتنا عن رأيه في خطوة السماح بشطب القيد الطائفي. ينظر إلينا فجأة وهو يقول: «مش أنا شطبت المذهب عن إخراج القيد؟ شوفوه تركته مع طلال» يقصد الحسيني رئيس المركز المدني للمبادرة الوطنية. نمازحه بالقول إنه الآن لن يعرف أحداً أن «المطران»، كاثوليكي بمجرد النظر في سجل نفوسه. يبتسم وهو يقول إنه يعرف أن «كثراً لن يحبّوا ذلك»، لكنّه فرح جدّاً، لأنّ ما فعله «لا يعني إلحاداً ولا شكّاً ولا ابتعاداً عن الأديان، كلّ ما في الأمر أنني سأكون لبنانياً فقط». يشرح أكثر، فيقول «أنا مؤمن بالله، ومؤمن بالعلمانية الشاملة: مؤمن بالله، ولذلك أنا عَلماني ومؤمن بالعلمانيّة دعماً لإيماني بالله. وإيماني المسيحي على مسافة واحدة من جميع الأديان. وأنا مقتنع بأنّه كلما أصبح المسيحيون مؤمنين بالإنجيل حقّاً والمسلمون مؤمنين بالقرآن حقّاً، أصبحوا جميعاً قادرين على تكوين وطنٍ علماني حقّاً». يستعيد ما كتبه في «العلمانية الشاملة» ليثبّت ما يقوله. يعرّفها بأنّها «نظرة شاملة إلى العالم، تؤكّد استقلالية العالم ومكوِّناته وأبعاده وقيمه بالنسبة إلى الدين ومكوِّناته وأبعاده وقيمه. وهي علاقة حياد إيجابي تجاه جميع الأديان والإيديولوجيات».

يسأل «لماذا شاملة؟» ويجيب. شاملة «لأنّها تشتمل على: العَلمانية الشخصية، التي تؤكد قيمة كلِّ إنسان من دون الرجوع إلى معتقده الديني. والعَلمانية السياسية، التي تؤكد استقلالية الممارسة السياسية عن الانتماء الديني. والعَلمانية الوظيفية، التي تؤكد استقلالية الوظيفة الحكومية عن الانتماء الطائفي. والعَلمانية المجتمعية، وهي في المعنى الحصري استقلالية المجتمع المدني، بأفراده وتجمعاته، عن الطوائف، فلا تقبل بفدرالية طائفية. العَلمانية المؤسَّسية، وهي استقلالية المؤسَّسات التربوية والصحية والاجتماعية الأخرى عن الطوائف ومجالسها وسلطاتها. العَلمانية القانونية، أي استقلالية قوانين البلاد عن الشرائع الدينية، من دون التناقض مع ما تعتبره الأديان جوهريّاً». يختصر، فيقول: «العلمانيّة تحتضن.. لا تهدّد». من يسمع من الشيخ الأحمر؟ أجيال ستأتي كما يؤمن العلمانيون والمدنيون، ومن كانوا عنده أثناء هذه المقابلة.

تعليقات: