أين نحن من صلة الأرحام التي أوصانا بها القرآن الكريم؟

كلّ ما يحتجن إليه القليل من الحنان والإهتمام
كلّ ما يحتجن إليه القليل من الحنان والإهتمام


في يوم الأسرة:

لا حماية كاملة للعجزة وقانون ضمان الشيخوخة لا يُطبّق ونسبة 1% من المُسنين والعجزة فقط تلجأ إلى المؤسسات الرعائية..

يصادف الأول من آذار، يوم الأسرة في لبنان، هذه الأسرة التي طالما تغنّى بها الكثيرون نظراً لمدى تماسكها وتمسّكها أيضاً بالقيم والأخلاق، إلا أنها بسبب ظروف الحرب المتكررة على أرضنا <تضعضعت> كما <تضعضع> العديد من الأمور في هذا البلد· وبما أن ركيزة الأسرة كان دوماً أساسها <كبير العائلة>، ارتأينا أن نسلّط الضوء من خلال تحقيقنا في هذه المناسبة على واقع المسن في لبنان وهمومه وشجونه·

والحقيقة أننا لمسنا واقعاً مضيئاً بعض الشيء ومظلماً في الجانب الأكبر منه وخصوصاً أن هذا المسن لا يحصل على أي من حقوقه، فأين دور الدولة الرعائي، وأين نحن من قانون ضمان الشيخوخة الذي يؤمن للمسن حياة كريمة وعلاجاً صحياً مضموناً؟

وبالتالي أين الدور التي بإمكان المسن التوجّه لها لينال الرعاية المطلوبة وسط المتطلبات الصحية المتعددة التي تتزايد مع تقدمه في السن· المحاولات ما تزال خجولة وما زال يلزمنا العديد من الدور لاحتضان هؤلاء المسنين ورعايتهم·

وانطلاقاً من ضرورة الإطلاع على كيفية حياتهم اليومية وما يعانونه إجتماعياً وما يتعرضون له صحياً، طرقنا باب مستشفى <دار العجزة الإسلامية> التي شرّعت أبوابها كمؤسسة لكل مسن بحاجة للرعاية فالتقينا عدداً من المسنين الذين حدّثونا عن سبب دخولهم الدار، فمنهم من كان بحاجة ماسّة لدخول الدار بسبب وضعه الصحي كونه عاجزاً جسدياً ومنهم من دخل الدار نتيجة لتخفيف الأعباء عن أبنائهم الذين أرادوا أن يفوا بالجميل على طريقتهم· وهكذا نراهم وجدوا الرعاية والإهتمام الشامل من دار هي من المفترض أن تكون غريبة عنهم إلاّ أنها كانت الأقرب لهم فأمست بيتهم الأسري الأول وبات العاملون فيها بمثابة الأبناء نتيجة للمعاملة الطيبة التي يجدونها فيها·

لكن يبقى السؤال: هل هكذا أصبح يكافئ الأبناء آباءهم وأمهاتهم الذين سهروا الليالي على راحتهم؟!

وتجدر الإشارة إلى أن جميع المؤشرات تفيد بأن هناك ما يُقارب الـ 160 جهة التي تقدّم الخدمات للمسنين· أمّا من يتعامل مع العجزة والمسنين من خلال خدمتهم المقيمة داخل المؤســســات فيـبـلغ عددهم الـ 49 مؤسسة وذلك على صعيد كل لبنان· أما إذا توجّهنا شمالاً أو جنوباً أو بقاعاً فبالكاد نجد مؤسسات تؤمن الرعاية في هذا المجال·

وبالنسبة لعدد الأشخاص الموجودين داخل هذه المؤسسات فهو لا يتعدى الـ 3500· وعن نسبة كبار السن في لبنان فهم يشكلون تقريباً 1% من عددهم ويبقى العدد البسيط هو الموجود في المؤسسات وليس العدد الكبير·

حوري < عن تقييمه الحالي لواقع الأسرة في لبنان يقول مدير مستشفى دار العجزة الدكتور عزّام حوري:

- <عندما نتحدث عن الوضع الحالي لا بدّ وأن نتطرّق للواقع السابق للأسرة· كما تعلمين فإن العلاقات العائلية سابقاً في لبنان وفي الشرق عموماً كانت ترتبط بما يعرف بالعائلات الممتدة، أي أنك كنت تشاهدين في المنزل نفسه أكثر من جيل يعيش تحت سقف واحد، الأب والجد وأحياناً جيل أكبر أو جيل أصغر وذلك من كافة الأجيال·

وهذا الكلام يعني بأنه في السابق كان هناك نوع من الرباط الأوثق في العلاقة، حيث كانوا يشعرون أن هناك مسؤولية متبادلة سواء كانت عمودية أو أفقية·

كان هناك الصالون الكبير وغرف محيطة به، ولكل غرفة عائلة من الأولاد حيث يجمعهم الأب أو الجد·

اليوم في لبنان، في السنوات الأخيرة، استحدث يوم وطني هو يوم الجد والجدّة، وبالمفهوم العام هو يأتي لاستدراك، إذا صح التعبير، ما فقدناه في السنوات الطويلة الأخيرة من علاقات وثيقة كانت موجودة بدأت <تتضعضع> بشكل أو باخر، لذلك فإن يوم الجد والجدّة عبارة عن توجّه أو بالأحرى تحفيز للناس على إعادة الرباط إلى العائلة من جديد>·

يضيف حوري: <في السابق كان هناك إحساس بالمسؤولية أكبر، أما اليوم فالحياة انتقلت من العلاقة المادية العاطفية إلى العلاقة المادية أكثر منها العاطفية، وذلك بسبب ما جرى في لبنان من أحداث وحروب وحالات أمنية···

كذلك فإن الهجرة لعبت دوراً أساسياً، والحالة الإقتصادية، والعلاقات بين بعضها البعض لعبت دوراً أيضاً· كما دخل على الخط مربِ جديد في العائلة غير الأم والأب وهو <التلفزيون>· وقد بدأنا بالقنوات المحلية ثم انتقلنا إلى القنوات الفضائية· وما يحصل أننا أصبحنا نأخذ ثقافات الآخرين لنصبّها في المنزل· وفي مرحلة ثانية، دخل علينا <الأنترنت> فأصبح بإمكاننا مشاهدة ما نريد ودون أي رقابة ودون أي تدخل من أحد إلاّ من الراغب في ذلك·

وهناك العناصر الأجنبية التي دخلت على العائلات من سيريلانكا وغيرها من البلاد الآسيوية، هم يأتون من خلال ثقافات أخرى، وللأسف أننا أصبحنا نعتمد ونتكل على هؤلاء الناس، وبالتالي ماذا جرى لهذه الأسرة؟! <تضعضعت> بشكل كبير· فالأم بدل أن تكون هي العنصر الأول تجاه أولادها أصبح لديها <سكرتير> ينوب عنها يتمثل بهذه الخادمة التي تكون مع الأولاد غالبية الوقت·

ومن خلال تجاربنا رأينا حالات متعددة حيث تذهب الأم وطفلها مع الخادمة إلى الطبيب فلنلحظ بأن الخادمة هي التي تُلبّس الطفل وهي التي تستمع إلى تعليمات الطبيب لأنها هي من ستعطيه الدواء، والأم تكون مجرد شاهد على هذه العملية·

وعلى صعيد آخر، نرى أن الهجرة لعبت دوراً أيضاً، فبحجة الدعم المادي تركنا في المنزل أحدهم لرعاية الأولاد وذهبنا للعمل في الخارج، أمّا الذين بقوا في البلد فهم بدورهم يعملون ليلاً نهاراً نتيجة الظروف المادية الصعبة، فالكل بات مشغولاً· فأصبح هناك تفكك لواقع هذه الأسرة إلى مواقع أخرى، ربما نلتقي في المساء إذا تطابقت مواعيدنا مع بعضها البعض إلاّ ستبقى المسألة رهن المناسبات·

طبعاً هذا لا يعني أن واقع كافة الأسر اللبنانية على هذا النحو، لكن الغالبية أمست على هذا الحال· ولا نستطيع أن ننسى بأن هناك أسراً لا تزال متماسكة ومتمسّكة بكل القيم والأخلاق والتقاليد·

وعن واقع أوضاع النزلاء في الدار، يقول حوري: <هناك الحالات المرضية التي تدخل على خط العائلات عبر الحالة الإقتصادية، وأحياناً نلحظ عدم امكانية لتلبية هذه الحالة· شخص ما في مرحلة التقاعد وليس لديه تغطيات معينة، موارده لتغطية إستشفائية أو دوائية وعلاجية غير متوافرة بشكل كاف وبالتالي قد يستغني عن الدواء، فتتدهور صحته إلى الأسوأ وقد يضطر إلى تدبير هذه المساهمة الطبية من جهة أو هيئة أو شخص ما· أي أن هناك ضغوطات صحية تمارس على هذه الأسرة·

كذلك فإن القوة الشرائية لليرة لم تعد تسمح للعائلة من أن تتمكن من تغطية كافة حاجاتهم ضمن هذا الإطار>·

وعن العلاقة التي تربط دار العجزة مع العائلات الموجودة، يقول حوري: <بداية نحن نرفض مقولة أن المؤسسات أو دور العجزة هي مجرد أماكن لنفي كبار السن فيها، هذه الفكرة لم تعد هي الفكرة الصائبة خصوصاً وأنها من الأساس فكرة غير صائبة· فهذه المؤسسات تحوّلت إلى أماكن لتلبية حاجات أشخاص لم يتمكنوا من تلبية حاجاتهم في منازلهم ولا سيما من الناحية الصحية والإستشفائية لذلك نحن نتلقف هؤلاء الناس، ونستقبلهم ونقدم لهم الخدمات والرعاية المناسبة التي تتناسب وحالة كل منهم الصحية المختلفة شرط أن يبقى التواصل بين العائلة والمؤسسة وهذا الشخص الموجود في المؤسسة· لكن مع الأسف الشديد فالزيارات ليست في المستوي المأمول والمطلوب، فهي لا تزال دون المؤمل لسببين بسيطين جداً، الأول أن أهل النزيل أو المريض مطمئنون لوضعه، وثانياً نوع الإسترخاء حيث تمر الأيام وأهل المريض يؤجلون الزيارة من يوم إلى آخر حيث تمر الأيام دون أن يلحظ أحد·

ورغم ما نقدمه من عناية صحية وخدمات، ترين أن النزلاء في الدار يطرحون سؤالاً واحداً: <أهلي وين؟> فأنت مهما قدّمت لا تستطيعين أن تحلي مكان الأهل· وهذه نقطة أساسية، فالجانب العاطفي النفسي والإجتماعي له وقع كبير ومؤثر سواء سلباً أو إيجاباً تبعاً للتواصل الذي يكون، وبالمقابل كل ما نستطيع أن نقدّمه هو الخدمات الصحية والعلاجية·

وكما إذا كانت الدولة تساهم بطريقة ما، يقول حوري: <إذا أخذت دار العجزة ومثيلاتها من المؤسسات، فهناك عقود موجودة مع وزارة الصحة وغيرها من المؤسسات الضامنة، لكن ما تدفعه الوزارة لا يغطي الكلفة الكاملة كما هو الحال في أماكن أخرى· فالتغطية المالية التي تـتـكفــل بـها الــوزارة تكــاد أن تـكون فــي حـدود الــــ 40% بينما الـ 60% نحرص في الحصول عليها من التبرعات والمساهمات وغيرها· لذلك نحن نقوم بحملات إعلانية لنتمكن من الوصول إلى قلوب وأذهان الناس كي يدعموننا ويساعدوننا، وإلا لكانت هذه الدار أقفلت أبوابها منذ مدة طويلة>·

وعن كيفية تقييمه للجانب القانوني في هذا الإطار، يقول حوري: <من المهم جداً أن نصدر تشريعات وقوانين لحفظ حقوق هؤلاء الناس وأنا أتحدّث من الطفولة إلى الشيخوخة بصرف النظر عن أي شريحة عمرية· هناك إتفاقيات متعددة تناول المرأة والطفل··· لكن الأهم أن يكون هناك تشريعات محلية وقوانين تحدد لهؤلاء الناس حقوقهم، فنحن مع الأسف لا نملك أية حماية لكبار السن· فأين أصبح قانون ضمان الشيخوخة؟ هو حلم منذ العام 1963· ما نزال نختلف عليه دون النظر إلى مدى أهمية تحقيقه، فإلى متى هذا الإستهتار بصحة المسن؟! أتمنى أن يقر قانون ضمان الشيخوخة ليشعر المسن بالطمأنينة ولا تعود الشيخوخة لتشكل عبئاً على المسن وعائلته>·

د· نجا < كذلك تحدث طبيب الشيخوخة نبيل نجا عن واقع المسن في لبنان، ويقول: <كما تعلمين فإن نسبة المسن شارفت على الـ 10% من العدد الإجمالي للسكان· وعندما نتحدث عن 10% أي أننا نتحدث عن 400 ألف شخص يعيشون في لبنان وقد تخطوا الـ 65 من العمر هناك قسم كبير منهم بنسبة 90% مسن غير عاجز يستطيع أن يعتمد علي نفسه في حياته اليومية ولكن لديه مشاكل صحية عديدة ونسبة 10% مسنون عاجزون بحاجة لشخص آخر ليعتني بهم، ومن الـ 10% لديّ فقط 1% أي إجمالي المسنين الذين يلجأون إلى مؤسسات رعائية مثل مستشفى دار العجزة أو ما شابه·

بشكل عام واقع المسن في لبنان، إن أردنا وصفه بشكل دقيق، فهو وضع مأساوي لأن المسن في أغلب الأحيان لا يملك أي نوع من الضمانة، فلا ضمانة صحية ولا ضمانة إجتماعية وللأسف الضمان العائلي يزول لأن عدد غير المتزوجين يتكاثر· كذلك عدد الأولاد الذين يهاجرون في ازدياد، كما أن عدد الأولاد الموجودين وأوضاعهم الإجتماعية والإقتصادية صعبة وفي ازدياد أيضاً· لذلك أعود لأكرر أن وضع المسن مأساوي، وهذا دليل انحدار اجتماعي وأخلاقي وبالتالي إنحدار بالقيم، خصوصاً وأننا في مجتمعاتنا الشرقية نتغنى بالأسرة· وبما أننا نتحدث في يوم الأسرة، فأساس الأسرة يجب أن يبقى <الكبير> وخصوصاً أنه صاحب الحكمة الذي يرشد أفراد العائلة، لكنه للأسف يتحول بشكل تدريجي إلى عبء وفي بعض الأحيان إلى شخص غير مرغوب فيه في العائلة، وكل ذلك نتيجة عدم وجود الضمانات·

لذلك، هدفنا أن لا يتحول هؤلاء المسنون غير العاجزين إلى مسنين عاجزين·

وعن أبرز الأمراض التي تصيب المسنين يقول د· نجا: <الأمراض شاسعة جداً لكن في الوقت نفسه ليس هناك من أمراض معينة للشيخوخة، فكل ما يصيب الإنسان في أي عمر ممكن أن يصيب المسن· لكن هناك أمراض منتشرة أكثر في حالات الشيخوخة مثل الضغط، السكري المفاصل، ترقق العظام· ولكن أكثرها عبئاً على المسن وعائلته هي <الزهايمر> والخرف، فهذه من المسائل الهامة جداً والتي تصيب أحياناً الإنسان في مراحل متقدمة من عمره بالإضافة إلى ذلك هناك الإكتئاب الذي لا يجب أبداً تجاهله ولا سيما أنه تضاعف في مرحلة الشيخوخة وخاصة أن هذا المرض انتشر جداً لدى كبار السن في لبنان·

أما في ما يخص المسن العاجز فلدينا أمور تزيد من عبء المسألة على العائلة وهي العجز الجسدي نتيجة جلطة دماغية أو كسر في الورك، ولكن أكثر ما يخيف الأسرة هي العقور السريرية، وهنا ندخل في الإلتهابات وكيفية معالجتها>·

وعن انعكاس الزيارة على نفسية المسنين، يقول د· نجا: <نتيجة التوعية تحسّنت نسبة زيارات الأهل وبالرغم من كل الصعوبات لا تزال الاسرة في لبنان بما يخص المسن، الحمد لله بخير، لا أقول بألف خير ولكن الحمد لله بخير· فما زال المسن يأخذ الرعاية داخل الأسرة· أما في ما يخص المسنين الموجودين في الدار فالأغلبية يقومون بواجب الزيارة خصوصاً وأننا كمؤسسة لا نرضى بأن نكون ملجأ لمن تخلوا عنه أهله، فنحن نساهم ي إعادة التواصل مع العائلة ونشدد على ذلك· كما أؤكد لك أن 95% يزورون أهلهم بانتظام لكن يبقى 5% ممن لديهم أولاداً عاقين وأذكر أنه في إحدى المرات جاءت إبنة إحدى المسنات التي أعالجها، فسألتني أتعرف من هذه؟ فقلت لها: طبعاً إبنتك فقالت لي، كلا أنت إبني، وفعلاً أصبت بالحرج حينها، لكن الأم قالتها كردة فعل على إبنتها التي لا تزورها إلا نادراً·

وفي المقابل هناك حالات تدهشين لها، فمثلاًَ هناك أشخاص يأتون يومياً، وأقول يومياً لتناول الغداء مع أهلهم في الدار، وصدقيني أنا ما كنت أستطيع أن أفعل ذلك·

وختاماً، أتمنى من الرئيس ميشال سليمان بعد الإنتهاء من الإنتخابات النيابية أن يخرج موضوع ضمان الشيخوخة عن المزايدات السياسية وأن يوليه الرعاية والإهتمام، وذلك من أجل كافة المسنين، فمن المعيب أن يقف مسن في الـ 85 من عمره أمام أحد المستوصفات ليستعطي دواء الضغط، ليس خوفاً من الموت بل خوفاً من أن يصيبه الفالج، خصوصاً وأنه يحمل هم من سيخدمه في حال أصيب بالعجز·

فلنقر قانون ضمان الشيخوخة رأفة بالمسنين ليعيشوا بكرامة وسلام دون خوف من الغد·

مهايني < الاختصاصية الصحية - الإجتماعية جمال مهايني بدورها تحدّثت عن تجربتها في هذا المجال، تقول:

- <مجرد أن تخرجت من الجامعة عام 1995 توظفت في دار العجزة، وأنا أعمل مع المرضى مباشرة وتحديداً مع علاقة المريض بأهله وبكل ما يختص في دار العجزة· ومن وجهة نظري، كعاملة في الحقل الإجتماعي أشعر بأن كل مريض لديه أولاد وهو يتمتع بالوعي الكامل يتفاعل بإيجابية لدى حضورهم بينما المريض غير الواعي حتى لو أتى أولاده يومياً فهو لا يشعر بذلك، وبالتالي أولاده تلقائياً لا يعودوا يقومون بالزيارة·

وهناك جزء آخر من المرضى الذين ليس لديهم أولاد أو لم يتزوجوا، فهؤلاء يكون لديهم أولاد إخوة أو ما شابه، يقومون بالزيارة ولكن بالمناسبات وليس كما يجب، دون أن يعترفوا بالجميل بأن هذا الشخص ربّاهم وتعب عليهم·

وهنا لا بد من أن أؤكد بأن الزيارة ضرورية جداً كونها تبعث الحياة من جديد في نفس المسن وهي تعمل على حالته الصحية والنفسية معاً·

والزيارة بحد ذاتها تنعشه سواء كانت من أولاده أو جيرانه أو أهله لأنها تشعره بأن الناس ما زالوا يتذكرونه وبأن الناس ما زالوا أوفياء له والدنيا بألف خير· كما أنه ما زال محبوباً ومرغوباً به إجتماعياً·

ونحن نشعر بذلك بعد كل زيارة، حين نرى الإبتسامة على وجوههم والسعادة· أما في حال انعدمت الزيارات فترينهم تعساء جداً>·

تضيف مهايني: <نحن نحرص على إقامة النشاطات والرحلات، وهي مقسّمة على ثلاثة مراحل:

- جزء يطال المرضى الذين ليس باستطاعتهم الخروج من غرفهم فنقيم لهم النشاطات ضمن الغرف·

- جزء يطال المرضى الذي يخرجون من القسم ولكن ليس باستطاعتهم الخروج من المستشفى فنجتمع في الحديقة أو القاعة من خلال نشاطات رياضية أو ذهنية كـ<الداما> والشطرنج···

- جزء يطال المرضى الذين باستطاعتهم الخروج من المستشفى فنقوم بتنظيم رحلات أسبوعية لهم وتلبية دعوات للغداء أو العشاء>·

تضيف مهايني: <بالرغم من أن عملي يحتم عليّ أن أفصل في علاقتي مع المرضى إلا أنني أحياناً كثيرة لا أتمكن من ذلك نتيجة الروابط التي تجمعنا بهؤلاء المسنين، فهناك حالة خاصة لم أستطع أن أتعامل معها كسائر الحالات لأنها مميزة وتطرح علامات استفهام، فهل يعقل لأم ربت عشرة أولاد وأوصلتهم لأفضل المراكز أن لا يأتي ولد واحد للسؤال أو الاطمئنان عنها، وهي ان توفيت لن يعلم بها أحد؟! ما نشاهده بأم العين أحياناً كثيرة، نحن أنفسنا لا نصدقه>·

عراجي < عضو لجنة الصحة النيابية الدكتور عاصم عراجي، يقول:

- <من الطبيعي أن يكون دور الدولة هو دور رعائي بالدرجة الأولى، وهذا يفترض أن تشمل رعايتها كل أفراد المجتمع وكل الفئات·

وفي أوروبا ومعظم بلدان العالم المتقدم نجد أن هناك دوراً للعجزة بشكل واسع وهي دور متطورة تشمل كل وسائل الترفيه والخدمات لهذه الفئات من العمر التي تحتاج إلى رعاية متميزة· من هنا يفترض على الدولة أن تنشئ دوراً للعجزة في مختلف المناطق وأن لا يبقى الإتكال على بعض الهيئات المدنية والأهلية أو المبادرات الفردية· وهذه الحاجة هي مزدوجة: أولاً لأن الدولة عليها واجبات تجاه مواطنيها في هذه الفئات العمرية الم

تقدمة في السن وثانياً لأن الكثيرين من أبناء العجزة لا يستطيعون أن يعيلوا آباءهم أو يقدموا لهم الرعاية المطلوبة>·

ويضيف الدكتور عراجي: <إلى جانب بناء دور العجزة هناك مسألة يجب أن تقوم بها الدولة وهي تأمين الطبابة لهذه الفئة 100%، مع العلم أن شركات التأمين الخاصة لا تشمل خدماتها مثل هذه الفئة· ويبرز هنا أيضاً مشروع ضمان الشيخوخة الذي أرجئ إقراره والذي خضع لتعديلات ويحتاج إلى تعديلات أخرى من أجل إقراره، وهو يعتبر مشروعاً مهماً على كل الصعد والمستويات·

وهناك أفكار أخرى عديدة يمكن أن تقوم بها الدولة بالتعاون مع الهيئات الأهلية والمدنية مثل بناء مراكز تأهيل أو بيوت خاصة للعجزة مع تأمين الخدمات الصحية لهم· ويمكن أيضاً أن يتم من خلال مشروع الشيخوخة تأمين المعاشات التقاعدية للمسنين، هذا عدا عن إنشاء مراكز إجتماعية تعنى بشؤون المسنين والعجزة· وطبعاً نحن كلجنة لا نستطيع وحدنا أن نقوم بمثل هذه الأشياء بالطبع، فهذا عمل الحكومة بالتعاون مع المجلس النيابي، لكننا نأمل من تحقيق ذلك>·

وبالوالدين إحساناً ولاستطلاع المزيد عن أوضاع هؤلاء المسنين التقينا عدداً منهم، فكان الآتي:

< خديجة د·: <تزوجت إلا أنها لم ترزق بالأولاد فهجرها زوجها، وهكذا عادت إلى منزل أخيها لتربي أولاده الذين تعتبرهم بمثابة أبنائها·

لكن عندما أصابها العجز طلبت منهم إدخالها إلى المستشفى كي لا تشكل عبئاً على أحد منهم، فكان لها ما طلبت· واللافت أنهم حفظوا الجميل، فهم يحرصون على زيارتها كل يوم سبت للإطمئنان عليها· وخديجة رغم مرضها تراها تحب الفكاهة فهي لدى رؤيتنا أرادت أن تمازحنا قائلة: <انتظروا أريد أن أرتب نفسي وأضع الماكياج للصورة>·

< آمنة د·: <توفي زوجها منذ زمن، ولها منه أربعة أولاد ولدان وبنتان، جميعهم متزوجون وقد حرصت على تربيتهم، فعملت باستمرار لتكبّرهم وتراهم أمامها شباباً· فما كانت النتيجة؟ النتيجة كانت أنه بمجرد إصابتها خلال حرب تموز وإصابتها في رجلها التي كان لا بد من بترها أودعوها في الدار، ويكتفي أبناؤها الشباب بزيارتها يوم الأحد أما البنات فلا يزرنها ويتحججن بأن المسافة بعيدة من صيدا إلى بيروت ومن سوريا إلى بيروت· والسؤال هل المسافة بعيدة عن حضن الأم التي ربّت وتعبت وسهرت وكبّرت؟!

امنة في الدار منذ سنتين ونصف ولم ترَ أحفادها لأن أولادها لم يأتوا بهم ولو مرة واحدة لرؤية الجدة التي تنتظر هذه اللحظة، فأين صلة الأرحام التي أوصانا بها القرآن الكريم، وهل هناك رحم أهم من رحم الأم؟·· آمنة ولتبعد الأفكار عنها تحاول أن تملأ الفراع بمساعدة زميلاتها في الدار وهي أحياناً كثيرة تطبخ لهم كونها ماهرة في هذا المجال، ولكن الغصة تبقى في القلب>·

< سكينة ·ع: <هي مطلّقة، ولها إبنتين وصبي أودعت في الدار منذ العام 1998، حين جاء بها أولادها فلم يكن باستطاعتها أن تمشي أو تتحرك، إلا أنه بقدرة الأطباء وبفضل الله تحسّنت حالها· منذ 3 سنوات لم تزرها بناتها، أما ابنها فهو مسافر <وحدّث ولا حرج>· سكينة تقضي وقتها في البكاء <فالضربة> أتت من فلذات أكبادها، وأنا بدوري لا أعلم ولا أستطيع أن أتخيل أن لا يسأل ولد عن أمه؟ ولا سيما أنهم يربون بدورهم أبنائهم ألا يخافون أن يلقوا المصير نفسه في شيخوختهم؟! ما يجري مؤلم للغاية وهؤلاء الأبناء يرتكبون جرحاً كبيراً بحق زهلهم فهم يقتلونهم قبل أن يأذن الله بذلك>·

< ف·ع: فلسطينية الأصل، هي في الدار منذ سنة ونصف تقريباً وهي تشكل حالة خاصة· زوجها متوفي وقد رزقت منه بعشرة أولاد (8 بنات وولدين) هي سيدة متعلمة وتتمتع بصحة جيدة، إلا أنها تعاني من <الزهايمر> في مراحله الأولى، لكنها لا تشكل أي عبء، وبامكان أي ولد من هؤلاء العشرة أن يرعاها لا أن يضعها في الدار مع احترامنا التام للرعاية التي تقدمها هذه الدار·

أولادها الشباب غادروا إلى أميركا دون أن يبلغوها وقد عرفت بالموضوع بعد إتمامه، كما أنهم لم يعرضوا عليها الذهاب معهم، أما بناتها فهن متزوجات وبعضهن يعيش في السعودية· وكل ما ورد لا يهم، المهم أنها مستاءة جداً وحرقتها في قلبها، فهي تستغرب ما آلت إليه حالها وهي التي كانت مديرة مدرسة، خرّجت الأجيال وربتهم على القيم والأخلاق إلا ان هذه القيم لم تطمر في أولادها، فهل يعقل أن لا يزورها أحد من هؤلاء العشرة، هي تؤكد لي بأنهم لم يعرضوا عليها الخروج من الدار ولكنهم إن فعلوا فهي لن ترضى بذلك لأن <الطعنة> كانت صعبة ومؤلمة جداً، فأنا لن أعاتبهم ولن أغضب عليهم لأن الله وحده هو الذي سيحاسبنا جميعاً، وأنت تعلمين غضب الله على من يغضب أمه·

وهكذا، نخرج والدهشة لا تفارقنا، ونطرح السؤال هل يمكن أن تؤول حالنا لما نراه أمامنا من <عقوق>؟ فنطرد الفكرة لنكمل اللقاءات:

< نايف· ب: أتى به ابنه منذ سنتين تقريباً، وزوجته مريضة في الفراش شبه عاجزة، هو يحب <الأستاذ> (الرئيس نبيه بري) وقد أصيب في رجله لكنه تعافى أثر العلاج، منذ شهر تقريباً لم يزره إبنه، ولدى سؤالنا يبرر نايف <بكون مشغول، الله يعينه>· صدقيني أنا سعيد هنا فنحن نمضي الوقت مع بعضنا وأصبحنا عائلة واحدة، كما أن الدار تنظم لنا الرحلات وتقيم لنا مختلف الأنشطة· <بس ابني إللا ما يجي، بس بكون مشغول>·

< أديب· ش: موجود في الدار منذ 7 سنوات وهو متزوج، لكنه يعاني مرض السكري ويتابع العلاج اللازم وهو يتقن لغات عديدة منها الفرنسي والإنكليزي والإيطالي والألماني، توفي ولده منذ مدة طويلة، وزوجته تكتفي بزيارته كل شهرين· الحقيقة أنها تبذل جهداً، <ويا هيك الوفا أو لا>!!!

اللقاء الأخير كان مع حسن· ج: متزوج وله 3 أولاد (إبنتين وشاب)، لكن هناك حالة فراق بينه وبين زوجته وقد أتت مرة واحدة مع ابنتيه لرؤيته، وهكذا كان، فكان اللقاء الأخير، حسن خضع لعملية وهو بالتالي يمارس علاجاً فيزيائياً وقد أصبح بصحة جيدة، لكنه يرفض الخروج من الدار لأن ليس هناك من مكان يستقبله، لذلك نراه يفضّل البقاء في الدار ولا سيما انها تقدم له كل ما يلزم من رعاية في مختلف الصعد>·

وختاماً، نأمل من الأبناء أن لا يتنكروا لأهلهم ولا سيما في أوقات الشدة، فالأهل هم البركة، ومن ليس فيه خير لأهله ليس فيه خير لأحد، وبالتالي الدنيا كالدولاب يوم لك ويوم عليك، فلنحسن المعاملة لنستطيع أن نحسّن بدورنا <آخرتنا> كما هو شائع· وكما بدأنا نختم لنقول: <بالوالدين إحساناً>·

تعليقات: