هكذا يدفع اللــبنــانيــون فــواتــيــر مــزدوجة فــي كل الــقطــاعات

بين أزمــة حكومــيــة طــارئــة وأزمــة خــدمــاتــيــة مــتجــذرة

هكذا يدفع اللــبنــانيــون فــواتــيــر مــزدوجة فــي كل الــقطــاعات

...

قلما يعي اللبنانيون انهم يدفعون فواتيرهم مرتين: مرة للوزارة المختصة التي تتقاضى بدل خدمات لا تقدمها، ومرة للمستفيدين من غياب الدولة الذين "يتبرعون" بتقديم ما تعد به ولا تفي به. وبين الخدمة الرسمية والخدمة الخاصة يرتفع ثمن السلطة وتتدنى جودتها... فالنذر للخدمتين والباقي... على المواطن.

جنى نصرالله

...

ينقسم اللبنانيون في نظرتهم الى الحكومة فريقين. فريق يعتبرها شرعية وآخر يرى انها فاقدة كل شرعية. مضى على هذه الحال اكثر من اربعة اشهر، علما انها ليست المرة الاولى التي ينسحب فيها عدد من الوزراء من الحكومة في اقل من عامين لاسباب خلافية. المشكلة على هذا المستوى سياسية، وقد اخذت، ولا تزال تأخذ حقها من الاخذ والرد. واصبح النقاش في الوضع الحكومي مرتبطا بوضع المحكمة، على طريقة ايهما قبل، البيضة ام الدجاجة؟ ملّ الناس او لم يملوا، ليس هذا المهم، على اهميته، فالحكومة في ازمتها السياسية ليست قصتهم ولا هي قضيتهم، وان ادّعوا عكس ذلك، ولكن تداعياتها على المستويين الخدماتي والشعبي هو ما يفترض ان يعنيهم، وخصوصا انه ينعكس على حياتهم في شكل سلبي يصيبهم في الصميم.

صحيح انه لا يمكن الادعاء ان الازمة الحكومية التي دخلت شهرها الرابع " بنجاح منقطع النظير" هي ام الازمات الحياتية والمعيشية التي تستنزف اعصاب المواطنين وتفرغ جيوبهم الفارغة اصلا، ولكن الصحيح ايضا ان انهماك الحكومة في شؤونها وشجونها وخلافاتها المصيرية فاقمت الاوضاع السيئة سوءا. فالمراوحة تعني بالارقام عودة الى الوراء، او بالاحرى تخلفا، وهو ما يشكو منه اللبنانيون مرددين عبارتهم الشهيرة "شوفوا العالم وين صار ونحن وين بعدنا". والعبارة غنية في دلالاتها ولا سيما ان الجميع يرددها: مواطنون وسلطة ومعارضة وان في مناسبات مختلفة وسياقات متناقضة ولكن النتيجة واحدة. فلا احد يبدي استعدادا لتحمل تبعة ما آلت اليه الاوضاع في البلاد ولو من باب التواضع او الموضوعية. فالجميع على حق، ولكن "الحق على الطليان". والطليان في المفهوم اللبناني هم مجموع دول العالم التي تزج انفها في الشؤون اللبنانية من دون وجه حق. وحده اللبناني مسؤولا كان او مواطنا مغمورا، يعتبر نفسه بريئا من دم هذا الصديق. !

موتور أم دولة؟!

القصة بدأت قبل الازمة الحكومية بكثير. ويمكن القول ان هناك جيلا بكامله لا يعرف معنى الازدهار الاقتصادي ولا يحسن وصف البحبوحة التي تشكل بالنسبة اليه عبارة مبهمة يجهل كيفية شرحها او اعطاء امثلة تجسدها. قد يكون السؤال طموحا بعض الشيء في بلد عاش حربا طويلة وسلما مهددا قد ينتهي مفعوله في اي لحظة. ولكن هذا لا يعني ان الاجابة عن اسئلة اكثر بداهة يمكن ان تحصد اجابات تخدم فكرة الدولة. فإذا سألت اي شاب عن اسم وزير الطاقة على سبيل المثال لا الحصر ، ليس في هذه الحكومة فحسب بل في اي من الحكومات التي شكلت منذ انتهاء الحرب حتى اليوم، فسيجيب بكل ثقة "صاحب مولد الكهرباء في حيّنا". واذا حاولت اقناعه بعكس ذلك فإن حججه ستكون اقوى من منطقك. فهو منذ ان فتح عينيه على هذه الدنيا في زمن السلم، يزوره كل اول شهر احد العاملين لدى صاحب مولد الكهرباء ليجبي بدل الاشتراك في المولد الذي ينور لياليه. الجابي في شركة الكهرباء يحضر ايضا في موعده ليقبض فاتورة الكهرباء المقطوعة في اغلب الاحيان. وقد تشاء الصدفة ان يقرع الاثنان باب بيتك في الوقت عينه، ويتقاضى كل منهما فاتورة الكهرباء مع فارق بسيط هو ان الاول يتقاضى مقطوعا شهريا لا تقل قيمته عن 50 الف ليرة بدل 5 امبير، في حين ان قيمة الفاتورة الثانية تتجاوز هذا الرقم، حتى ولو كان الاستهلاك صفرا. ذلك لان شركة الكهرباء تتقاضى بدل ايجار الساعة، وبدل التأهيل، والضريبة على القيمة المضافة، وبدل طوابع وسواها من البدلات قبل الحديث عن قيمة الطاقة المستخدمة. ولعل هذا ما دفع معظم ربات البيوت الى التحايل على الموضوع والقيام بكل الاعمال المنزلية التي تستهلك الطاقة حين يجري تشغيل المولد. لذا، فإن السؤال الذي تسمعه يتردد في معظم البيوت خارج نطاق العاصمة قبل تشغيل اي آلة تعمل على الطاقة " هل هذه كهرباء الدولة ام كهرباء الموتور"!

لا تتوقف الازمة الخدماتية عند حدود الطاقة بل تشمل سائر القطاعات الاخرى. ولعل الطرفة التي روجت ردا على شعار احب الحياة، "رايح اسهر"، تلخص قصة الخدمات التي يدفع المواطن ثمنها مرتين، من دون ان يكون الحصول على نوعية مقبولة في حده الادنى مضمونا. تقول الطرفة " رايح ادفع فاتورة الكهرباء واشتراك الموتور، فاتورة المياه واجرة السيترن وثمن مياه الشرب، وفاتورتي التلفون والسيلولير...".

فاذا كان من الصعب ان تقنع ايا من ابناء الجيل الجديد بان صاحب مولد الكهرباء ليس وزير الطاقة، فإنه يستحيل انه يصدق انه في قديم الزمان كان اللبنانيون يحصلون على مياه الشفة عبر الحنفية. فالتطور في رأيه يقضي ان نحافظ على هذا الامتياز لا ان نفقده ونضطر الى شراء مياه الشفة التي لا تصل الى البيوت، واذا وصلت فلا احد يجرؤ على تناولها لأن احتمال تلوثها كبير، وبدلا من ان تحل الحكومات المتعاقبة الازمة عمدت الى الترخيص العشوائي للدكاكين التي تبيع مياه الشفة، وذلك من دون ان تتنازل عن حقها في جباية الفواتير، على اعتبار المياه التي تصل الى البيوت، تصلح للاستخدام، علما ان وصولها في فصل الصيف دونه مشقات بسبب الشح الذي يضرب الانهر والينابيع. وهذا يعني في لغة الفواتير ان المواطن يدفع ثمن المياه ثلاث مرات: فاتورة لمصلحة المياه، واخرى لمياه الشفة وثالثة لشراء مياه الخدمة صيفا.

كان يمكن هذه القضية ان تطرح قبل 15 عاما، اي بعد عامين على انتهاء الحرب. ولا شك في ان ثمة من كان سيعتبر ان اثارتها في ذاك الحين تحمل الكثير من التجني على الدولة التي كانت لا تزال تلملم اشلاءها. ولكن الوضع ازداد سوءا مع مرور الوقت، واثارة الموضوع تشكل خدمة للمنظرين في ضرورة تخصيص القطاعات العامة، لان محاربة الفساد قضية معقدة، اذ ان المفسدين مخلوقات غير مرئية في لبنان ولأن حاميها ليسو حراميها؟!

اما في قطاع الاتصالات فالهاتف العادي متوافر في معظم البيوت، والخليوي خيار فردي لا علاقة له بتلكؤ الوزارة عن القيام بمهماتها. ولكن كلفة التخابر في لبنان لا تزال الأغلى في العالم. ولمزيد من المعلومات، فرض هذا الواقع على اللبنانيين ضرورة اقتناء هاتفين، واحد للتخابر العادي وآخر للتخابر الخليوي في محاولة للتحايل على الفاتورة التي تتضاعف قيمتها اذا استعمل الهاتف العادي لطلب رقم خليوي والعكس صحيح. لا تفسير علميا مقنعا حتى الآن لهذه الظاهرة.

حتى الاستشفاء!

لا شك في ان المواطنين يتمنون لو ان مبدأ الدفع المزدوج يقتصر على هذا النوع من الخدمات لكانت مصيبتهم محمولة، وخصوصا ان حياتهم لن تكون على المحك كما هي الحال حين يطال الحديث الاستشفاء. هنا ايضا الفاتورة مزدوجة، وخصوصا ان الطبابة المجانية على حساب وزراة الصحة تشكل مرادفا لعدم وجود اسرة شاغرة في المستشفيات. هذا طبعا بعد الوقوف في طابور طويل للحصول على موافقة من الوزارة لاجراء عملية على حسابها او الحصول على دواء باهظ الثمن.

هذا حال الفقراء والعمال المياومين او العاطلين عن العمل وهم كثر. اما الذين يتمتعون بضمان اجتماعي باشكاله المختلفة، (وهو ليس مجانيا بل مقابل بدل سنوي تدفعه المؤسسة وتحسم منه نسبة من راتب الموظف) فحالهم ليست افضل، لان بطاقة الدخول الفعلية الى المستشفى هي التأمين الصحي الخاص. ومن لا قدرة له على شرائه فهو مهدد بان يموت على باب الطوارئ اذا كان لا يملك مبلغا يدفعه على الحساب نقدا، اذا اصابه عارض صحي طارئ.

... وبعد، الضريبة. صحيح انها لا تندرج في نطاق الخدمات، ولكن ينطبق عليها قانون الدفع المزدوج. فاللبنانيون يدفعون ضريبة الدخل، ويدفعون ايضا الضريبة على القيمة المضافة مقابل الحصول على لا شيء، علما انهم لا يطمحون الى الحصول على اي مقابل، فقط تفسير مقنع للفلسفة الضريبية في لبنان. وهذا في ذاته يستحق دفع الضريبتين و " طبشة الميزان" كرمى لعيون وزارة المال.

قائمة الفواتير المزدوجة لا تزال طويلة، وجعبة اللبنانيين غنية بتجارب تحكى عن وزارات خدمات لا تقدم اي خدمات. وفي المناسبة، اي نوع من الخدمات تقدمها وزارة الشؤون الاجتماعية في بلد ترتفع فيه نسبة الفقر ومعدلات التسرب من المدارس وتنتشر ظاهرة المتسولين اللبنانيين لا الاجانب؟

الازمة الحكومية اليوم طارئة، ولكن الأزمة الخدماتية متجذرة. الحكومة الشرعية معطلة، ولكن حكومات الخدمات الخاصة ناشطة. واذا كان احد اوجه الخلاف الحكومي يتمثل في عدد الوزراء وفي توزيع الحقائب والاسماء، فلا ضير في ضم اصحاب المولدات وتجار المياه وممثلين عن شركات التأمين الى الحكومة، اذ ان هؤلاء يسيرون امور المواطنين منذ زمن في حين تتلهى الحكومات المتعاقبة بالقضايا المصيرية والاستراتجية والكونية!.

تعليقات: