المعارضة وواجب تسلّم السلطة

 فؤاد السنيورة، مهندس السنوات الـ15 الماضية
فؤاد السنيورة، مهندس السنوات الـ15 الماضية


كم هو معبّر تصريح رئيس الحكومة اللبنانية الحالي، وزير المال السابق على مدى عهود، الذي تفاخَر فيه بأنه خفض نسبة الدين العام على الناتج المحلي من 180% إلى 160%، وكأن لسان حاله يقول إنه تسلّم الحكم من طرف آخر أساء إدارة السلطة فرفع الدين العام إلى مستويات غير معقولة، ثم جاء دولته كمنقذ عالِم ليبدأ إصلاحاً مالياً مفقوداً. أول ذي بدء فليعلم الجميع أن نسبة الـ180% هي غير صحيحة، وكذلك الخفض إلى 160%. فالنسبة فاقت 200%، وما زالت على حالها. ثانياً، نسبة الدين على الناتج ما هي سوى مؤشر وليست هدفاً، فأميركا اليوم يفوق دينها 100% من الناتج واليابان 130% ولم تنهارا مالياً، بينما انهارت الأرجنتين عام 1999 وكانت نسبة الدين فيها 55%.

وها هو فؤاد السنيورة، مهندس السنوات الـ15 الماضية وزيراً ورئيساً، يحذر من أن «المالية العامة المثقلة بمتطلبات الدين تعمل بهامش ضيّق». الجواب ببساطة: مَن لم يستقل بنزول ما يفوق مليون نسمة إلى السرايا فلن يشعر بالمسؤولية ولا بالذنب، لكونه وقّع باليد على كل ما يتعلق بالمالية العامة، ولكونه بنى كل ممارساته السابقة بعيداً عن الحد الأدنى من التقنيات والآليات المالية، معتمداً فقط على ما لخّصه في جملته الأخيرة: «إن لبنان لا يزال يشهد تدفقاً ملحوظاً في الرساميل»، مشيراً إلى فائض 700 مليون دولار في ميزان المدفوعات. هل قال السنيورة لأحد ما هي نسبة التدفقات التي توجّه لغير خدمة الـStatus Quo القائم على قدوم رساميل لتوسعة قاعدة ودائع المصارف لفرض إكمال منظومة: رساميل، ودائع، إقراض حكومي؟ وهو ما زال مستمراً حتى اليوم بالممارسة التي أدت إلى الانهيار العالمي القائم على نظرية: من غير المهم سداد أصل الدين ما دام المستدين يخدم الدين (يدفع فوائد). وطبعاً لم يغب عن بال السنيورة أن يتباهى بإنجازاته، لكن غاب عنه أن يذكّرنا بعبارته الشهيرة «النمو المستدام».

لقد عوّدنا فؤاد السنيورة على نشر الأجواء الإيجابية، وكلما تأزّمت الأوضاع ولاحت نُذُر انفجار ما، كان هناك انعقاد لباريس 1 أو 2 أو 3. للأسف مؤتمرات باريس، بدون التقليل من أهمية بنودها التقنية، لم تكن إلا حُقنَ معنويات ضُخّت في شرايين فئات المجتمع اللبناني كافة. واستسلمت المعارضة الحالية والموالاة لمفهوم تسليم الملف المالي والاقتصادي إلى المرحوم الرئيس رفيق الحريري بين 1993 و2005 وبعدها لواقعية البنك المركزي في ضبط الاستقرار، متناسين أن البنك المركزي (الذي يقدّر له توفير استقرار نقدي ومصرفي) غير مسؤول عن ضبط المالية العامة والدين.

وعلى سيرة الدين العام، بات المجتمع اللبناني والطاقم السياسي متعايشين مع مفهوم الدين العام على أساس أنه مكوّن رئيسي في استكمال عناصر اللعبة السياسية القائمة. وبضمور إمكانات المقاسمة الحالية لقالب الجبنة في ضوء تقلّص الفرص في الدولة، أصبحت الاستدانة وسيلة أو آلية لخلق منابع جديدة للمحاصصة. هذا كله طبعاً تحت شعار «النمو المستدام» والوهم بالرخاء والرفاه وحب الحياة، وبأن أي طرف يزيح الفريق الحالي عن الحكم سيكون مسؤولاً عن الاضطراب المالي والنقدي ومنع تدفق الرساميل. والله عجيب أن يكون هذا المنطق لغة جهة أوصلت الدين من 1 مليار إلى 55 مليار دولار وشاركت في هدم كل مقومات بناء دولة قوية قادرة وعادلة، وأبدلتها بدولة وشعب مدمنين للعطاءات الحكومية والفردية تُغني شوارعها بلافتات الشكر والامتنان لـ«طويلي العمر».

أين المعارضة الحالية من كل هذا والشأن السياسي؟

ممارسة التعايش المستمرة للمعارضة جعلتها من حيث تدري أو لا تدري أسيرة لمنظومة مالية وسياسية صعبة مواجهتها وتحدٍّ كبير لتسلّم المسؤولية منها. هذا لا يعني إطلاقاً أن المعارضة يجب أن تخاف أو تقلق من تسلّم الحكم إذا قرر الطرف الآخر عدم المشاركة. لكن التحدي الأكبر سيكون أن تعيد المعارضة أو لا تعيد ارتكاب غلطة 1998ـــــ2000 أو أن تجد في تسلّم الحكم فرصة تاريخية فريدة لتغيير واقع أليم مستمر منذ 1993، إذا ما تغاضينا عن مرارة 1943ـــــ1993.

■ الاقتراحات المالية والاقتصادية

1 ـــــ الاعتراف وعدم الهروب من حجم واقع المديونية واهتراء المالية العامة.

2 ـــــ كسر مفهوم تشجيع قدوم الرساميل فقط لدعم مالية الدولة، بل على العكس تشجيعها لدفع نمو اقتصادي حقيقي لما يمكن لبنان أن يأخذ حصة فيه ضمن محيطه الإقليمي. وهناك اقتصاديون قاموا بدراسات عديدة في هذا المجال تغطي مختلف القطاعات، من صناعية وزراعية وتجارية وخدماتية وتكنولوجية. وهذا يشجع، عكس ما يشيعه فؤاد السنيورة، المودعين على تحويل أموال إلى لبنان إذا هم اطمأنوا إلى عدم إساءة استعمال ودائعهم. فتفاخر وزير المال الحالي بأن الوضع المالي للدولة مطمئن بسبب وجود كتلة نقدية كبيرة في المصارف اللبنانية سوء أمانة لأموال المودعين الذين يمحضون لبنان ثقتهم ولا يمحضونها وزارة المال لأغراضها الآنية. يأتي هنا السؤال الاستنتاجي: من أين، إذاً، تموّل الدولة نفسها؟ الجواب، وليس تهرّباً، تقني وهندسي (مالياً) إلى حد يصعب معه تفصيله (ومن المستحسن تجنّب التجاذب فيه إعلامياً لعدم إعطاء فرصة لأصحاب النيات السيئة). وإذا لم يتم هذا الأمر بالسرعة المطلوبة، فمن الممكن أن يرتفع الدين من 55 إلى 65 و75 و85 مليار دولار ما دامت سياسة تدفق الرساميل إلى لبنان مستمرة. والحل التقني والهندسي يجب أن يكون ضمن جهد مشترك بين الدولة (وزارة المال) والبنك المركزي والمصارف لوضع آليات تطبيقية تعتمدها دائرة إدارة الدين. طبعاً أكبر تحدٍّ في هذا الأمر هو عزل المزايدات السياسية من الأطراف الذين سيحاول كل منهم التملّص من مسؤولية تحمل فترة صعبة يجد المجتمع اللبناني نفسه مضطراً لأن يمر بها نتيجة الهندسة المالية. وفي هذا الإطار لا بد من ذكر ما مازح به وفد صندوق النقد الدولي بأن أفضل الحلول قد يكون الابتسام مع واقع الألم، على أمل أن تكون الوفاة فجائية وغير بطيئة!

وفي السياق نفسه، على المعارضة، إن هي اضطرّت إلى تسلّم الحكم بسبب نقض الطرف الآخر مبدأ المشاركة، أن لا تعفيه من المسؤولية عن مضاعفات المرحلة السابقة وأن تحمّله مسؤولية جميع عواقب الورم المالي والدين العام.

■ الضمان الاجتماعي

عَلَت أصوات عديدة منذ 1996 وحتى اليوم، تنادي بضرورة فصل مالية الضمان الاجتماعي عن مالية الدولة، وذلك لسبب بسيط هو أن أموال المضمونين، الذين يمثّلون مع ارتباطاتهم العائلية مليوناً و200 ألف نسمة، يجب أن لا تكون عرضة لأي أزمة مالية أو سياسية. وهذا مفهوم معتمد في أغلب الدول المسؤولة، اللّهُمَّ إلاّ إذا اعتُمدتْ مقارنتنا بدول الأدغال. فاليابان التي وقعت في أزمة مالية ومصرفية في التسعينيات رفضت المسّ تحت أي شعار بأموال المضمونين، لأن في ذلك سوء ائتمان لأفراد اقتطعوا جزءاً من رواتبهم خلال حياتهم المهنية ليضمنوا الحد الأدنى من كرامتهم عند التقاعد. في لبنان لم يُجبَر الضمان على الاكتتاب في سندات الخزينة بالليرة اللبنانية فقط، بل جرى التفاوض معه في فترات متعددة لتقسيط المستحقات وعدم دفع فوائد عليها. هذه جريمة كبرى في حدّ ذاتها تهدد ما يسمى «مفصل الأمان الاجتماعي».

على المعارضة، إذا تسلّمت الحكم، التفاوض مع وزارة المال والبنك المركزي لفصل مالية الضمان عن مالية الدولة، وخصوصاً أن البنك المركزي هو من أكبر الدائنين للدولة (20% من الدين) ويملك احتياطاً يفوق 20 مليار دولار. فما الضير في أن يزيد دين البنك المركزي ليحل مكان الضمان الاجتماعي؟ وإذا استطاعت المعارضة تحقيق انتصار في هذا الأمر (انتصار بمعنى وجوب خوض معركة غير سهلة ستواجه بأقسى الممانعة من أصحاب المصالح) يجب توزيع أخطار الاستثمار لأموال الضمان على عملات مختلفة وآليات استثمارية منخفضة المخاطرة لتأمين عدم تعرضها لاهتزاز.

■ الإصلاح السياسي

وكما أنه لا يمكن تطبيق إصلاح سياسي من دون تصحيح الواقع المالي، كذلك لا تصحيح مالياً ونقدياً بدون إصلاح سياسي.

العديد من السياسيين كتبوا مقالات عن الإصلاح السياسي، ولا أظن أنهم يختلف بعضهم كثيراً عن البعض الآخر في المبادئ والشعارات. وقد أصبحت العناوين الرئيسية لمشاريع الإصلاح السياسي كالمعزوفات الموسيقية يرددها الكثيرون إمّا تبنياً وإمّا للاستهزاء بحجة أنها شعارات لن تطبّق: استكمال تطبيق اتفاق الطائف، اللامركزية الإدارية، إلغاء الطائفية السياسية، تعزيز استقلالية القضاء وهيكليته، الإنماء المتوازن، إعادة النظر في الهيئات الرقابية، المجلس الاقتصادي الاجتماعي، توحيد النظام التربوي، تفعيل القطاعات الإنتاجية... وغيرها من العناوين والمبادئ النبيلة في المظهر والجوفاء من آليات التطبيق.

التحدي الأكبر للمعارضة أن تبرهن أنها فعلاً معنية وجدية في تنفيذ ولو الحد الأدنى من هذه العناوين حتى لا يشعر المواطن بأن الفريقين المتنازعين على السلطة متباعدان في الجانب الإقليمي الذي تمثل القضية الفلسطينية وكيفية إدارة الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي أهم جوانبه، ومتقاربان في التعايش مع حالة الاهتراء القائمة في إدارات الدولة وتوزيع مغانمها.

أكثر المواطنين، حتى الذين ينضوون تحت شعاراتهم الطائفية وانزواءاتهم الغريزية، يجمعون على أن مجمل الطبقة السياسية في الطرفين سعيد بالحال القائمة على قاعدة أن لكلٍّ حصته، فلماذا التغيير؟

لذلك لا جدوى من الإطالة في كلام الإصلاح السياسي إلا في بندين هما الأساس لتفاصيل بقية الشعارات:

1 ـــــ أي مسؤول يعمل على فصل السلطة القضائية عن الواقع السياسي ويعزز صلاحيتها ومركزيتها يكون غير جدي إن لم يكن متواطئاً في إفساد السلطات. وأهم ما يمكن فعله لتعزيز استقلالية السلطة القضائية هو وضع سلسلة رواتب وأجور العاملين في هذا السلك وأولهم القضاة، مختلفة عن الروتين في القطاع الحكومي. ذلك أنه لا نزاهة في القضاء ما لم يعزز الواقع المعيشي للقضاة للاستغناء عن النفوذ السياسي وفي سبيل المحافظة على الحد الأدنى من كرامتهم المعيشية.

والأمر الآخر الواجب تطبيقه هو إعطاء السلطة القضائية الاستقلالية عن السلطة التنفيذية في المطلق في موضوع التعيينات والترقيات والتشكيلات، وإلاّ فكيف يمكن قاضياً أن لا يرد الوفاء لزعيم أسهم في تعيينه، أو منع نقله إلى منطقة نائية؟

2 ـــــ أي إصلاح سياسي لإعادة تكوين السلطة لا ينطلق من إصدار قانون انتخاب جديد يقوم على أساس النسبية في الدائرة الواحدة والترشيح على أساس اللوائح والأحزاب (من غير منع الترشيح الفردي) هو إصلاح ناقص لا يؤدي إلى نتائج تغييرية حاسمة ويدخل في دائرة الترقيع.

أخيراً، يبقى السؤال الأهم: ما هي فرص نجاح، إن لم يكن كل ما ذُكر، فالبعض منه على الأقل؟ حبَّذا لو نقع في توقّع مخطئ يوماً من الأيام ويبرهن بعض الطبقة السياسية على جديته في التوجه الإصلاحي. لكن أكثر المؤشرات تقودنا إلى خفض سقف التوقعات، حتى لا نقول دفعنا إلى اليأس. وإن غداً لناظرهِ قريب.

* ناشر جريدة «الأخبار»

تعليقات: