سواء أوقف الصدّيق أم لا فلا تأثير له على إطلاق سراح الضبّاط

الصدّيق في إحدى المقابلات التلفزيونية
الصدّيق في إحدى المقابلات التلفزيونية


كشف حساب برحلة شاهد تضليل التحقيق في جريمة اغتيال الحريري ومخالفات ميليس..

هل يؤثّر توقيف الشاهد السوري زهير محمّد سعيد الصدّيق على إطلاق سراح الضبّاط الأربعة من المبنى المستحدث «لفرع المعلومات» في سجن رومية المركزي؟ وهل يمكن لهذا التوقيف المتأخّر عن موعده أكثر من ثلاث سنوات ونصف سنة، وهي المدة التي زجّ فيها بالضبّاط في السجن، أن يعرقل الإفراج عنهم؟.

إنّ الإجابة على هذين السؤالين تقتضي استعادة رحلة هذا الشاهد الذي بدأ ملكاً، كما وصفه بعض السياسيين في فريق الموالاة ووسائل إعلامها، وتباهى به أوّل رئيس للجنة التحقيق الدولية القاضي الألماني ديتليف ميليس الذي قال في مؤتمره الصحافي الثاني في لبنان يوم الخميس في الأوّل من أيلول من العام 2005، في فندق« برنتانيا» في بلدة برمانا، إنّ توقيف الضبّاط الأربعة جاء بناء على «أدلّة مهمّة لا أقوال أو شائعات»!.

وانتهى الصدّيّق بعكس انطلاقته كاذبا ومضلّلاً على حدّ تعبير الضبّاط الأربعة أنفسهم وعائلاتهم ووكلائهم وبعض السياسيين في فريق المعارضة، وذلك فور قيام الرئيس الثاني للجنة التحقيق الدولية القاضي البلجيكي سيرج برامرتز بالتدقيق في إفادته وتحليلها ومقارنتها بما توصّلت إليه تحقيقاته وأبحاثه وتحرّياته، وإسقاطها لعدم جدواها وعدم تضمّنها ما يساعد التحقيق في كشف الجناة الفعليين.

ميليس والأسلوب المخابراتي

لقد بقي اسم الصدّيق سرّيّاً في المرحلة الأولى من مسيرة التحقيق لدى ميليس الذي ارتكز إلى شهادته لبناء توصيته بتوقيف الضبّاط الأربعة، من دون أن يطلع القضاء اللبناني ممثّلاً بالنائب العام التمييزي القاضي سعيد ميرزا والمحقّق العدلي القاضي إلياس عيد، على هوّيّة مصدر «معلوماته» لإرساء هذا التوقيف، مستخدماً أسلوباً مخابراتياً شكّل له سنداً قوّياً لطلب توقيف هؤلاء الضبّاط يوم الثلاثاء في 30 آب 2005.

ولم يسمع القاضي عيد بالصدّيّق، ولم ير صورة وجهه، طوال استلامه التحقيق، أيّ منذ قيام وزير العدل القاضي عدنان عضوم بتعيينه محقّقاً عدلياً في 24 آذار من العام 2005 ، ولغاية صدور قرار محكمة التمييز الجزائية برئاسة القاضي رالف رياشي بردّه لعلّة «الارتياب المشروع» في 6 أيلول من العام 2007. ومع أنّ هوّيّة الصدّيق عادت وانكشفت، إلاّ أنّ القضاء اللبناني ظلّ عاجزاً عن سماعه، واكتفى القاضي ميرزا بالادعاء عليه بجرم إعطاء إفادة كاذبة في 13 تشرين الأوّل من العام 2005، وطلب استرداده من فرنسا التي أطلقت سراحه في 25 شباط 2006.

ولتدعيم موقفه، استند ميليس إلى إفادة شاهد سوري ثان هو هسام هسام الذي استمع إليه في لبنان وأحاط هوّيته بكتمان شديد على غرار ما فعل مع الصدّيّق، كما أنّه لم يكشف عن هذه الإفادة لا للقاضي عيد، ولا للواء الركن جميل السيّد الذي نظّمت مواجهة بينهما في مقرّ لجنة التحقيق في «المونتيفردي» في مطلع شهر أيلول من العام 2005، وكان هسام مرتدياً «وجه مخدّة» ألبسه إيّاه ميليس.

مخالفة عيد

وشكّل إصدار القاضي عيد مذكّرات التوقيف الوجاهية بحقّ الضبّاط الأربعة يوم السبت في 3 أيلول من العام 2005، أوّل مخالفة للمادة 76 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، إذ أنّ التوقيف تقرّر من دون أن يطلع عيد على هوّيّة الشاهدين الصدّيّق وهسام ومن دون أن يدقّق في مصداقية شهادتيهما، ومن دون أن يُمكّن الضباط الأربعة من دحض إفادتيهما، وهذا ما دفع فريق العمل حول الاعتقال التعسفي في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة إلى وصف توقيف الضبّاط بالتعسفي، وذلك في تقريره الصادر في شهر تشرين الثاني من العام 2007 والذي تمّ التأكيد عليه خلال الجلسة العامة لمجلس حقوق الإنسان في جنيف في شهر آذار من العام 2008.

وتلزم المادة 76 المذكورة «قاضي التحقيق، عند مثول المدعى عليه أمامه في المرة الأولى، أن يحيطه علماً بالجريمة المسندة إليه فيلخّص له وقائعها ويطلعه على الأدلّة المتوافرة لديه، أو على الشبهات القائمة ضدّه لكي يتمكّن من تفنيدها والدفاع عن نفسه».

وكان وكلاء الدفاع عن الضبّاط قد استبقوا تقرير فريق العمل المذكور، بوصف التوقيف بأنّه غير قضائي، في إشارة إلى أنّه سياسي، مستندين أيضاً إلى هذه المخالفة.

رياشي والمادة 108

أمّا قول نائب رئيس المحكمة الخاصة بلبنان القاضي رالف رياشي في مقابلته الإعلامية الأولى المشتركة مع رئيس المحكمة القاضي الإيطالي أنطونيو كاسيزي، بأنّ المادة 108 من قانون أصول المحاكمات الجزائية تسمح بالتوقيف الاحتياطي من دون تحديد سقف معيّن، فليس من شأنه أن يغطّي المخالفة عندما تقرّر التوقيف، فأساس التوقيف مخالف للقانون عند حصوله وليست مدّة استمراره.

كما أنّ القاضي رياشي يعرف أنّ المادة 108 المذكورة مخالفة أيضاً لشرعة الحقوق المدنية والسياسية النافذة في لبنان بموجب القانون الصادر في العام 1973 والذي أقرّ انضمام لبنان إلى العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الصادر في العام 1966، لأنّ نصّ المادة الثانية من قانون أصول المحاكمات المدنية يلزم القاضي عند تعارض التشريع الداخلي مع معاهدة دولية أن يطبّق نصّ المعاهدة بالأولوية على النصّ الداخلي، وهذا ما قالته لجنة حقوق الإنسان في جوابها على ردّ الحكومة اللبنانية بأنّ التوقيف قانوني عملاً بالمادة 108، فأوضحت بأنّ هذا الجواب لا يجدي لأنّه يتوجّب على الدولة اللبنانية أن يكون تشريعها الداخلي متوافقاً مع نصّ المعاهدة الدولية وليس العكس.

وشكّل الصدّيّق بإفادته واستحالة مواجهة القضاء اللبناني له بالضبّاط الأربعة القابضين على نار الانتظار لإفراغه من مضمونه التعسفي، الذريعة لاستمرار توقيفهم المخالف للقانون وذلك لغاية شهر كانون الأوّل من العام 2006 فماذا حصل طوال هذه المدّة الطويلة؟.

الصدّيّق وخدّام وتصريحات «غبّ الطلب»

أقام الصدّيّق في فرنسا متنعّماً برفاهيتها وبحماية أمنية وفرتها له المخابرات الفرنسية في عهد الرئيس جاك شيراك، وظهر علناً على شاشات التلفزيونات اللبنانية والفضائية حيث أخذ يطلق تصريحاته «غبّ الطلب» بالتزامن مع تصريحات متطابقة راح يطلقها، ومن فرنسا أيضاً، نائب الرئيس السوري السابق عبد الحليم خدّام. وكان هدف تصريحاتهما التأكيد على مسؤولية الضبّاط الأربعة لإقناع الرأي العام المحلي والعربي والدولي بضرورة استمرار التوقيف، واستثمار هذا التوقيف في السياسة اللبنانية الداخلية وفي المواجهة الإقليمية خصوصاً بعد انهيار شهادة هسام الذي تراجع عنها علناً في مؤتمر صحافي عقده في دمشق يوم 28 تشرين الثاني 2005.

كما سقطت إفادة الصدّيّق، فسارع ميليس إلى اعتباره مدعى عليه بعدما احتج وكلاء الدفاع عن الضبّاط على تركه حرّاً باعتبار أنّه لا يوجد في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري شاهد بريء ويمكن تركه طليقاً.

وقد اضطرّ الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي أنان بعد انهيار ركيزتي توقيفات ميليس، إلى إنهاء مهامه، واستبداله بالقاضي برامرتز، في 17 كانون الثاني من العام 2006، في سبيل الحفاظ على مصداقية الأمم المتحدة القانونية.

وتذكّرت الحكومة اللبنانية وجوب استرداد الصدّيّق من فرنسا، فرفض القضاء الفرنسي الاستجابة لطلبها نظراً لأنّ الصدّيّق معرّض للإعدام في لبنان في ما لو أدين، وما كان من وكلاء الدفاع عن الضبّاط الأربعة إلاّ أن راجعوا رئيس الجمهورية السابق العماد إميل لحود بإلحاح وأقنعوه بأن يتعهّد للسلطات الفرنسية بعدم تنفيذ عقوبة الإعدام بالصدّيّق، إلاّ أنّ وزير العدل آنذاك شارل رزق لم يتقدّم بطلب استرداد ثان إلى فرنسا ليبقى الصدّيّق حرّاً ، ثم دُبّر اختفاؤه بطريقة أربكت السلطات الفرنسية بعدما تسلّم نيكولا ساركوزي سدّة الرئاسة في شهر حزيران من العام 2008.

تقرير برامرتز التقييمي للصدّيّق

وجاءت الحرب الإسرائيلية على لبنان في 12 تموز من العام 2006، لتمثّل عقبة أساسية أمام لجنة التحقيق الدولية ورئيسها برامرتز لمواصلة التقدّم في تحقيقاتها وإعادة تقييمها الشاملة لعمل وملفّ ميليس، إذ أنّ اللجنة اضطرت إلى ترك لبنان إلى قبرص ممّا أدّى إلى تأخّر برامرتز حتى شهر كانون الأوّل من العام 2006، لإعداد تقريره التقييمي عن عدم مصداقية هسام والصدّيّق.

وأبقي هذا التقرير سرّيّاً لدى القاضيين ميرزا وعيد من دون اطلاع الضبّاط ووكلائهم على مضمونه، مع أنّه من حقّهم الطبيعي، وهذا ما حرّك فريق العمل عن الاعتقال التعسفي في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، ليقول في تقريره إنّ عدم تمكين الضبّاط الأربعة من مناقشة الأدلّة بحقّهم يجعل من توقيفهم بالاستناد إلى تلك الأدلّة تعسفياً.

يذكر انّ الاتهامات التي ساقها الصدّيّق بحقّ الضبّاط تتعلّق بعقد اجتماعات في شقتين في حي معوض في منطقة الضاحية الجنوبية لبيروت، ومحلّة خلدة للتخطيط لارتكاب جريمة اغتيال الحريري، ومشاهدته لشاحنة« الميتسوبيشي» في موقع للقوّات السوري في سهل الزبداني (وتبيّن لاحقاً أنّها سرقت من اليابان وشحنت إلى الإمارات العربية المتحدة ثم إلى لبنان عبر مرفأ طرابلس وأدخلت الأراضي اللبنانية من دون إتمام معاملاتها رسمياً)، واقتياد الصدّيّق عدداً من الضبّاط إلى موقع الجريمة نهار 14 شباط 2005 للاستطلاع قبل حصول الاغتيال!

ولم تجر مواجهة بالفيديو بين اللواء السيّد والصدّيّق خلافاً لما حصل مع بقيّة الضبّاط، وهذا ما يقود إلى الاستنتاج بأنّ إفادة الصدّيّق التي بقيت سرّية في تفاصيلها لغاية الآن، لا تتناول اللواء السيّد، وإلاّ لكانت تمتّ مواجهته به، وأجريت مقابلة بينهما على غرار ما حصل مع رفاقه الثلاثة، وفي المقابل يبدو أنّ إفادة هسام تناولت اللواء السيّد بشكل أساسي، لأنّه الوحيد الذي تمّت مواجهته به مقنّعاً، وهذا يعني أنّ إفادة هسام استخدمت لسد النقص في إفادة الصدّيّق.

بيلمار يهمل الصدّيّق

وعندما آلت دفّة التحقيق إلى القاضي الكندي دانيال بيلمار، لم يبال بمصير الصدّيّق، وذلك بسبب تسلّحه بتقرير رسمي موقّع من سلفه برامرتز عن عدم مصداقيته وإهماله لإفادته الباطلة والتضليلية.

وفي ضوء استرداد المحقّق العدلي القاضي صقر صقر لمذكرة التوقيف الغيابية بحقّ الصدّيّق، وعدم صدور أيّ مذكّرة من لبنان بحقّ الصدّيّق، فإنّه يمكن الجزم بأنّه لا تأثير لتوقيف الصدّيّق في الإمارات على مسألة إطلاق سراح الضبّاط، خصوصاً أنّ قانون الإجراءات الإماراتي يضع أصول محاكمات طويلة نسبياً للبتّ بطلبات الاسترداد، إذ أنّ الأمر يبتّ قضائياً على مستوى كلّ إمارة مع حقّ الصدّيّق بتوكيل محام للدفاع عنه، وإبداء دفاعه، ثمّ سياسياً على مستوى السلطة الفيدرالية في أبو ظبي، وهذه الإجراءات تأخذ ما بين شهر واحد وثلاثة أشهر لإنهائها.

ويمكن إبقاء الصدّيّق موقوفاً أو تركه حرّاً، مع حجز جواز سفره، مع أنّه يمكن أن يهرب بصورة غير شرعية ، حتّى ولو حجز جواز سفره ، سواء أكان صحيحا أم مزوّراً.

ولا بدّ من التذكير بأنّ إفادة الصدّيّق هي نسخة طبق الأصل عن الرواية التي نشرتها جريدة «السياسة» الكويتية بعد أيّام قليلة من اغتيال الرئيس الحريري قبل أيّ تحقيق جدّي، وتضمّنت الاتهام نفسه للضبّاط الأربعة، وهي من المصادفات الكثيرة في جريمة قلبت حياة لبنان رأساً على عقب.

تعليقات: