النبطيّة اجتاحت «حداثة» الإسمنت جمالها و ذاكرتها


«همزة الوصل» بين الأسواق الجنوبية..

ثمة ترجيحان لحقيقة اسمها، الأول: النبطية، تاريخي يرده البعض إلى قبائل الأنباط العربية، التي قدم بعضها من مدينة البتراء، والثاني: النباطية، لغوي (من نبط المياه أو البئر) نظراً إلى وفرة الينابيع والعيون التي تتفجر من أرضها. وحملت أختام البريد العتيقة كلمة «النباطية». نقطة الالتقاء بين بلدات الجنوب، أصبحت مركزاً للقائمقامية، ولاحقاً للمحافظة.

تستلقي النبطية في وادٍ متسع، تحتضنه الروابي والتلال المنفرجة نحو مختلف مناطق الجنوب اللبناني. ترتفع 400 متر عن سطح البحر، وتبعد عن مدينة صيدا جنوباً 28 كيلومتراً، و35 كيلومتراً شرقاً عن مدينة صور، ونحو 20 كيلومتراً عن بلدة مرجعيون الحدودية، و40 كيلومتراً عن كل من جزين وبنت جبيل. إلى موقعها الجغرافي المميز، تتمتع مدينة النبطية بصيت تجاري يوغل في التاريخ مئات السنين، ما أكسبها حراكاً اقتصادياً ضخماً جعلها خلية نحل لا تهدأ. هذا التنامي التجاري لم يقتصر على سوقها الشعبية «سوق الاثنين»، بل حوّلها سوقاً دائمة من خلال مركز تجاري واسع ومنتشر، حتى في أحيائها الداخلية؛ تنامت مع أسواق رديفة؛ على نحو سوق اللحم وسوق الحدادين والنحاسين وسوق الماشية وسوق «الغلّة» والسكافين وغيرها.

العدوان الإسرائيلي متمادٍ عليها منذ عام 1975؛ إذ كانت تتعرض لقصف مدفعي مستمر من الداخل الفلسطيني المحتل، قد سبّب في مرحلة ما نزوحاً سكانياً شبه كلي. توقف في عام 2000، ثم تجدد في حرب تموز 2006. هذه الاعتداءات الإسرائيلية قوّضت معظم الأسواق الرديفة، بفعل تنامي مجموعة من الأسواق المحلية في مختلف القرى والبلدات التي كانت تجد في النبطية ضالتها وقبلتها. إلا أن المدينة لم تزل قبلة القضاء الذي يحوطها وبلدات المحافظة المنتشرة شرقاً وشمالاً وجنوباً وغرباً، بسكانها وبلدياتها وأنديتها وجمعياتها، نظراً لما تمثّله من مرجعية إدارية، تمتد هي الأخرى إلى عشرات السنين. النبطية كانت قاعدة «حكومة الشقيف» التي كان يحكمها «الصعبيون» من عائلات جبل عامل التقليدية أو الإقطاعية. ومع الحكم العثماني المباشر، عيّن لها حاكم يدعى رشيد باشا أباظة، إلى حين إعلان النبطية قائمقامية عام 1883، التي كان قائمقامها الأول رضا بك الصلح، فبنى في عهده دار الحكومة (السرايا)، وألّف أول مجلس بلدي وعيّن موظفين في دوائر المالية والعدلية والعقارية والشرطة. (وهو أنشأ أول مدرسة على أسس عصرية حديثة)؛ ثم خلفه مدير تركي ليتعاقب عليها بعده: كامل خليل الأسعد ومحمد علي النابلسي ثم توفيق بك الميداني ومحمد عارف الذي استمر إلى حين انتهاء الدولة العثمانية.

كل ما هو لذيذ في أسواق المدينة

جاء بعد الانتداب الفرنسي بالتعيين عدد من القائمقامين بين سنوات 1919 و1935، (كل من: نخلة بك الخوري سنة 1919؛ وفؤاد البستاني سنة 1920؛ وحسين بك الدرويش سنة 1922؛ وأخيراً إبراهيم فياض بين 1925ـــــ1930)؛ إلى حين إلغاء هذا المركز، وألحقت مديرية النبطية بقضاء صيدا التابع لمحافظة لبنان الجنوبي. وبعد عام 1954 جعلت مدينة النبطية مركزاً للقضاء يديره القائمقام. إلى أن تحوّلت مركزاً للمحافظة بتاريخ 23/9/1975.

هذا التمايز ا منح النبطية نبضاً علمياً وثقافياً وسياسياً بدأ يتنامى منذ القرن الثامن عشر، فهي بعد «كتاتيبها» المتعددة، على أيدي مجموعة من رجال الدين، اشتهرت بمدارسها القديمة التي بدأت منذ عام 1883، ثم انتشرت واتسعت بعد نشوء المدرسة الحميدية (1892) ثم مدارس جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في النبطية (1907) التي أنشأت كذلك مدرسة للإناث (1910). لذلك فإن عدد المتعلمين تجاوزوا في الثلاثينيات من القرن الماضي، 80 في المئة من عدد سكانها الأصليين. وصار التلامذة وطلاب العلم يقصدونها من مختلف المناطق الجنوبية، وصولاً إلى بنت جبيل وقرى مرجعيون وحاصبيا. من النبطية خرج المخترع الراحل حسن كامل الصباح، وكذلك الثالوث العلمائي الأدبي: الشيخ أحمد رضا (مؤلف متن اللغة ورد العامي إلى الفصيح) والشيخ سليمان ظاهر والعلامة «المجتهد» الشيخ عبد الحسين صادق، إلى العشرات من الأساتذة الذين تخرّجوا من دار المعلمين والمعلمات منذ مطلع الثلاثينيات.

هذه الإطلالة على التاريخ التعليمي والإداري في النبطية، لا بدّ منها من أجل الحديث عن استمرار هذه الميزة الثقافية والسياسية والعلمية. لكنّها لم تعد في أوجها كما في الخمسينيات والستينيات وحتى أواخر السبعينيات.

الاحتلال الإسرائيلي المباشر للمدينة بين 1982 و1985، ثم سيطرة بعض الأحزاب المحلية التي استخدمت سطوتها السياسية والأمنية والعسكرية ساهم في قمع الحراك السياسي «المختلف»، وخصوصاً اليساري. كانت النبطية بين بداية السبعينيات وتاريخ الاحتلال الإسرائيلي المباشر المرجعية الجنوبية للحركة الوطنية والقيادات الفلسطينية، فضلاً عن النشوء المبكر فيها للحزب الشيوعي اللبناني والأحزاب القومية والبعثية.

إن اعتقال المئات من الحزبيين على أيدي الإسرائيليين ثم بعض الأحزاب المحلية، انعكس هو الآخر على الحراك الثقافي والعلمي في النبطية، فأهم أنديتها الثقافية، «نادي الشقيف» القائم على أيدي يساريي النبطية في منتصف الستينيات، الذي تجاوز صيته الحدود الجغرافية للمدينة والجنوب من خلال نشاطاته المتميزة، بدأ يتراجع أيام الاحتلال الإسرائيلي المباشر بسبب تحويله مركزاً للقيادة الإسرائيلية، ثم إلى مركز تحقيق واعتقال استخدمته «حركة أمل» بعد عام 1985، ثم إلى مركز للجيش اللبناني.

»سوق الإثنين « يحوي كل ما يخطر في البال من بضائع حتّى الازهار

كان ثمن عودة النادي إلى الحياة، تحول أكثرية هذا النادي إلى أحد الأحزاب المحلية، الذي بات يتحكم بنشاطاته وهيئته الإدارية المنتخبة كل سنتين. وتشهد هذه الانتخابات حماوة لافتة تستنفر لها أكثر القوى والأحزاب، قبل أن يخضع في كلّ مرة لتسوية سياسية، تكون الغلبة فيها لتلك الجهة السياسية المسيطرة. هذا الأمر سبّب تراجع نشاطات النادي، وتقويض مطعمه الشهير؛ وخصوصاً بعدما فرضت الجهة التي استثمرته (بعد فضّ العروض) قبل نحو ثلاثة أشهر، منع تقديم المشروبات الروحية، وكذلك إقامة الأعراس والحفلات الطربية والفنية.

في المقابل، خلق «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي»، من خلال فرعه في النبطية، الذي بدأ يتميز منذ عام 1990؛ الملاذ الثقافي والسياسي المحايد. وإن كانت بعض القوى الحزبية تراه خصماً سياسياً، تصبغه بلون يساري. فهو يواظب على حركة ثقافية، شبه أسبوعية، تدور في رحاها مجموعة من المثقفين، وخصوصاً في الحلقات التي يستضيف فيها أدباء ومفكرين. هذه المجموعة تكاد تتسع أحياناً، أو تضمر في أحيان أخرى، وهي عينها التي تدور في فلك الأندية الثقافية الأخرى في النبطية، إذ يتجه قسم منها نحو نادي الشقيف، أو نحو مركز كامل يوسف جابر الثقافي، الناشط بشكل لافت هو الآخر، وفي بعض الأحيان باتجاه جمعيات وهيئات ثقافية أخرى، تتحرك بين الحين والآخر في المدينة؛ وهي كثيرة. لكن اللافت، ابتعاد جيل الشباب عن معظم هذه الأندية، بسبب الإحباط السياسي والاجتماعي وتكوينهم مجموعات تنصرف نحو بعض الجمعيات المهتمة بالرياضة أو بالإسعاف الصحي والدفاع المدني التطوعي. بعضهم الآخر يتلهّى بمقاهي الإنترنت أو مقاهي «النراجيل» أو «كزدورة العصر» المشهورة في الشارع الرئيسي للنبطية، شارع حسن كامل الصباح؛ هذا الأمر تعتبر بعض المراجع، أنه بات يدق ناقوس الخطر بشأن المصير الثقافي لأندية النبطية، خلال عشر سنوات أو عشرين، مقبلة، إن لم تلتحق بركبه أجيال الشباب التي تؤمن له الديمومة والاستمرار. وقد لاقت الحركة الكشفية التي كان ينخرط في صفوفها معظم شباب المدينة وشاباتها، هذا التقهقر، ثم انقراض معظمها.

ساهمت سنوات الاحتلال وما تلاها من قمع سياسي، في تعوّد أبناء المدينة ورجالها على الحياة البيتية. ربما يلجأ بعضهم في أوقات ما من ساعات النهار إلى بعض مقاهيها، وهي لا تتجاوز العشرة، للعب الورق وشرب الشاي وتدخين النراجيل. لكن، ما إن تميل الشمس نحو المغيب، حتى يبدأ هؤلاء بالتسرب إلى منازلهم، ومعهم تقفل السوق التجارية أبوابها، وخصوصاً أن معظم مالكي المحال والمؤسسات فيها، هم من خارج المدينة، بعدما باعها أصحابها، أيام النزوح بسبب العدوان. ومنذ وقت طويل، لم تعد تعرف المدينة السهر الجماعي أو الزيارات العائلية الليلية. وفي المقابل تكاد تغيب عن المدينة أماكن اللهو والترفيه والأندية العائلية، تماماً مثلما غابت السينما، التي ارتبط تاريخ المدينة الثقافي والفني والاجتماعي بقيامها.

شهدت مدينة النبطية في النصف الأول من الأربعينيات تقلباً في ملكية دور السينما، واختلافاً من حيث اتساعها وانتشار صيتها، لم يستقر قبل عام 1960، لتبدأ بعدها الحقبة الذهبية التي استمرت حتى بداية الحرب اللبنانية، وتعرض المدينة للقصف الإسرائيلي، ثم بدأت تتراجع مع نمو التلفزيون وتسلل «الفيديو» إلى البيوت شيئاً فشيئاً.

كانت السينما تستقدم موسمياً إلى النبطية، قبل الأربعينيات، والثلاثينات، مع فرق التمثيل وجوقات العتابا والميجانا، وتعرض في الهواء الطلق، إلى أن جاء عام 1943، حيث أنشئت السينما الأولى في النبطية باسم «روكسي»، وقدمت على منصتها مسرحيتي «الحجاج بن يوسف» و«أيام سفر برلك»، من تمثيل عبد الله كحيل مع عدد من أولاده وأبناء المدينة. وبعد عام توقفت «روكسي» لتقوم مكانها سينما «أمبير» (1944)، أقفلت سنة 1952. عام 1957 بادر علي حسين صباح مع شركاء، إلى إنشاء دار سينما «كابيتول»، ثم قامت في العام ذاته سينما «أبو أمين» نسبة إلى كنية صاحبها، لم تعمل سوى أشهر قليلة، ومشاهدة شاشتها قعوداً على الحصائر البورية. وسنة 1960 دشّن عادل صباح ويوسف خضرا سينما «ريفولي» التي عرفت المجد البالغ الأثر للسينما في النبطية، توقفت مطلع الثمانينيات. وظهرت بعدها سينما «ستارز» ولم يطل أمرها.

حياة النبطية ونبضها، يدوران اليوم في وسطها التجاري، وبعض أحيائها، وهي تحولت في السنوات العشرين الأخيرة، إلى مساحات عمودية وأفقية من الإسمنت، إلى أبنية تحتوي على مراكز إدارية وشقق لعيادات الأطباء ومكاتب المحامين والمهندسين (54 طبيب أسنان و157 طبيباً واختصاصياً في الصحة العامة و57 صيدلانياً و1087 مهندساً في مختلف المجالات بينهم 787 يزاولون المهنة بين النبطية وقضائها وفي العاصمة بيروت، و65 محامياً) وفي النبطية 2000 محل تجاري ومؤسسة، وسبعة آلاف وحدة سكنية و15 مصرفاً. وبسبب ضيق مساحتها الجغرافية التي لا تتعدى السبعة آلاف دونم، بلغ سعر متر الأرض الباقية، الخالية من البناء، ألف دولار ، وتجاوز استمثار المحل المتوسط المئتي ألف دولار.

عرفت النبطية كثرة من سائقي سيارات الأجرة (التكسي)، وممن احترفوا هذه المهنة منذ مطلع القرن الماضي، من أيام سيارة «فورد أبودعسة». وبسبب الهجرة إلى دول أفريقيا وغيرها تقلص عددهم، وتحول أكثرهم إلى أثرياء بسبب نمو مصالحهم وتجارتهم حيثما حلوا في عالم الاغتراب. ولذلك يعتبر المردود الاغترابي العامل الأساس والأول في معيشة معظم أبناء المدينة.

للنبطية يومها المميز كذلك، هو يوم الاثنين حيث تنعقد السوق «سوق الاثنين»، التي تعود إلى العهد المملوكي، وذاع صيتها نحو فلسطين والجولان ومختلف المناطق اللبنانية، ليجدّ التجار العزم نحوها قبل يومين من انعقادها، ببضائع مختلفة من حرف وزراعة محليتين، قادمة من صفد وساحل عكا وسهل الحولة بفلسطين والجولان وحوران في سوريا وبلاد وادي التيم والبقاع، ومن صيدا وبيروت؛ محملة على ظهر الدواب والحمير. وظل عزّها في تنام مستمر، إلى عشية السبعينيات من القرن الماضي، عندما بدأت المدينة تتعرض للقصف، ما ساهم في تهجير أهلها، لتتأثر السوق وتتراجع همتها، وتتوقف في أحيان كثيرة وتعود مرات. وعندما بدأت النبطية تستعيد بعض حياتها، كانت العادات والمهن قد تبدلت وتغيرت، فتغيرت أحوال السوق.

إلى ذلك، تغيب عن النبطية مجمل أسواقها المتفرعة والدائمة؛ بعدما غرقت سوق الغلة وأبنيتها القديمة في سبات دائم، واستبدلت بـ«كيوزات» متواضعة، وتراجعت سوق الماشية في العشر الأخيرة وربما توقفت نهائياً؛ وصارت أسواق الحدادين والنحاسين والسكافين من الذاكرة والذكريات؛ وحدها سوق “اللحم” تعيش مخاضاً عسيراً بعدما تبددت دكاكينها وتحولت نحو وجهات مختلفة. لكن، من تعود على السوق، فلا بد له من زيارته وعرض البضائع أو استبدالها بمشتريات أخرى، لها سعرها الأدنى في السوق.

ضاق الحي الأقدم في النبطية، «حي السراي» بناسه فراحوا ينتشرون نحو الأحياء الأخرى بأبنية حديثة زينت نماذجها بعض جنبات حي السراي. ولغياب بناة البيوت الجميلة في ظل الأوضاع الأمنية الصعبة التي كانت تخيم على النبطية، بدأت معالم البيوت التراثية الرائعة تنهار شيئاً فشيئاً، في مقابل غياب العناية المحلية والرسمية، التي ساهم إهمالها هي الأخرى في دمار هذه البيوت وتلاشيها، ما أفقد المدينة الكثير من ذاكرتها وجمالها ولتحل الأبنية الإسمنتية العالية على أنقاض البيوت التراثية الضخمة التي لم يبق منها إلا النزر القليل. ها أن «الحداثة» تجتاح حي السراي بعدما هجره معظم أبنائه وأحفادهم، وصارت بعض بيوته وأطلالها مسكناً للعمال السوريين، أو مرتعاً للدمار والنفايات. وبدأت تجتاحه الطرق الواسعة لتساهم في دماره دماراً.

--------------------------------------------------------------------------------

مراسم عاشوراء... شهرة عالمية

في النبطية، التي قام فيها أول ناد حسيني في العالم، ثمة نبض ديني تتجاوز شهرته المحلية، إلى العالمية، يتمثل بمراسم «عاشوراء» التي تقام مطلع شهر «محرّم» وتنتهي بعد ثلاثة أيام من أيامه العشرة.

تنطلق في وسط المدينة ليلاً، على مدى عشرة أيام متتالية، مسيرات تندب وتلطم الصدور حزناً على الإمام الحسين بن علي (بن أبي طالب) حفيد الرسول محمد، وآل بيته الذين «استشهدوا» في كربلاء. وفي اليوم التاسع تنطلق مسيرة ضخمة من النبطية نحو النبطية الفوقا وهي تمثل انتقال الإمام الحسين وعائلته وصحبه من المدينة المنورة إلى كربلاء. أما اليوم العاشر، فهو أكثرها حزناً وحدّة وشعائر يشارك فيها عشرات الألوف من المواطنين، الذين لا يقتصرون على المدينة وجوارها، بل يتقاطرون إليها منذ الصباح من مختلف المناطق اللبنانية والعاصمة بيروت لمشاهدة المسرحية التي تشخص موقعة كربلاء. وتنتهي بحز الرؤوس وضربها بالأمواس والخناجر والقامات، فتسيل الدماء وتغطي الأكفان البيضاء.

تعليقات: