موسم الرشى الانتخابية: «قرّب ع الطيّب!»

بيوت الفقراء معرضاً لصور المرشّحين الأثرياء
بيوت الفقراء معرضاً لصور المرشّحين الأثرياء


مرة كل 4 سنوات، يرتفع «منسوب الإنسانية» لدى المرشحين للانتخابات. إنه موسم «دعم» الجيوب الفارغة. موسم الغيرة على الشؤون الحياتية والمعيشية للناس، التي قد تصل لدى بعض المرشحين إلى حدود شراء المواطن علناً، وعلى «عينك يا قانون»

فجأةً، تحلّ «النعم» على الجميع. مصاري. مصاري. مصاري. مساعدات. خدمات. من كل الأشكال والأنواع. هكذا، تكرج دفعة واحدة، كما تدلف السماء ماءها في جوّ عاصف. في مثل هذه الأيام، التي اعتدنا مرورها كل أربع سنوات، بالتزامن مع بدء الموسم الانتخابي، ستأتينا هذه النعم وسنحار كيف نتلقّاها ومن أين. وسيحار المرشحون لهذه الانتخابات كيف يوزعون خدماتهم بعد مواسم الشحّ، على من يفترض أنهم ناخبوهم. وبما أنه موسم، يدسّ من اعتاد هذه الطريقة في اختيار الناس له، يده في جيبه، ويخرجها بما «تيسّر» من أموال، ليدسّها بدوره في جيوب البائسين والفقراء، تلك الجيوب التي أفرغها بعض المرشحين الذين كانوا قد انتُخبوا في «موسم» سابق، مغدقين خدماتهم كي ينالوا الرضى، ولو من جيب الدولة.

هكذا، مثلاً يجد أبناء منطقة الرمل العالي في الضاحية الجنوبية لمدينة بيروت أنفسهم اليوم من البورجوازيين.. المؤقتين. فهؤلاء الذين لا تزورهم الدولة إلا لقمع مخالفة، يحظون منذ الإعلان الرسمي عن بدء الانتخابات بكل شيء: كراتين إعاشة فيها ما يحتاجون إليه: أرزّ وعدس وزيت زيتون وحتى زيت نباتي وبطاقات ضمان صحي تفوق قيمة الواحدة منها ألف دولار أميركي، إضافةً إلى دولارات أخرى، يدفعها مندوبو المرشحين مباشرة، أحياناً على «الراس» وأحياناً للمفتاح الانتخابي الذي يمثل «مجموعة» رؤوس. وكل ذلك لأنه «بدنا صوتك». هذا ما يقوله حيدر ناصر، وهو الشاب الذي وصلت تسعيرة صوته إلى حدود مئة وخمسين دولاراً. وهي تسعيرة، قد تجعل من إنفاق المرشح الذي يعرضها، يفيض عما نص عليه البند الثاني المتعلق بقيمة الإنفاق المتحرك من المادة 57 من قانون الانتخاب، هذا لو كانت شرعية. طبعاً هي مخالفة لكونها رشوة، ولا يمكن وضعها بالطبع تحت بند القسم المتحرك المرتبط بعدد الناخبين في الدائرة الانتخابية، أي نفقة انتقال أو نقل الناخبين إلى مراكز الاقتراع، التي يحددها المرسوم رقم 1655 الصادر في الأول من الشهر الماضي، الذي أرسى هذه القيمة عند حدود 4 آلاف ليرة لبنانية يدفعها المرشح لكل ناخب مسجل.

المضحك هنا، أن ما يدفعه المرشّح هو رشوة. هذا ما تشير إليه «التسعيرة» العالية، لا ما يتبناه القانون. فلو عدنا إلى القانون الانتخابي، لما وجدنا في بنوده المئة والسبعة والسبعين تعريفاً للرشوة. وإن وُجد هذا التعريف، فقد ورد عابراً في قانون آخر، هو قانون العقوبات الذي نص في مادته 351 على أن الرشوة هي التماس أو قبول هدية أو وعد أو أي منفعة أخرى (ماذا عن نقل الناخبين على حساب المرشح؟). لكن، حتى مع هذا التعريف، لا يمكن إثبات الرشوة إلا بإحدى طريقتين: إمّا شكوى يرفعها المرتشي إلى النيابة العامة أو إلى هيئة الإشراف على الانتخابات التابعة لوزارة الداخلية، وإما من خلال تثبّت الهيئة من قيام عناصر الرشوة حسب ما قال لـ«الأخبار» وزير الداخلية والبلديات زياد بارود. وفي الحالين، يحتاج إثبات الرشوة إلى إيصال يعطيه الراشي للمرتشي. ومن دون ذلك، «لا مجال للحكم على هذا المبلغ بأنّه رشوة، حتّى لو رأينا ذلك بأمّ أعيننا»، كما تشير ريتا باروتا، العضو في الجمعية اللبنانية من أجل ديموقراطية الانتخابات. هي معضلة إذاً، وما يزيدها تعقيداً، بحسب الوزير أن «الرشوة لا تكتمل إلا بموافقة المرتشي. وهي موافقة يصعب الحصول عليها، وخصوصاً أن المرتشي غالباً ما يتكتم على المنفعة. وهي أيضاً مشكلة ثقافية، إذ يرى البعض أن الانتخابات مناسبة للحصول على منافع».

لا مجال للإثبات. فقراء في حاجةٍ ماسّة إلى ما تدرّه جيب المرشح عليهم. حتى باتت الثقافة السائدة هي ثقافة الإفساد الشعبي، التي يعززها غياب خدمات الدولة وقيام مؤسسات الأحزاب والمتمكّنين الرديفة من سدّ الثغرة، إضافة إلى غياب الرادع القانوني.

ولئن كانت الصعوبة في إثبات فعل الرشوة هي الثغرة الأبرز في القانون الانتخابي، فإنها أثّرت تأثيراً فاضحاً في باقي بنود القانون، ولا سيما الفصل المتعلق بتنظيم التمويل والإنفاق الانتخابي (المواد 54 حتى 62). ففي ظل هذا الغياب، استطاع المرشحون النفاد من إثبات تهم الرشوة التي قد توجه إليهم، إضافة إلى أساليب التحايل على القانون. مثال ذلك ما ورد في تقرير الجمعية اللبنانية من أجل ديموقراطية الانتخابات عن مخالفات المرشح عن المقعد الشيعي في دائرة مرجعيون وحاصبيا أحمد الأسعد. فهذا الأخير يقوم اليوم بتوزيع اثنين وعشرين ألف بطاقة صحية على الراغبين، قيمة الواحدة منها ألف دولار، ما يساوي اثنين وعشرين مليون دولار، وهو ما يتخطّى إجمالي القيمة المسموح له بصرفها في إطار الحملة في دائرته، أي في الفترة الواقعة بين إقفال باب الترشيح واليوم الانتخابي في السابع من حزيران. ودائرة الأسعد تضم، بحسب الإحصاءات التي قام بها الخبير في الشؤون الانتخابية كمال فغالي، 134242 ناخباً، فلو أراد مراعاة أعداد الناخبين والسقفين الثابت والمتحرك للإنفاق كما ينص عليهما القانون، لكان قد اقتصر في إنفاقه على 460 ألف دولار أميركي. وبحسب القانون، تتضمن هذه الـ460 ألف دولار، نفقات استئجار المكاتب الانتخابية وإقامة التجمعات والمهرجانات والاجتماعات والمآدب ذات الغاية الانتخابية، ومصاريف نقل الناخبين ونفقات الدعاية وأجور العاملين في الحملة الانتخابية والمندوبين.

لكن، بما أن الأسعد، كغيره من المرشحين لم يحرر أي إيصالات للمستفيدين من «مساعداته»، فلا يمكن «بأي حال من الأحوال وصف ما يفعله بالرشوة، هي إذا كتّرت مساعدة أو سدّ ديون»، كما يقول «المحور»، وهو لقب مسؤول منطقة ماكينة انتخابية، في فريق الأسعد الانتخابي في بيروت. يتقاضى «المحور» ثمانمئة دولار شهرياً. أما من يعملون لديه وهم نحو خمسين مندوباً، فيتقاضى كل واحد منهم مئتين وخمسين دولاراً. ولو عرفنا مثلاً أن الأسعد لديه ثمانية عشر محوراً في بيروت وحدها، ولدى كل محور ما لا يقل عن خمسين مندوباً، فكم ستبلغ تكلفة الإنفاق على هؤلاء العاملين؟ وما يزيد الطين بلة أن القانون لم يحدد عدد العاملين بحجة أنه يختلف بحسب عدد الناخبين. كل هذه ليست رشى. ولا يمكن اعتبارها قانوناً رشى نظراً لعدم وجود إيصالات، ما يعني أنه لا إدانات. وعلى هذا، فالتزفيت الذي اختنقت به المناطق أيضاً ليس رشوة. وجمع بطاقات الهوية من الناخبين للتثبت من أنهم لن ينتخبوا للخصم ليس رشوة. والحرامات والأحذية التي يوزعها تيار المستقبل في تعمير عين الحلوة ليست رشوة. وفواتير الاستشفاء التي تدفع في مستشفيات صيدا ليست رشوة. وشراء الأصوات المباشر، أي بدفع بدل مالي، والذي يعدّ أبرز مكونات الرشوة «بالمنطق»، كما يشير العضو في جمعية «لا فساد» فيصل القاق، ليس رشوة، وقد وصلت في بعض المناطق إلى حدود الألف دولار في زحلة والمتن وكسروان، والمعركة لم تبدأ بعد. وصوت حبيب حيدر المقيم في تحويطة الغدير، لكنه ينتخب في المتن حيث «أم المعارك»، وصل إلى مئتي دولار من دون التمكّن من تسميته رشوة أيضاً. حبيب، الشاب الذي لم يحظ يوماً بزيارة «ابن دولة»، ينعم منذ شهر بزيارات مفاجئة لمرشحين في دائرة المتن التي ينتخب فيها. زار حبيب في الفترة الأخيرة وفدان، وقد «عرض على عائلتي التي تبلغ ستين شخصاً أن يشتروا الصوت بمئة وخمسين دولاراً». غير أن حبيب اشترط «على الراغبين بأصواتنا الطلب من وزارة الداخلية إعطاءنا نمرة سيارة من ثلاثة أرقام أو نمرة عمومي للفان!!». حبيب واحد ممن يملكون أصواتاً للبيع، فمحمد من منطقة زحلة باع صوته مقابل «العمل مندوباً خلال فترة الانتخابات بثلاثمئة ألف ليرة بالشهر». وفي صريفا، أودع قاسم خمس بطاقات هوية لدى أحد المرشّحين مقابل سبعمئة وخمسين دولاراً. أما علي، «المفتاح الانتخابي» في بلدةٍ بقاعيّة «مسكّرة» بمناصري حزب الله وحركة أمل، فقد تلقّى عرضاً بخمسين ألف دولار «مقابل ثني بعض الأشخاص عن التصويت» لهؤلاء. علي، اليوم يعطي «على الراس مئة دولار مقابل البطاقة». وقس على ذلك. هذا ما يحصل في بعض المناطق، علماً بأنّ المعركة لم تبدأ بعد. لكن، ماذا عن المغتربين؟ ففي موازاة المعركة الانتخابية في أرض الوطن، بدأت معركة أخرى في الخارج، إذ يتبارى المرشّحون على اجتذاب الناخبين المغتربين. لكن، قبل أن يبادر المرشحون إلى الدفع، عمدوا إلى إرسال استمارات إلى الناخبين «الدسمين». وتتضمن الاستمارة تفاصيل مملّة عن الوضع العائلي للناخب، إضافة إلى معلومات تتعلق بتاريخ انتهاء صلاحية جواز السفر، وما إذا كان يملك معلومات عن معارف لبنانيين أو ينصح بالتواصل معهم. محمد عيتاني، المغترب في فرنسا، والناخب في بيروت، تلقى اتصالاً «يعرضون فيه عليّ «تيكيت» الطائرة ومئتين وخمسين دولاراً وإقامة في الفندق لثلاثة أيام وربما سيارة»... وقس على ذلك، كم ستبلغ تكلفة جلب طائرةٍ واحدة من بلدان الاغتراب؟ علماً بأنّ لحكاية الانتخابات في الخارج قصّة أخرى، فالطلاب المقيمون هناك بدأوا حملاتهم الخاصّة منذ شهرٍ تقريباً. كل هذه ليست رشى. هي مساعدات. ويحدّثونك عن مراقبة الانتخابات. من راقب الانتخابات مات هماً.

■ دور هيئات الإشراف على الانتخابات

ما هو الدور الذي تقوم به هيئة الإشراف على الانتخابات؟ ودور الهيئات المدنية المستقلة التي نشأت لمراقبة سير العملية الانتخابية؟ يشير بارود إلى «أن هيئة الإشراف تقوم برصد نفقات المرشحين ومراقبة حسابات الحملة الانتخابية، وهي آلية تمكّن من ضبط الرشى الواسعة النطاق، لكنها غير كافية لضبط شراء الأصوات بصورة متفرقة». والحل؟ «تعديل التشريع لجهة تمديد الفترة الانتخابية حتى 6 أشهر، ورفع السرية المصرفية عن كل حسابات المرشح وليس فقط عن حساب الحملة الانتخابية، وتطوير بعض التشريعات المرتبطة بالفساد». أما الهيئات المستقلة، فلا تستطيع مراقبة الحساب المصرفي للمرشح، وجلّ ما تقوم به هو رصد المخالفات «للفت نظر المخالفين». وإن استطاعت الحصول على إثبات، فتكون بمثابة مستند بيد المرشح الخاسر للطعن بالمخالف أمام المجلس الدستوري. لكن، أين هو هذا المجلس اليوم.. «الله أعلم»، هذا أقصى ما قد يقوله رئيس الجمعية اللبنانية من أجل ديموقراطية الانتخابات زياد عبد الصمد.. وغيره.

■ تكاليف الحملات الانتخابيّة

أجرى الخبير في الشؤون الانتخابيّة كمال فغالي إحصاءً عن «سقوف تكاليف الحملات الانتخابيّة في الدوائر». وبحسب هذا الإحصاء، تبلغ التكاليف التي يمكن أن تصرفها اللوائح الانتخابية في 26 دائرة انتخابيّة 63 مليوناً و880 ألف دولار أميركي.

تعليقات: