غفران ياغي ترسم بالعباءات الشرقية حنيناً بعلبكياً

عباءة تحمل بقايا من زينة الماضي
عباءة تحمل بقايا من زينة الماضي


يظل المكان الذي يعيش فيه الانسان طفولته، وتلامس فيه الشمس وجهه، المؤثر الاول في ميوله وافكاره وفي موهبته وتطلعاته. فكيف اذا كان هذا المكان بعلبك، مدينة الشمس، التي تعانق اعمدتها الوان الفجر، وتغفو في احضان السهل الفسيح، فتروي للطيور المهاجرة قصص الحب والرحيل؟

السيدة غفران ياغي مبدعة من مدينة بعلبك، كحلت عينيها بشمسها، وسرحت شعرها عند ضفاف نهر رأس العين في ظل الحور والشربين، باتت اليوم مصممة للعباءات الشرقية وللحرف اليدوية التراثية التي تتضمن روايات عن ماض قديم ابيض بتنا نحنّ للعودة اليه، ربما لأن مكان الطفولة علّم غفران عشق الجمال والابداع.

بطاقة تعريف

تقول غفران ياغي في بطاقة تعريف نشرتها على موقعها الالكتروني "انا لبنانية، من مدينة بعلبك، مدينة الشمس، مدينة صيفها جميل ومثمر، وخريفها الأوراق الذهبية المتساقطة، شتاؤها الأمطار والثلوج الناصعة، وربيعها مهرجان من الورود المتنوّعة العابقة بالعبير".

غفران عاشت في بيت جدها لأمها المميز بموقعه على ضفة نهر رأس العين في بعلبك، بين ورد الجوري والقرنفل وفم السمكة والمنثور. كانت تلاحق زيز القصب والفراشات الملونة. ربما لانها كانت من دون ان تدري مسحورة بعالم اللون والجمال.

وفي بيت أهلها، تتشابه الصورة وتتكرر معاني الجمال، فزهر الأضاليا والزنبق، ومسكبة البنفسج تحت نافذة غرفتها، و"الـﭭرندا"، والياسمينة والعنبرة كلها تستقبلك حين تدخل الى باحة الدار.

وغفران التي سافرت مع قوس القزح، وحاولت أن تطول خيوط الشمس لتحوك بأحلامها شالاً لأمها، شاء قدرها ان تنتقل مع زوجها الى السعودية حيث مكان عمله، وهناك بدأت تتجه نحو تصميم وحياكة العباءات الشرقية تقول: "رافقت زوجي إلى السعوديه حيث مكان عمله، وهناك قررت الاستفادة من الوقت، ولفتتني صورة عباءة للمصمم لو بوان دي كروا في مجلة "الحوادث" عام 1988 مرسومة بالالوان، فقررت تصميمها من جديد ولكن بخيوط الحرير الملونة، ومنها انطلقت نحو عالم التصميم، فنقلت من مخيلتي بعض الورود المخزونة منذ الطفولة، لأقوم بزرعها على العباءات والجاكيتات. وضعت "الكُنڤا" على قماش "الهيلد" و"الدُبل كرﭖ" واشتغلت بالإبره "قطبة دي كروا" بخيوط الحرير. زارت معارض للعباءات وشاهدت الواجهات في الأسواق، مما زادها معرفه بالخطوط الشرقية الأصيلة وهي تذكر انها تحفظ في هذا المجال جميل امها الثانية "الشيخة السعودية أم عبد الرحمن" - رحمها الله - التي كانت تطري ذوقها لتصاميمها.

وللبيئة والمكان والمحيط تأثيرات في شخصية غفران الفنية، فهي التي رسمت في طفولتها ظلال الورود الصغيرة على التراب بأقلامها الخشبية، عادت اليوم تنشر الورد على عباءاتها المطرزة. وتؤكد انها تشبعّت من عطاءات الطبيعة البعلبكية والبقاعية، وتمعّنت بحجارة القلعة ونقوش معابدها، وخلال مهرجانات بعلبك الدولية كانت تزيد من موهبتها في هذا المجال من خلال مشاهدتها اللوحات الفولكلورية والثياب والعباءات الملونة المشغولة، وسماع أجمل الأغاني وأرقى المعزوفات الموسيقية.

والدتها كان لها تأثير على بناء شخصيتها، تأثرت برقتها، وحنانها وأناقتها وتفانيها إلى أقصى الحدود أمام أسرتها. كانت والدتها تحوك لها ولإخواتها كنزات الصوف وتخصها بقبعات "الكروشيه".

حنين بعلبكي

غفران ترسم بالعباءات حنيناً بعلبكياً، فالمفاتيح الحديدية الكبيرة التي كانت تفتح ابواب الدور والبيوت العتيقة، والتي زالت هذه الايام، عادت حاضرة في عباءات غفران، لانها ترى في هذا المفتاح رمز الأمان والسكينة، وتتساءل غفران: "ماذا لو انقطعت الكهرباء؟ كيف نفتح الابواب التي تفتح اليوم بالبطاقات الممغنطة؟ اليس المفتاح القديم اكثر اماناً وجمالية؟".

عباءات غفران تختزن الماضي الابيض بكل معانيه، فقد زرعت في معظمها القروش اللبنانية المثقوبة التي تحمل شعار "دولة لبنان الكبير" والزخارف العتيقة التي كانت تزين سقوف المنازل القديمة وجدرانها التي باتت في طريقها الى الزوال.

توجه غفران نحو تصميم وحياكة العباءات مستمد من طفولتها التي امضتها في صحن الدار في سهرات الصيف والشتاء، قرب جدها الذي كانت العباءة رفيقته الدائمة، ومن رؤيتها لعدد من مشايخ ورجال بعلبك الذين كانوا يرتدون العباءات لما لها من رمزية الوجاهة والبطولة والوقار.

العباءة دخلت الحياة اليومية والتقاليد الاجتماعية في المناطق الريفية، فكانت ترمز الى توريث الزعامة خلال وفاة احد البكوات او الزعماء، حين يعمد ابناء العشيرة او العائلة الى الباس عباءة المتوفي الى احد ابنائه او اقاربه، كما كانت العباءات على قبر احد قتلى العشيرة كتقليد من ابناء عشيرته يعلنون من خلاله استعدادهم للآخذ بالثأر والانتقام لمقتله.

العباءة التي باتت رمزاً شرقياً، تعود اليوم للظهور من جديد كتراث جميل وزي بلدي وشعبي ووطني. لذا فان غفران ياغي جعلت من هذه العباءة كتاباً يتضمن صوراً محببة من الماضي وتقاليد جميلة وايحاءات شاعرية ورومانسية، انها ترسم من خلال العباءة. فهي جعلت منها ومن التحف اليدوية لوحة جميلة حملت المعاني الوطنية، فكانت احداها ترمز الى بطولات الجيش اللبناني في معارك نهر البارد، واخرى لرد الحسد "وصيبة العين" والطنطور اللبناني الذي اعتمرته اميرات لبنان في العهد القديم، وعباءات ومطرزات اخرى تضمنت معاناة ومواضيع يومية واجتماعية كشبح العباءة التي رمزت من خلاله الى زوال العباءة في فترة من الفترات.

تتابع غفران ياغي دراستها فن التصميم، ومنذ مدة اقامت في القاعة الزجاجية لوزراة السياحة، معرضاً للعباءات النسائية والمطرزات برعاية رئيسة "الجمعية الوطنية للحفاظ على آثار وتراث الجنوب اللبناني" السيدة رندة بري، وهي تسعى لاقامة عدة معارض مماثلة في لبنان والعالم العربي. وتؤكد غفران ان هدفها هو "تجديد العباءة بتصاميم بسيطة وطبيعية، وتعزيز الحرفة اليدوية "الأرتيزانا" بالعمل المنفرد المميّز، وإنجازها بإتقان". وتختم قائلة: "قدمت مجموعتي يا سيدتي من دون بصمة لكي تضعي انتِ بصمتكِ الخاصه بك".

***

في عباءات غفران ياغي رحلات نحو ماض جميل، كانت فيه الالفة تسود ربوع قرانا وجبالنا، رحلات نحو تراث نسعى للحفاظ عليه في هذا الزمن الذي بتنا فيه نفقد هويتنا الحقيقية، لأنهم يسرقون تاريخنا من ارضنا.

--------------------------------------------------------------

نبذة عن حياة الفنان يحي ياغي، زوج غفران ياغي:

ولد يحي ياغي في مدينة بيروت في العام 1943 حيث كان يعمل والده في الشرطة، وهو رابع أفراد الأسرة المؤلفة من سبعة أبناء .

عاد مع أفراد أسرته إلى مدينة بعلبك , وهو طفل صغير , بعد انتهاء خدمة والده من الوظيفة , واستقر فيها نهائيا .

تلقى علومه الابتدائية والمتوسطة في مدارس مدينة الشمس بعلبك . استهواه الرسم منذ صغره , فأقام محترفا صغيرا في منزله , حيث كان يقضي معظم أوقاته في إشباع هوايته الفنية .

كان طموحه الفني كبيرا , مما دفع به للإبحار في العالم الفني للرسم , فتعرف إلى الفنان الكبير رفيق شرف وأقام صداقة مميزة معه .

دخل يحي ياغي معهد CUVDER للفنون في بيروت وقضى فيه عامين كاملين 1963 و1964 نال على أثرهما شهادة في الفنون بمعادلة إجازة .

أقام أول معرض فني له في مدينة بيروت 1964 , وأول معرض في مدينة بعلبك 1964 أيضا , وتوالت معارضه فيما بعد ... حتى بلغت سبعة عشر معرضا ما بين بيروت وبعلبك والقاهرة وألمانيا الغربية والنمسا التي كرمته بميدالية .

هذا , وقد تحدثت عنه الصحافة كثيرا وأبرزت أعماله الفنية , وأشادت بأعماله الخالدة وأثنت على فنه المميز الرائع .

تزوج من السيدة غفران ياغي في نهاية 1969 وله منها ولدان : زاهر وجوليانا .

علم الرسم والفنون في جميع مدارس بعلبك من خاصة ورسمية , وكذلك مارس التربية الفنية في مدارس بيروت , وخاصة الثانوية الأهلية في برج البراجنة في أواخر الستينات .

أعد دراسة فنية تعتبر فريدة من نوعها , لتعليم الأطفال الحروف والأرقام عن طريق الرسم . وكان على اتصال بمركز البحوث والتوجيه لتبني هذه الطريقة .

أقام آخر معرض له في بعلبك خلال تموز 1981 ومع نهاية المعرض بدأ المرض يتسلل إليه , ورغم الداء ظل مثابرا على عمله وقد أنجز عدة أعمال كان قد بدأ بها قبل المعرض .

داهمته المنية في 9 أيار 1982 بعد أن قضى فترة في مستشفى الجامعة الأميركية , مخلفا ثروة فنية متنوعة .

كان الفنان يحي ياغي وديعا لطيفا يحب كل الناس , على كثير من التواضع والطبيعية والبعد عن الكبرياء والتعالي والتكلف .

تعليقات: