إعمار الجنوب قضية تتجاوز التعويضات

إعمار الجنوب قضية تتجاوز التعويضات

التأخير في دفع المستحقّات تهمة يتقاذفها المعنيّون

وصل المبلغ الذي دفعه مجلس الجنوب حتى منتصف شهر نيسان (ابريل) الجاري إلى 202،374،430،300 ل.ل وهو يشمل 252 قرية، من بينها 22 قرية تقاضى أهلها الدفعة الأولى من مبالغ الهدم. هذا الرقم الذي يرتفع يومياً مع وصول «الشيكات» من الهيئة العليا للإغاثة إلى مجلس الجنوب لا يخفف من صرخة المواطنين التي حاولنا إيصالها على مدى خمس حلقات. وهي تتجاوز الشكوى من التأخير في دفع التعويضات لتطال الطريقة التي ستتم فيها إعادة الإعمار

صدّيقين، كفرشوبا، عيتا الشعب، بنت جبيل وحاروف، هذه القرى الخمس مثّلت النماذج التي اختارتها «الأخبار» لتعرض من خلالها آلية دفع التعويضات وإعادة الإعمار الجارية في الجنوب بعد ثمانية أشهر من انتهاء الحرب.

الشكوى موجودة في كلّ من هذه القرى الموزّعة على أربعة أقضية، التي تبنت دول مختلفة مسؤولية إعادة إعمارها. وهي تتفاوت بين تأخير في دفع التعويضات، بما فيها مبالغ الترميم من جهة، وغياب آليات ومعايير تحدّد طريقة إعادة الإعمار مع المحافظة على طابع المدينة أو القرية التراثي والأثري، من جهة ثانية.

واللافت في هذا الموضوع هو «كره» اللبنانيين للأرقام، إذ تتحفظ الغالبية عن ذكرها لأسباب مختلفة. أوساط «حزب الله» مثلاً ترفض الكشف عن حصيلة الكشوف التي أجرتها حرصاً ًعلى عدم إثارة الخلاف مع الجهتيتن الرسميتين: مجلس الجنوب والهيئة العليا للإغاثة. فيما يقدّم الطرفان الأخيران أرقاماً غير نهائية للأضرار التي تحتاج إلى إعادة كشف قبل تقدير قيمة التعويضات التي ستدفع.

وتقدّر الأرقام التقريبية لمجلس الجنوب حجم الأضرار وفق التالي: 8632 منزلا مهدّماً كلياً في 285 قرية تصل قيمة التعويضات فيها إلى نحو 895 ملياراً و616 مليوناً، مع استثناء القرى التي تبنت دولة قطر إعادة إعمارها وهي: بنت جبيل، عيتا الشعب، الخيام عيناتا وتصل كلفة إعادة إعمارها إلى نحو 400 مليار ليرة لبنانية.

يتحدّث الدكتور بلال نعيم، وهو أحد المسؤولين عن ملف إعادة الإعمار في «حزب الله» عن ست جهات تعمل اليوم على إزالة آثار العدوان هي «حزب الله»، مجلس الجنوب، الهيئة العليا للإغاثة، قطر، الإمارات وايران.

ويفصّل: «دفع حزب الله للمواطنين بدل ترميم وإيواء للمساعدة على تأمين منازل بديلة، ويتواصل مجلس الجنوب مع الهيئة العليا للإغاثة لدفع التعويضات في القرى التي لم تتكفّل بها دول. وتتولّى لجنة فنية مكلّفة من الدولة (شركة خطيب وعلمي) إعادة الكشف على الأضرار وهي تحدّد أمرين: حاجة المنزل إلى الهدم وعدد الوحدات السكنية في المنزل».

أما الجهة الرابعة فهي قطر «التي أنهت دفع مبالغ الترميم في القرى الأربع وبدأت دفع 25% من قيمة ما هو مقدّر لإعادة الإعمار. وأنجزت الإمارات بناء المدارس في الجنوب فيما التزمت ايران مسؤولية البنى التحتية وخصوصاً الطرقات التي تصل بعض القرى وعدداً من الجسور».

رغم ذلك لا يخلو هذا الملف من مشاكل يعدّ أبرزها النقاش الدائر حول طريقة احتساب الوحدات في مجموعة كبيرة من الأبنية الفخمة: «القصور والفيلات لا يمكن معاملتها كما البيوت العادية». لكنه لا يعتبر هذا النقاش سبباً كافياً للتأخير الذي «قد يكون متعمداً لأسباب سياسية»، موضحاً أن كل الاحتمالات التي يمكن وضعها سلبية «إما أن الدولة عاجزة وبالتالي علينا اللجوء إلى المجتمع المدني، وإما أنه ابتزاز سياسي بهدف خلق مشكلة اجتماعية في وجه المقاومة والاحتمال الثالث وهو الأسوأ: التعويل على ضربة عسكرية جديدة».

مجلس الجنوب

لا ينفي رئيس مجلس الجنوب قبلان قبلان وجود تأخير في دفع التعويضات إلى الأهالي، لكن المجلس ليس مسؤولاً عنه: «لم نتأخر في دفع كل ما وصلنا من أموال أولاً بأول» يقول.

مجلس الجنوب هو المؤسسة المعنية بدفع التعويضات منذ عام 1970، غير أن الحكومة اللبنانية ارتأت أن تكلف جهة أخرى التدقيق في الكشوف التي يجريها المجلس. هذا الأمر لا يزعج قبلان «لا مانع عندنا من التدقيق لأن هدفنا مساعدة الناس». لكنه يحمّل هذا العمل التدقيقي مسؤولية التأخير لأن المجلس «بدأ المسح الميداني بعد الحرب مباشرة وأنجز الجزء الأكبر من الملفات بعد شهرين ونصف شهر من انتهاء الحرب أرسلنا بعدها الكشوف إلى رئاسة مجلس الوزراء التي أرسلتها بدورها إلى شركة «خطيب وعلمي» التي تجري تدقــــــــيقاً وتعــــــــــــيد الكشف. وبعدما ينتــــــــهون من الملفات يرسلونها إلى الهيئة العليا للإغاثة التي تصدر الشيكات ونحن نسلمها مباشرة إلى المواطنين».

ويكشف قبلان أن قيمة الأضرار بلغت في تقويم أولي 1200 مليار ل .ل «قد يزيد هذا المبلغ أو ينقص بنسبة 5 أو 10 في المئة». موضحاً أًن ما دُفع حتى الآن يصل إلى نحو 200 ملياري ل . ل إضافة إلى 75 مليار ل.ل دفعتها قطر «أي إن المبلغ الإجمالي وصل إلى 275 مليار ل.ل يتوزّع على 257 قرية دفعت في 22 منها فقط تعويضات لأصحاب البيوت المهدّمة». أما أصحاب البيوت المتضررة فقد تقاضوا تعويضاتهم لكن ليس كاملة: «في النبطية مثلاً دفعنا من أصل 3200 شيك 700 شيك فقط».

ويوضح قبلان آلية الكشف: «يجري المجلس الكشف مرتين، ثم تجري «خطيب وعلمي» كشفها، وفي حال حصول خلاف نرسل لجنة مشتركة من «خطيب وعلمي» ومن المجلس» مؤكداً أن نسبة الخطأ في الكشوف «لا تتجاوز الـ5 في المئة بين المجلس والشركة». ويرفض الحديث عن تجاوزات «أتحدى أياً كان أن يأتي بخبر صحيح عن تجاوزات، كلّها شائعات..».

الهيئة العليا للإغاثة

أما الأمين العام للهيئة العليا للإغاثة اللواء يحيى رعد فيرفض الاعتراف بوجود تأخير في عمل الهيئة وفي دفع التعويضات «على العكس، العمل يسير بشكل سريع جداً». ويفرّق بين موضوعين: إعادة الإعمار والتعويضات للمواطنين.

في الموضوع الأول الذي يتعلّق بأمور الكهرباء والماء والهاتف والطرق والجسور وترميم المدارس يرى أن العمل يسير بشكل سريع وقد أنجز بنسبة كبيرة «85% من الجسور باستثناء ثلاثة جسور هي صوفر، الحازمية والمطار. الطرقات انتهى العمل بها، الكهرباء كل الشبكات أُصلحت. تبقى فقط مسألة معامل الإنتاج في الجيه التي استأجرت باخرة بنحو 20 ألف دولار يومياً. الهاتف انتهى باستثناء الشبكات الداخلية لبعض القرى المهدّمة». أما بالنسبة إلى تعويضات عوائل الشهداء «فقد تقدّم ألف شخص بطلباتهم وحصلوا على تعويضاتهم. وكل تأخير في هذا الملف سببه التأخر في تقديم المستندات المطلوبة في الملّفات».

يبقى موضوع المنازل المهدّمة والمتضرّرة، هنا يعيد التأخير إلى عدم استكمال أصحاب الحقوق لملّفاتهم «المسؤول المالي لا يمرّر أي معاملة غير مكتملة». كما يعيد الحديث عن التأخير إلى «الاتهامات السياسية، بينما أنا أتحدث تقنياً. المشكلة تكمن في استكمال الملفات لكي نتأكد من حق المواطنين في الحصول على تعويضات».

برأيه تكمن المشكلة في تقويم الوحدات السكنية «نريد أن نتأكد أن عدد الوحدات هو العدد الحقيقي لذلك يحتاج مقدّم الطلب إلى تواقيع متعدّدة» مفضلاً لو اعتمد دفع لتعويضات وفقاً للأمتار لا الوحدات «لكانت الأمور سارت بشكل أسرع».

ويرحب رعد بفكرة قيام الدول بتبني إعادة الإعمار في القرى التي تبنتها: «نحن نرحب بهذا الخيار إذا اتخذته الدول المانحة لأن له فوائد كثيرة أهمها انه خيار يعزّز الشفافية ويطمئن الواهب كما يريح الإدارة من متابعة الكشوف» رافضاً الحديث عن تقصير الدول التي كلّفت الهيئة مسؤولية دفع التعويضات لأن «كل الأموال التي دفعناها إلى اليوم من السعودية».

إعادة الإعمار

تعدّ مشكلة التأخير في دفع التعويضات واحدة من المشاكل التي تواجه أصحاب البيوت المهدّمة والمتضرّرة جرّاء العدوان الاسرائيلي الأخير. وهي مشكلة قابلة للحل عاجلاً أم آجلاً مع توافر المال اللازم. غير أن المشكلة غير الظاهرة تبرز في غياب الآليات الواجب اعتمادها من أجل إعادة الإعمار وخصوصاً بعدما «فتكت» الجرافات بعدد كبير من البيوت التي تعدّ أثرية وتراثية.

عن هذا الموضوع يجيب أستاذ مادة تصدّع الإنشاءات والترميم في الجامعة اللبنانية الدكتور يوسف حمزة، الذي أشرف على إعادة بناء جسر طيرفلسايه ــــ الزرارية.

يقول حمزة إن المشاكل التي تمنع إعادة الإعمار بالطريقة المناسبة متعدّدة أهمها الملكية، دور السلطات التي تسمح بكيفية إعادة الإعمار والتمويل. «من خلال دراستي لقرى كثيرة في جنوب لبنان تبين لي أن منزل العائلة الواحدة يملكه غالباً أكثر من شخص، ما يمنع التوصل إلى اتفاق بشأن كيفية إعادة بناء البيت القديم، هنا على البلديات أن تتدخل وتفرض حلولاً مثل اقتراح التوسع عمودياً لا أفقياً مع الحفاظ على الأقل على الواجهات التراثية القديمة أي إعادة الحجر إلى موقعه».

ويرى حمزة أن إعادة الإعمار تتطلب الأخذ بعين الاعتبار التطور الديموغرافي والاجتماعي للبلدة التي تعرضت للدمار وذلك من خلال دراسة خاصة تقوم بها البلديات لمواقع الدمار إضافة إلى تحديد المعالم التراثية للأبنية المهدّمة كلياً أو المصدّعة من جانب أكاديميين وهذا ما لم يحصل موضحاً «إن عدم التنسيق بين البلدية والتنظيم المدني والدولة والمواطن المالك الناتج من عدم فهم عملية الترميم العلمية يؤخر أحياناً عملية البناء، وإذا كان هناك من عملية ترميم فإنها تكون ناقصة ومشوّهة وغير محافظة على التراث».

ويشرح ما يحصل على الأرض اليوم «هناك حاجة ملّحة إلى السكن من جانب الذين دمرّت بيوتهم كلياً أو جزئياً، لذا بدأوا عشوائياً بإعادة البناء والترميم بعد أن أهملت السلطات المسؤولة كلّ ما ذكرناه من ملاحظات. نتجت من هذا الأمر عملية بناء عشوائية من دون أن يستطيع أحد الاعتراض لأن حق الملكية من الناحية القانونية يساعد على ذلك». ويقدّم حلاً لتسهيل عملية الترميم وذلك «بإعطاء أصحاب المباني المتضرّرة دراسات مجانية تحافظ على التراث وتكون معفاة من الضرائب».

تعليقات: