الأزمة المالية العالمية: إنخفاض الهجرة الذاهبة وازدياد العائدة

انفجار الفقاعة
انفجار الفقاعة


إنفجار الفقّاعة: يعيد التوازن بين الجنسين والعناية بالكبار في منازلهم

إن الازمة المالية العالمية التي بدأت في الولايات المتحدة وانتشرت في معظم أنحاء العالم وتحوّلت الى أزمة اقتصادية بانخفاض نسب النمو وارتفاع نسب البطالة، لم تؤثر بعد على لبنان بشكل ملحوظ لا مالياً ولا اقتصادياً· الا ان هذا لا يعني أنها لن تطال لبنان حتى لو طالت هي وتعمّقت، لأن لبنان بالنهاية مرتبط بالاقتصاد العالمي من حيث التجارة ومن نواحٍ اقتصادية واجتماعية أخرى تأتي الاعتبارات السكانية في صميمها·

فانخفاض الهجرة الذاهبة المحتمل وازدياد الهجرة العائدة المنتظر لا بد وان يؤثرا سلباً أقله على مستويات التحويلات المالية والاستثمارات الخارجية والصادرات مما يبطىء النمو الاقتصادي ويرفع بالتالي من مستويات البطالة· كما أن الازمة الاقتصادية العالمية التي ضربت بعض دول الخليج ولا بد ان تترك أثراً على باب رزق أساسي آخر الا وهو السياحة، خاصة إذا ما طالت هذه الازمة وتعمّقت·

ولكن الهجرة العائدة لها بعض المنافع، فهي تعيد التوازن بين الجنسين الذي أفقدته الهجرة الطويلة المكثّفة والتي ركّزت على الذكور أكثر منه على الاناث، كما أنها ستجمع شمل العائلات مجدداً ولو رغم إرادتها وتعيد بعضاً من العناية بالكبار في منازلهم بدلاً من العناية بهم في مؤسسات الرعاية·

ولكن هذه الايجابيات تبقى عابرة ويبقى الاساس وهو أن هناك سلبيات اقتصادية منتظرة يتأثر مداها قبل كل شيء بطول الازمة العالمية والعمق الذي قد تصل اليه· فكلما طالت كان الضرر أكبر أما إذا انحسرت سريعاً فسينفد لبنان بأقل الاضرار الممكنة·

إنفجار فقاعة

يصف رئيس خبراء اللجنة الوطنية الدائمة للسكان الدكتور رياض طبارة أن ما حصل بالنسبة الى الازمة المالية الحالية بانفجار الفقاعة · ويشرح أنه في النصف الاول من العقد الحالي خفّض البنك المركزي الاميركي أسعار الفائدة بهدف تحويل الاستثمارات الفردية نحو شراء المنازل بدلاً من الاسهم فارتفع مستوى الاستدانة بشكل كبير وشمل الملايين · ولتسهيل هذه الاستدانة، وفي غياب التشريعات المالية اللازمة وحضور الجشع في النظام المالي، ابتدع المدينون طريقة تجعل الفائدة منخفضة في السنتين الاوليتين لترتفع بعدها بشكل حاد سميّت فائدة القرض القابلة للتعديل·

ويردف طبارة <عندما جاء يوم الاستحقاق لم يستطع الكثيرون تسديداً أقساطهم وبدأت الاستملاكات من قبل المؤسسات المالية المدينة، فانهارت أسعار الاملاك المحجوزة فأفلست إحدى أكبر المؤسسات المالية وكاد أن يتبعها الكثير من المؤسسات المالية الكبرى لولا تدخّل الحكومة لمساندتها·وبسبب الترابط الوثيق بين المؤسسات المالية العالمية انتشرت الازمة بسرعة بين هذه الدول مما اضطر حكوماتها للتدخّل لحماية أنظمتها المالية· وبعد سنتين من إنفجار الفقاعة، ما تزال هذه الدول ترزح تحت وطأة التداعيات الاقتصادية لهذه الأزمة المالية المتمثّلة بشكل رئيسي بانخفاض نسب النمو الاقتصادي وازدياد مستويات البطالة·

الازمة ودول الخليج

ماذا عن دول الخليج؟ يجيب الدكتور طبارة أن دول الخليج تأثرت بهذه الازمة الى حد كبير ولو أن هذا التأثر بقي أقل من تأثر معظم الدول الاخرى أو من حدة الازمة في بلدان الغرب· وقد تأثرت بعض الدول - خاصة الكويت والبحرين والامارات العربية المتحدة -أكثر من غيرها وأفلست بعض البنوك وكادت أن تفلس أخرى لولا تدخّل الحكومات وضخ كميات هائلة من السيولة في الاسواق المالية وشراء أصول في الشركات وغيرها· فالامارات وحدها ضخّت في الاسواق المالية حتى منتصف عام 2009 ما يقارب 18 مليار دولار·

وما ساعد هذه الدول على تفادي الكارثة هو الارتفاع النسبي لسعر النفط خلال السنة الماضية·

وتابع الدكتور طبارة أن الخبراء يجمعون على أن إقتصادات دول الخليج ستتأثر سلباً أكثر مما تأثرت حتى الآن إذا ما طالت الازمة في الغرب وإذا ما عاد وانخفض سعر النفط بسبب ضعف الطلب الذي قد ينجم من تلك الازمة·

لبنان

ومع مرور حوالى سنتين على بدء الازمة المالية العالمية لم يتأثر النظام المصرفي اللبناني بتداعياتها بل بالعكس، فقد ازدادت ودائع المصارف وأرباحها· كما ازداد مستوى الاقراض في معظم البنوك اللبنانية بينما هو في انكماش تاريخي في البلدان الاخرى وقد رفعت بالفعل إحدى دور التقييم المالية العالمية تصنيف معظم البنوك اللبنانية الكبيرة· وهناك إجماع بين الاخصائيين بأن الناتج المحلي الخام سيرتفع عن مستواه ووصل الى حوالى 6% وسيكون هذا إذا ماتحقق - مع الاستقرار الامني - من أعلى نسب النمو في العالم بهذا العام·

ولكن هل هذا يعني أن لبنان لن يتأثر اقتصادياً بتداعيات هذه الازمة العالمية؟ يجيب الدكتور طبارة لا شك فيه ان لبنان سيتأثر عاجلاً أم آجلاً إذ أن الازمة لا بد وأن تخترق الاقتصاد اللبناني وتؤثر عليه سلباً· والاجراءات التي بدأتها الدولة لحماية الاقتصاد قد تخفّف من التداعيات السلبية ولكنّها لن تستطع تحييدها بشكل كامل·

الهجرة العائدة من دول الخليج

تحدّثت تقارير كثيرة عن حدوث موجات هجرة كبيرة وحتّى جماعية، من الدول العربية الخليجية· فما صحّة ما تنشره هذه التقارير؟ يقول عميد كلية الآداب والعلوم الانسانية في الجامعة اللبنانية الدكتور علي فاعور أن الهجرة العائدة من أهم مظاهر الازمة المالية العالمية ، فمع تضاؤل فرص العمل في الدول الغنية بدأت موجات الهجرة المعاكسة بالعودة، بل إن العديد من الدول اليوم، ومنها دول الخليج العربي وبخاصة الامارات، قد بدأت تتحدّث عن خروج المهاجرين منها· وقد تشهد الاشهر القادمة تدفّق أفواج العائدين من العمال العرب الى بلدانهم، وعددهم بالملايين، بل إن نهاية العام الدراسي الحالي قد تشهد في بلدان الخليج العربي عودة آلاف اللبنانيين بعد توقّف العديد من الشركات والمؤسسات والمصانع التي كانوا يعملون بها· كما أن التدهور المالي والاقتصادي الحاصل اليوم في العديد من دول الخليج، سوف ينعكس سلباً على مشاريع الخصخصة في لبنان، بحيث أن انتشار الازمة المالية وانعكاساتها على الاسواق المالية والاستثمارات، لن تكون مؤاتية لاجراء وتلزيم عدة مشاريع حيث سيخفّ الاقبال والمشاركة من قبل المستثمرين الخليجيين أو غيرهم·

وعن تقديرات الهجرة العائدة من الخليج، يقول الدكتور فاعور أن بعض الشركات قد خفّفت من العاملين لديها نتيجة الازمة المالية العالمية ويقدّر عددهم بين 15 و25 ألف لبناني بين موظف وعامل في قطاع البناء والمصارف والسياحة· كما تشير التقديرات الى امكانية خسارة 10% من العاملين العرب في دول الخليج وظائفهم واعمالهم، بحيث يصل مجمل عدد اللبنانيين العائدين من هذه الدول خلال العام 2009 الى حدود 40 ألف عامل·

أما الدكتور طبارة فيؤكد أنه بالرغم من غياب الاحصاءات حول أعداد المهاجرين العائدين فإنه من المعروف أن العديد من الافراد والاسر عادوا، أم في طريق العودة الى لبنان ولعل أول مؤشر على ذلك هو الضغوط التي تشهدها المدارس خاصة فيما يتعلق بالسنة الدراسية القادمة 2009-2010·

التأثير الاقتصادي

وعن تأثير هذه الهجرة على السوق المحلية يشير الدكتور فاعور أن موجة الهجرة العائدة من الخليج أدّت الى تزايد عدد طلبات الاستخدام والتوظيف في لبنان، وزيادة الاقبال على طلب الوظائف في السوق المحلية،مما أدّى الى ارتفاع نسبة العاطلين عن العمل خصوصاً بين الكفاءات العالية، لا سيّما في القطاعات المالية والمصرفية والعقارات والمقاولات والسياحة والاعلان والاعلام··

ويضيف الدكتور فاعور أن الهجرة العائدة سوف تؤدي الى تراجع حجم التحويلات المالية للمغتربين تتراوح بين 10 و20% وهذا الانخفاض سيؤدي الى تراجع النمو الاقتصادي وبالتالي عدم القدرة على توفير فرص عمل كافية للوافدين الجدد الى سوق العمل ثم ارتفاع معدلات البطالة بين فئة الشباب وبخاصة من أصحاب الشهادات الجامعية العليا والذين كانت تستوعبهم أسواق الخليج بعد توقّف حركة الهجرة المغادرة، ثم عودة آلاف المغتربين من البلدان العربية المنتجة للنفط نتيجة الانكماش الاقتصادي وتراجع الاسعار·

ويتوافق الدكتور طبارة مع الدكتور فاعور ويشير الى أن معظم العائدين هم من الموظفين وليسوا من أرباب العمل وهم من الطبقة الوسطى وليسوا من الاغنياء، فإن التداعيات الاولى لعودتهم ستكون باتجاه رفع مستوى البطالة أكثر من رفع مستوى الاستثمارات· وهكذا فإن النتائج الاقتصادية المباشرة للهجرة العائدة هي الضغط على سوق العمل وخفض حجم التحويلات ولا بد وان يترك هذا أثراً سلبياً على النمو الاقتصادي خاصة إذا ما طالت الازمة الاقتصادية العالمية وتعمّقت·

تعديل نسب العزوبية للجنسين

ما هو أثر هذه الهجرة على الوضع الاجتماعي في لبنان؟ يؤكد الدكتور طبارة أنه من اللافت أن معظم نقاط الاختراقات المحتملة للهجرة العائدة تقع ضمن إطار القضايا السكانية والتداعيات الاجتماعية الديمغرافية التي هي بمعظمها إيجابية· ويشرح أن المسألة الاولى هي أنه سيكون هناك إعادة تعديل في توزيع السكان حسب الجنس وخاصة في سنين الشباب· فكما هو معروف فإن الهجرة ترتكز تقليدياً ليس فقط على سنين الشباب وما يقاربها بل أيضاً على الذكور أكثر بكثير من الاناث· وبما أن هجرة الشابات العازبات هي أقل بكثير من هجرة الشباب العازب ، فإن هذا الخلل تترجم بشكل واضح في نسبة عزوبية النساء التي تضاعفت بالنسبة لسنين الشباب الرئيسية·

والسؤال هل ستعدّل الهجرة العائدة في هذه النسب؟ يؤكد الدكتور طبارة أنها لا بد أن تفعل ذلك الى حد يتزايد مع طول وعمق الازمة وبالتالي كثافة العودة، إذ أن ميزان العودة سيكون لصالح الذكور في أغلب الاحوال - كما كان في الهجرة الذاهبة - ولكن إعادة التوازن لن يكون كاملاً على كل حال لأن صافي الهجرة سيبقى نحو الذهاب، وهذا الصافي قد ينخفض ولكنّه لن يتوقّف خلال الازمة وسيعود الخلل على الاغلب بعد إنتهاء الازمة·

كبار السن

<المسألة الاجتماعية الديمغرافية الثانية تتعلق بكبار السن> يضيف طبارة <فمنذ مدة بدأت ترتفع نسبة كبار السن في لبنان ومن المنتظر أن تتزايد سرعة ارتفاعها مع الوقت· وبما أن لبنان في هذا المجال يسير نحو مستويات الدول الاكثر نمواً فإنه من المفيد معرفة أن هذه المستويات تبلغ ضعف ما هو في لبنان>·

ويشير الدكتور طبارة أنه مما لا شك فيه فإن الهجرة العائدة ستكون بمعظمها من الشباب أو من الاعمار القريبة من الشباب، ولذلك فإنها ستخفّض من نسبة الكبار في المجتمع وقد تخفّف من ازدحام مؤسسات العجزة ومدة الانتظار للدخول اليها، إذ أنها ستجمع شمل بعض الاسر ولو بالرغم عن إرادتها· هنا أيضاً، كل شيء يتوقّف على طول الازمة خاصة في بعض بلاد الخليج كإمارة دبي مثلاً حيث يتجمّع قسم كبير من المهاجرين اللبنانيين ولكن بشكل عام، فإن التداعيات الديمغرافية هي بطبيعة الاشياء على الأمد القصير وستتلاشى مع إنتهاء الازمة·

عائدون
عائدون


عائدون والخيبة على الوجوه
عائدون والخيبة على الوجوه


تعليقات: