صيدا المدينة العائمة على بحر السياحة


تعود مدينة صيدا لتأخذ مكانها ودورها الفاعل على الخارطة السياحية في لبنان. تعود الى الحياة والسياحة في صيف لا يشبه ذلك الذي للأعوام السابقة. فها هي صيدون اليوم تعيش التطور والتجدّد بعد مسيرة طويلة حافلة بالأحداث وبالمحطات وصولاً الى تطور يتجلى في الحركة السياحية النشطة التي تشهدها عاصمة الجنوب خلال هذا الصيف. أُسّس له على مدى السنوات السبع عشرة الأخيرة التي شهدت خلالها المدينة ككل والجزء القديم منها تحديداً ورشة عمل كبيرة ساهمت في جهوزية البنية السياحية الحالية لها. الامر ليس بغريب على تلك المدينة التي لطالما أبت الجمود والسكون والعزلة، ورفضت الظلم والغبن. هي المدينة الطامحة أبداً إلى الحرية والتطور والانفتاح على العالم والتفاعل مع حضارات الشعوب، من دون أن تفرّط بهويتها أو بكرامتها أو برصيدها التاريخي والحضاري وبحقها في التطور والنمو.

في كل مرة تخرج من محنتها قوية عزيزة، كأنها طائر الفينيق المنبعث من تحت الرماد. تنبعث من جديد، فتعيد بناء نفسها بنفسها، وتصنع من آلامها مشعلاً يضيء طريقها نحو المستقبل. المدينة التي كانت تخلد الى الفراش باكراً، تعود عروساً متوسطية تزف كل يوم الى الفرح والحياة بأبهى حلّة. فستانها بزرقة البحر الموشّاة بمراكب الصيادين، يزنّرها الموج بزبد النقاء وتغطي شباكهم وجهها المطلّ خفراً من خلف أبراج القلعة حارسة صيدون، ورمز تضحيات أبنائها على مرّ العصور.

مدينة الستة آلاف عام من الحضارة، تتلمس اليوم طريقها إلى المستقبل منطلقة من إرث حضاري قوامه هذا التاريخ العريق الضارب جذوره في عمقها والمتكشفة معالمه في ما يظهر عاماً بعد عام في أرضها من آثار ومخزون حضارات.تنطلق من حاضر تراكمت فيه جهوزية المدينة بأيد بناة تاريخها الحديث من أبنائها وفي مقدّمهم رفيقها الرئيس الشهيد رفيق الحريري الذي تجني المدينة اليوم ثمرة ما زرع من انجازات في البشر والحجر فيها. بنى تحتية وفوقية ومرافق وشبكة مواصلات ومراكز خدمات تجعلها مدينة للسياحة بامتياز وبمختلف وجوهها: التاريخية والطبيعية والصحية والدينية، مدينة استطاعت أن تعزز موقعها ودورها كعاصمة للجنوب ومركز استقطاب اقتصادي لكل لبنان.

لا يكاد يمرّ أسبوع على عاصمة الجنوب من دون أن تشهد مطاعمها ومقاهيها ومعالمها التاريخية والتراثية توافد سيّاح من لبنانيين مقيمين ومغتربين الى عرب وأجانب أدرجوها على لائحة برنامج إقامتهم لموسم الاصطياف في الربوع اللبنانية. وفي قراءة سريعة لسجلات خان الإفرنج مثلاً، تظهر أن عدد الذين دخلوا الى الخان سائحين خلال الاشهر الثلاثة الأخيرة( ايار وحزيران وتموز) بلغ نحو 8238 ثلثهم من العرب والأجانب، هذا عدا عن الوفود السياحية الكثيرة التي تجول في المدينة القديمة وتزور معالم تاريخية وسياحية بعينها فيها كالقلعة البحرية التي يتركز باتجاهها العدد الأكبر من السواح والزائرين للمدينة صيفاً والتي دخلها على مدى الأشهر الثلاثة نفسها ما يقارب الخمسة عشر ألف سائح وزائر.

تستفيد المدينة عادة من هذه الحركة السياحية بشكل نسبي، اي حسب توزّع السواح على معالمها التاريخية والتراثية ومرافقها ومؤسساتها السياحية والتجارية. المطاعم والمقاهي فيها تتقدّم المرافق المستفيدة، يليها الفندقان اليتيمان الصغيران فيها، ثم الأسواق الشعبية أو التراثية التي يقبل السيّاح على التسوق منها، بالاضافة الى قطاع السيارات التي يشكل الاغتراب اللبناني ( الصيداوي والجنوبي ) عامل تحريك لتأجيرها ولمكاتب السياحة والسفر وأيضاً محركا للدورة الاقتصادية الداخلية في المدينة بمختلف مرافقها.

[ ليالي الأنس.... في صيدا

من يزور صيدا خلال عطلة نهاية الأسبوع هذه الأيام، من مساء الجمعة حتى مساء الأحد، يمكنه أن يلاحظ حركة سياحية لافتة بإتجاه المدينة وداخلها، وعبرها إلى الجنوب.حركة أكثر ما تتركز وبشكل أساسي في المقاهي والمطاعم المنتشرة على واجهتها البحرية وتتجلّى بداية في إزدحام البولفار البحري والطرقات الرئيسية في المدينة بالسيارات التي تقل الوافدين والزائرين والعابرين، كما في قصور مواقف السيارات عن استيعاب ما يصب فيها كل يوم من مختلف المناطق القريبة والبعيدة. تستقبل صيدا زوارها بمطاعم إرتدت أبهى حلة تليق بمدينة الحياة، تتفنن بما تقدمه لزوارها من مأكولات سريعة وشعبية وتراثية، وبمقاهيها التي تضج بالزوار ليلاً وفي ساعات الصباح والمساء لتقدم لهم كل ما يتوافر من أطايب المرطبات والمثلجات والأطعمة الخفيفة إلى جانب النارجيلة الصيداوية المميزة بنكهاتها المختلفة

اجواء سهر وسمر وعجقة وافدين تعكس أجواء صيدا ليلا. المقاهي على الواجهة البحرية لا تهدأ فيها الحركة محولة ليل المدينة نهاراً. ها هي صيدا اليوم آخر من ينام، مدينة تعشق السهر. الاقبال يتزايد عاماً بعد عام ليتوج صيدا فعلا مدينة للحياة الى جانب كونها مدينة رمضانية. كيف لا فإحياء السهر في صيدون حتى ساعات الصباح الاولى لم يعد مستغربا بل هو أمر طبيعي بالنسبة لمدينة سياحية في موسم الاصطياف. يلجأ محي الدين البخور مستثمر احد المقاهي الى دفتر حجوزاته لنهاية الأسبوع باحثاً عن طاولة لوفد طرأ فجأة على مقهاه محاولاً إيجاد مكان له. يستطرد قائلا "الموسم السياحي وفصل الصيف يشهد اقبالا كثيفا من السواح الوافدين من الدول العربية ولا سيما من الخليج والأجنبية وخاصة من أوروبا، ومن المناطق اللبنانية كافة لاسيما من بيروت والجنوب. الموسم يبدو مقبلاً هذا الصيف".

أمام المطعم الذي يقدم وجبات شعبية الى جانب طبق السمك الطازج على الواجهة البحرية، يدخن ايمن ناصر نارجيلته التي ترافقه كما ظله. تراه يسارع الى دعوة الزائرين الى التوقف عنده، يحاول تأمين موقف سيارة لمن يرغب بالدخول. يزدحم المطعم بشكل كامل يومي السبت والأحد من كل أسبوع حتى ساعة متأخرة من الليل، وفيه يلتقي ابناء الوطن الواحد من كل المناطق والطوائف ومن كل الانتماءات ومن كل الأعمار ومعهم السياح العرب والأجانب الذين يستهويهم السهر في المدينة. يقول ناصر: هذه السنة الصيفية حلوة، السياحة في صيدا جيدة بالنسبة الى وضع الناس ونأمل ان تكون سنة خير على المدينة، "لافتاً الى "أن الوضع الأمني مستقر ويشجع على مجيء الناس الى صيدا".

وعلى مقربة منه تجلس سائحة أوروبية وفدت من بريطانيا تترغل بالإنجليزية مع صديق لها. نسألها عما يجذبها في صيدا فتجيب دون تردّد "المكان جميل يمكننا رؤية مغيب الشمس، ومنطقة قريبة من الاسواق الشعبية وتعجبنا كثيرا والناس هنا ودودون جدا والشاطئ جميل ".تتدخل نهلا شيخا التي تقصد المدينة من بيروت بالقول" صيدا مناخها حلو وجوها رواق ولا شي يزعجنا. جئنا لنغير جو ولنريح اعصابنا ".

في مقهى مجاور يجلس حسن كاعين من الصرفند مع رفاق له نافثاً دخان نارجيلته، ويقول" نأتي الى صيدا لنسهر ونرتاح بعد نهار شاق ومتعب من العمل. مدينة هادئة وقريبة من حيث المسافة وقريبة الى القلب لأن اهلها طيبون. هي منفتحة على الجنوب كله، وفيها التاريخ والتراث، وجلساتها رخيصة من حيث الكلفة وكويسة بالنسبة الى الوضع الاقتصادي في لبنان".

[ فسحة الكورنيش

من مدخل المدينة الشمالي حيث ينساب البولفار البحري أمام ساليكه تتوسطه خمائل الورود والنخيل، تستقبل صيدا الزائرين بعبق عبيرها ليمتزج ورائحة ما تبقى من زهر ليمونها الذي لطالما إشتهرت به قديماً أو ورائحة البحر يحمله نسيم الصيف ويرشّه الموج المتهادي على شواطئها رذاذاً يلطّف حر الصيف ورطوبته.

أمام ناظري الزائر يتمدد شاطئها الرمل الذي يستقبل المتنزهين والسابحين بكامل خدماته مشكلاً متنفساً للعائلات وللطبقات الشعبية خصوصاً من المدينة وجوارها، تلونه بين الحين والآخر حركة سواح عرب وأجانب. على خاصرتها البحرية المتمايلة مع حدودها البحرية المتماهية مع الأفق، تتفتح ورود الحياة كل يوم مع "كزدورة الكورنيش" وما يرافقها من جلسات سمر وتأملات في الغروب ورياضة مشي، يواكبها باعة متجولون يسوقون الفرح للأطفال، وأسباب التسلية والمؤانسة للكبار.عائلات من متوسطي الحال وذوي المداخيل المحدودة، تتكوكب حول طاولات بلاستيك ينفثون النراجيل، فيما تكسر روعة البحر رتابة الجو لدى محمد وهبي فينظم شعراً لحبيبته على وقع صوت فيروز الآتي عبر مكبر صوت بائع الأشرطة الجوال "شايف البحر شو كبير".التاكسي البحري لا يهدأ بإبحاره ذهابا وايابا بين الشاطئ و" الزيرة" مقلاً السائحين والمتنزهين. وفود سياحية من مختلف المناطق تجول على المواقع التاريخية والطبيعية ومن بينها مغتربين لبنانيين جاءوا لتمضية فصل الصيف في ربوع لبنان. حلقات الدبكة والرقص ترافق بعض الوفود على رصيف الكورنيش البحري قبالة قلعة البحر قبل التوجه الى محطة أخرى..

[ رحلة في التاريخ

عوامل عدّة تجعل من عاصمة الجنوب مركز استقطاب سياحي بإمتياز، لعل أبرزها سهولة الوصول إليها من مختلف المناطق ولاسيما العاصمة نظراً الى قربها منها شبكة الأوتوسترادات الحديثة التي تربطها بها، بالاضافة الى انها تنعم بالاستقرار والهدوء بإرادة فاعلياتها وأهلها، وتحظى بالحضور القوي لمؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية على الأرض وعلى مدار الساعة للحفاظ على الامن والسلامة العامة.

هذا وتتوافر فيها الخدمات السياحية والتجارية والفندقية بكلفة على السائح والزائر أقل نسبياً من بقية المناطق، وتضم مؤسسات سياحية من مقاه ومطاعم وواجهة بحرية جميلة وفندقين صغيرين، وجميعها تناسب أصحاب الدخل المتوسط من اللبنانيين، وترضي السائح العربي والأجنبي بخدماتها المميزة وجودة ما تقدمه من طعام ومأكولات لبنانية شعبية تراثية فضلاً عن ثمار البحر التي تشتهر بها الى سمكها الطازج وبكرم الضيافة اللبنانية.

وتتكامل مقومات السياحة في عاصمة الجنوب بحيث يتسنى للزائر والسائح تمضية يومه أو أسبوعه فيها بالقيام بالعديد من الزيارات والجولات على مرافقها السياحية والتاريخية والتراثية والاستراحة في مطاعمها ومقاهيها والتسوق في أسواقها والتنزه على كورنيشها البحري وزيارة جزيرتها والسباحة في بحرها. وتمتاز المدينة بكونها مجمعاً للعيش المشترك حيث تقوم فيها دور عبادة للمسيحية والاسلام، من مساجد وكنائس ومزارات ما يجعلها قبلة للسياحة الدينية مع ما يرافقها من حركة زائرين ووفود وسياح داخل المدينة وفي محيطها (سيدة المنطرة في مغدوشة ومعبد أشمون..). هذا عدا عن المدينة القديمة ـ قلب صيدا النابض التي تشكل ثقلاً سياحياً، كونها المدينة التاريخية الوحيدة التي تضج بالحياة بسكانها المقيمين وزوارها الوافدين، ولا تزال تحافظ على أسواقها التراثية والشعبية التي تصمد فيها أقدم الحرف، وذلك من خلال أعمال الترميم والتأهيل التي تقوم بها مؤسسات محلية لهذه الأسواق وللأحياء الداخلية القديمة إلى جانب ما تقوم به الدولة في هذا الإطار ضمن مشروع الإرث الثقافي. أكثر من عنوان ومحطة يتوقف عندها الزائر لصيدا منذ أن تطأ قدماه ارضها، لكن جولته لا تكتمل الا اذا تغلغل في تاريخها وتراثها. قلعة البحر، وخان الافرنج، ومتحف الصابون، وقصر دبانة، وحي مار نقولا، وساحة باب السراي، ومقهى الزجاج، وضهر المير، ورجال الأربعين، والجامع العمري الكبير وصولا الى قلعتها البرية وموقع الفرير الأثري وجاره موقع الصندقلي حيث تواصل بعثة المتحف البريطاني للتنقيب على الآثار واستخراج بعض من حضارات تختزنها طبقات المدينة عند أسوار صيدا القديمة. وبموازاتها، يغري الازدحام اليومي في شارع رياض الصلح شريان صيدا الرئيسي ـ الزوار للدخول في قلب السوق التجاري لتكون جزءاً من خلية نحل لا تهدأ، عمادها تواصل صيدا وتفاعلها مع الجنوب والشرق والإقليم. نشاط اسواقها الشعبية والتجارية خلال فترة النهار لا يكنّ حيث يحلو التسوق والتعرف على جديد ما تعرضه مؤسساتها ومحالها التجارية.

على المقلب الآخر من المدينة، وتحديداً على البولفار الشرقي، وجه آخر من وجوه استمرارية وتطور الحياة. مراكز تجارية ضخمة بدأت بالارتفاع على جانبي الأوتوستراد الذي يربط شمال المدينة مباشرة بجنوبها وشرقها. في هذه المنطقة تستقطب صيدا حركة استثمارات غير مسبوقة في تاريخها، فتستعد شركات ومؤسسات كبرى افتتاح فروع لها ضمن "المولات" التي تضم أيضا دور سينما وترفيه وخدمات مختلفة تؤمن لزائرها كل ما يحتاجه. ولا يمكن لزائر صيدا أن ينسى قبل مغادرتها تذوق حلوياتها الشهيرة العربية والافرنجية والتي ارتبطت قديماً بتراث المدينة وتخصصت عائلات كبرى بصناعتها حتى ذاع صيتها وسبقتها شهرتها الى بلدان الاغتراب العربية والأجنبية.

انها صيدا. تلك المدينة التي تستحق الحياة عن جدارة. في الليل كما في النهار، مدينة تختصر نهوض وطن رغم كل مصاعبه، وتوق شعب محب للحياة الى كل ما يبعث في النفس من استقرار وسكينة في آن. في هذا الصيف خلعت صيدون ثوب النوم والخمول ولاقت الليل بثوب السهر والحياة، وازدانت نهاراتها بمحبة زائريها الذين يحملهم الحنين للتراث ويسكنهم حب الحياة والفرح.



تعليقات: