حكايـة «نيـرودا عيثـرون» كمـا يرويـها المواطـن نبيـه عواضـة

 نبيه عواضة اليوم
نبيه عواضة اليوم


جموّل صبيّة رقصت وزغردت على هضاب جبل عامل ومشت لساعات في ليل وديانه، قبل أن يقتلها أكثر من سبب.

لهذه الصبية أبناء كثر، بعضهم استشهد، وبعضهم أسر، وأكثرهم ما زال بيننا. نبيه عواضة، الذي أسر في العام 1988، واحد من أسرى جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية. هو، إذ يستعيد سيرته ولداً وعميلاً سرياً لجمول، في قريته عيثرون، ثم سيرة الأسر، يصر على أنه واحد من أبناء «جمول» الذين صودف أنهم عُرفوا لأنهم أسروا أو استشهدوا، بينما المئات من المقاومين أدوا واجبهم الكبير بصمت ولم يسعوا إلى اعتراف بفضلهم.

إلى هؤلاء المجهولين من أبناء صبية هضاب الجبل، حكاية «نيرودا عيثرون»، كتحية لا تحتاج إلى مناسبة.

هل غفا نبيه؟

هو ورفاقه الثلاثة محشورون في «تتخيتة» (عليّة) بيت مهجور في دير سريان الجنوبية المحتلة. مرهقون بعد مسير طويل حمل فيه نبيه قاذفة ال «آر بي جي» وبندقيته «كلاشينكوف»، وجعبتيهما، وغالون المياه.

في التتخيتة كوّة تطل على الطريق ينتظر فيها الشبان الاربعة مرور دورية اسرائيلية في اليوم التالي، حيث يفترض أن تنفجر فيها عبوة مزروعة، ثم يشتبك الشبان الاربعة مع الدورية، فيقتلون من يقتلون، ويأسرون من يأسرون. المجموعة الثانية متوارية بين اشجار بعيدة عن المكان، تتألف من ثلاثة عناصر مجهزين بصواريخ «ستيلا». هؤلاء يرصدون المروحية التي لا شك ستحلق بعد نحو عشرين دقيقة من انفجار العبوة فوق المكان. المجموعة الثالثة، من عنصرين، تقبع بعيداً، مهمتها الاسناد. هذه عملية مركبة ونوعية على أبواب الذكرى السادسة لإنطلاق جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، «جمول». نحن في التاسع من ايلول العام 1988.

هل غفا نبيه؟ هو جالس في التتخيتة على كنبة، تحت مكيف يبث هواء شديد البرودة على جسده النحيل شبه العاري. في رأسه كيس اسود. لقد جُلب قبل ساعة الى الكنبة تحت المكيف، بعدما وُضع تحت دوش مياه ساخنة جداً، ثم باردة مثلجة، ثم ساخنة حارقة، ثم باردة. لقد ارتخت اعصابه كلها. الآن يرتجف تحت المكيف، يسمع أصواتاً كثيرة. باب يُفتح ويُغلق. صراخ أشخاص يتعذبون. صوته هو يصرخ بعدما يتلقى فجأة لكمات متتالية على رأسه الذي تحت الكيس. يسأله صوت صار يعرفه: من قائدك؟ «جورج حاوي»، يقول نبيه. كذّاب، يقول الصوت. كم شخصا كنتم في العملية؟

أي عملية؟ يفكر نبيه. هو ما زال محشوراً على ارض باردة لتتخيتة بيت مهجور بالكاد تتسع له مع كايد وأحمد وعلي، ينتظرون الصباح كي تمر الدورية و...

أين يغفو هذا الفتى الأسمر ابن السادسة عشرة؟

[[[

لا. لن يذهب نبيه إلى عيثرون يا ام نبيل، يا والدة الصبي الذي كبر قبل أوانه، يا ارملة الشيوعي الذي أخذه السرطان منك ومن نبيل وزويا ونبيه ومحمد، ليلة رأس سنة 1980. لا. انظري إليه. يجلس بالقرب ممن هم اكبر منه، يحرس معهم «القصر»، مركز الحزب الشيوعي في طريق الجديدة. انظري إليه، يضع الكلاشينكوف الروسي في حضنه، منتظراً رنا كي تمر فتراه مع بندقية. يرسم لرنا قلباً بسهم. يضع حرف اسمه وعلامة سؤال. فوق العلامة تترك حرف اسمها. يحبها ويكتب لها قصائد. لذا سماه أحد المجهولين في الغرفة «السرّية» من بيتكِ نيرودا. عملتِ جاهدة على ابقاء الغرفة من بيتك بعيدة عن عيون اولادك. البيت الذي اسكنك فيه الحزب والتي تستخدم جموّل إحدى غرفه مكانا سريا لمقاوميها. لن يخبرك نبيه أنه مرة فتح باب الغرفة التي كانت تشغل باله ورآهم، اربعة منهكين أحدهم تنزف ساقه دماً. واشار المصاب إلى نبيه ان اقتربْ فاقترب. طلب منه ألا يخبر أحداً عما رآه في الغرفة وسأله ماذا يريد. فاشار نبيه إلى السلاح وقال: علمني.

كم كان عمره حينها؟ 12 سنة؟ مرت سنتان على الاجتياح. ومن يومها وهو يتعرف الى المجهولين المتتالين تستضيفهم غرفة البيت الذي سيدته أم كريمة.

ها قد مر عامان أيضاً. لقد صار في الرابعة عشرة. يعرف أغاني مارسيل خليفة، وناشط في اتحاد الشباب الديموقراطي، ولن يخبرك أنه أجرى دورة عسكرية ليوم واحد. لن يترك الحزب والرفاق ولن يترك رنا ويذهب إلى عيثرون البعيدة المحتلة. هو باق هنا. ولدٌ بين مقاتلين يمرون على الغرفة ويتعرف عليهم ويختفون. وولدٌ بين شبان يحرسون مركز الحزب. واحد منهم يقول له إن رنا برجوازية، ولن تحبه، ولن تتزوجه، فيحزن. هو يحبها، ويحب رائحة البارود ويحب رائحة شحم السلاح.

اسمعي: أرى في عينيك ربيع عيثرون. المس في يديك تراب عيثرون.

هذه قصيدة كتبها لرنا وعيثرون والشهيدة لولا عبود معاً. نُشرت في جريدة «النداء» ووقعها باسم نيرودا عيثرون. وقرأها الرفيق زاهي أسمر في الباص حين كانوا في رحلة. كان نبيه ولدا، يجلس نافخاً صدره ويطوي ذراعه ويريحها فوق النافذة.

حياته كلها مرتبطة بالحزب الشيوعي الآن. لا ترسليه بعيداً.

[[[

ترك نبيه قبلة على خد رنا. سيذهب إلى عيثرون. لقد أخبر رفيقاً عن نية أمه بابعاده. لاحقاً، يعلن الرفيق للولد أنه من «جمول»، ويطلب منه أن يذهب بصفته مقاوماً سرياً إلى القرية لينقل معلومات عن العملاء وبيوتهم وتحركاتهم وينتظر أي أوامر تطلبها منه «جمول». صار الفتى رجلاً في هذه اللحظة، او هكذا ظن. وأمه ستفرح لأنه وافق بان ينتقل إلى بيت عمه في عيثرون، حيث يبتعد عن السلاح، ويتعلم. لكنه تعلم على يد الرفيق كيفية تركيب عبوة. وتعلم كيف يكتب التقارير. قال لرنا إنه مغادر، وزعلت كثيراً فاجابها بانفعال: انا لازم اطلع على الضيعة، من دون أن يضيف، ثم ترك المقاوم تلك القبلة يتيمة على خد حبيبته. للصبي قضية كبرى الآن.

رجع إلى قريته، وصار يعمل وحيداً. تصادق مع كثيرين في مدرسة عيثرون الرسمية، منهم أبناء عملاء، وتردد على الفتيات، ليبدو مراهقاً متفلتاً. لم يحك كلمة واحدة يمكن أن تدل على انتمائه، لم يردد أغنية. لم يستذكر سطرا من قصيدة لمحمود درويش. السرية التامة. فقط «صوت الشعب»، يستمع إليها ليلا وأهل بيت عمه نيام.

ثلاثة أشهر، ونزل إلى بيروت جالباً «الأغراض» معه. تقارير كتبها خارج بيت عمه وكان يدفنها ملفوفة بالنايلون في جل قريب. جمع معلومات ورسم خريطة القرية وكل ما يراه من تحركات إسرائيلية ولحدية، وحدد مواقع بعض بيوت العملاء. كان يعمل.

رأى الفتى خلال إقامته أن المراقبة ليست كافية. اشترى ورق الكاربون، وصار يكتب على أوراق: أن جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية تحذركم من التعامل مع العدو الصهيوني. الموت للعملاء والمجد للشهداء. جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية. رمى الأوراق على ارض القرية لدب الرعب في صفوف العملاء. وفي المدرسة، رسم على ألواح الصفوف مناجل ومطارق. لاحقا سيعرف أنه أخطأ. شغل بال مجموعات شيوعية سرية في القرية حين شاعت أخبار المناجل والمطارق والبيانات.

من بيروت، عاد إلى القرية يحمل مهمة حقيقية هذه المرة: تأتي فتاة وتسأله: إنت شاطر بالرياضيات؟ يجيب: إيه شاطر بالرياضيات. تعطيه مسدساً ليغتال به عميلاً لحديا معروفاً. انتظر الفتاة وسؤالها ثلاثة أشهر، ولم تأت.

رجع إلى بيروت في عطلة ربيع العام 1987. عمه الذي سمع ان العيون تتفتح على الصبي رافقه إلى المعبر ليلاً، وحين عبر نبيه البوابة ارتاح العم. لم يُرسل ثانية إلى عيثرون.

[[[

في العام 1987 ذهب نبيه إلى صيدا حاملاً «ظرفاً» يعرّف عن حامله، على جاري عادة «جمّول» في العمل. استقبله وجه يعرفه جيداً. هو واحد ممن كانوا في غرفة بيتهم. صار الآن دور نبيه في الانتظار. ثلاثة ايام بقي في غرفة قبل ان تأتي سيارة تقله إلى قرية جون حيث نزل في بيت سرّي. ظل الى ما بعد منتصف الليل، وقد التحق به ثلاثة شبان يعرف واحدا منهم هو محمد رمضان، رفيقه في المدرسة، الذي سيؤسر في عملية لاحقة. نقل الشبان كمية من مادة «تي أن تي» إلى قرية أنان المحتلة في منطقة جزين. مشى نبيه في الوديان حاملا سلاحه وجعبته. نفذت المجموعة مهمتها. ومجموعة اخرى فجرت العبوة بدورية اسرائيلية.

بعد هذه العملية، انتسب نبيه عواضة إلى الحزب الشيوعي اللبناني. مسؤوله التنظيمي في الحزب لم يكن يعرف أن نبيه في المقاومة. ونبيه لم يكن يعرف أن رفيقه في منظمة بيروت أنور ياسين هو أيضاً مقاوم. والعكس صحيح. حين كان نبيه عواضة في عملية، كان أنور ياسين ينتظره في المركز في بيروت كي يأتي ويحل محله في الدوام في المركز.

تأخر نبيه، ولما وصل، كان أنور غاضباً. لوح بذارعه في وجه نبيه متبرما من تأخره. وحث انور ياسين الخطى إلى المهمة التي سيؤسر خلالها على امتداد 17 سنة.

[[[

في العامين 1987 و1988 طلع نيرودا في ثماني مهمات، في كل من وادي الحجير وبرعشيت وفرون وفي منطقة كفررمان حيث اشتبك مع دورية اسرائيلية بعد انفجار عبوة فيها. يجهل ما إذا كان قد أصاب إسرائيليا في تلك المهمة، لكنه خاض المعمودية. غمره فرح عارم. للمرة الاولى أحس بأنه يعوّض عن عملية «إنت شاطر بالرياضيات» التي لم ينفذها.

خالد، للمناسبة، هو اسم نبيه في جمول، وفي بيروت، اسمه نيرودا عيثرون. له صديق اسمه ألكسي، يحكي له عن معنى المقاومة. يقول له إن معارك الداخل كريهة وليست للشيوعيين. ألكسي استشهد في العام 1999، بنيران «صديقة»، بينما كان عائداً من عملية في الجنوب المحتل. اسمه سامي شحيّد.

وللتذكير، فإن «جمول» ضمت من كل لبنان، ومن كل الطوائف.

[[[

في أيلول من العام 1988، كلُف نبيه، من ضمن مجموعة من تسعة أشخاص، بعملية «نوعية ومركبة» في دير سريان، احتفالا بالذكرى السادسة لانطلاق «جمول». مجموعات «لولا عبود والأسير أنور ياسين» عليها أن تأسر، بحسب الخطة الموضوعة، جنودا إسرائيليين وتسقط طائرة مروحية وتدمر آليات للعدو وتقتل جنوداً. تسعة شباب، منهم خمسة نعرف أسماءهم: كايد بندر. احمد اسماعيل. علي حمدون. نبيه عواضة. الخامس اسمه حمزة سليمان، لقبه أبو جبهة، سوف يستشهد في عملية لاحقة في كفركلا. الأربعة الباقون هم من المئات الذين قاوموا وما استشهدوا ولا اسروا. بالتالي، لا أسماء لهم في هذا النص، من دون موافقتهم.

انقسموا ثلاث مجموعات. كايد وعلي واحمد ونبيه في بيت بعيد عن العبوة (تزن 120 كليوغراما من التي ان تي) التي جهزوها في عبّارة مياه. ينبغي على العبوة ان تنفجر في دبابة، ويطلق نبيه قذائف الآر بي جي على الملالات الاخرى في الدورية.

في وصولهم إلى القنطرة مروا بديركيفا وصريفا، ومشوا في واد قريب ليصعدوا إلى الغندورية ويمروا منها إلى وادي الحجير حيث صاروا في المنطقة المحتلة. وكان نبيه طوال الوقت يرسم مشاهد المعركة المقبلة. انفجار واسر جنود وسقوط مروحية. عاش في خياله مع المعركة الآتية طوال وقته.

عند غروب التاسع من أيلول نزلوا من القنطرة الى وادي دير سريان وذهبوا صوب ارض العملية في دير سريان.

في مشيهم، كانت دبابير تطير من فوقهم، ونبيه يراها مروحيات تسقط.

وصلوا أطراف دير سريان ليلاً. انقسمت المجموعات كل في مكانها.

زرع الأربعة العبوة في عبّارة المياه، وصعدوا إلى تتخيتة البيت المهجور. انتصف الليل. صرنا في العاشر من أيلول.

نيرودا كان تعباناً، ربما غفا قليلا في ذلك الليل الطويل. لم يحلم انه جالس تحت المكيف والكيس الاسود في رأسه. لم يفكر للحظة أنه سيؤسر.

[[[

أشرقت الشمس. مضت ساعات ولم تمر دورية. ظهراً، سمع الشبان صوت مروحية. بعدها سمعوا صوت صاروخين ينطلقان من الطيارة وينفجران بعيداً. على إثرها أصاب رشق رصاص البيت الذي يكمنون فيه. ثوان من الهدوء ثم انفجرت قذيفة «انيرغا» في البيت وفتح النار عليه من كل صوب وحدب الا من جهة الطريق الذي تطل عليه كوّة التتخيتة وهو ما زال خالياً.

الإسرائيليون يمشطون البيت ومحيطه من دون ان يعرفوا أن في داخله مقاومين، وإلا لأسقطوه على رؤوس «المخربين». تلك كانت الاحتمالات التي فكر فيها الشبان الأربعة. لم تعد الخطة الآن نوعية ومركبة، بل بسيطة ومباشرة. «ننتظرهم حتى يداهموا البيت، فنواجههم. نقتل من نقتل قبل ان نسقط شهداء».

لقد سقطوا في كمين. رآهم لدى وصولهم عميل وبلّغ. بينما كانوا في التتخيتة كانت القرية كلها تحت استنفار اسرائيلي.

بعد مطر الرصاص على البيت، ساد هدوء طويل قطعه صوت حركة قريبة. صار الجندي أسفل أسفل التتخيتة حين لمح ساق كايد بندر. أطلق رشقه فأصيب كايد الذي اعتدل من تمدده ليطلق النار ليصاب في كتفه وذراعه. صرخ كايد وقد صار مكشوفاً الآن: «ستوب ستوب». استمر الجندي باطلاق النار، فطرش دم كايد على رفاقه. كايد قرر أن المعركة باتت خاسرة وان استسلام رفاقه أفضل من مقتلهم. حين وقف في وجه البندقية كان يعرف انه سيقتل. لكنه نجا بالرغم من الطلقات الست التي استقرت في جسمه.

صوبت بندقيات ثلاثة جنود إلى باب التتخيتة. صرخ صوت من مكبر يدوي: «كل المخربين ينزل وايدك لفوق». نزلوا واحدا بعد الآخر. كايد المصاب، أحمد، علي، ثم نبيه، الذي بينما ينزل ساقيه، ركله عليهما جندي إسرائيلي، فقلب الفتى النحيل في الهواء وهبط أرضا على انفه الذي تحطم.

وضع الجندي فوهة بندقيته الحارقة في أذن نبيه وضغط على الوجه النازف، تسحق الجهة الاخرى منه الحجارة على الأرض. نظر نبيه في وجه الجندي. كان مراهقاً أشقر بوجه جميل وعينين زرقاوين، وكان يرتجف. كان الاسرائيلي الأول الذي يراه. بدا عدوه خائفاً.

رُبطت يدا نبيه وعصبت عيناه، واخرج من البيت حيث مدد خارجاً. من تحت العصبة رأى من حيث هو زوطر الشرقية. قال في نفسه: هذه هي القرية التي كنا سننسحب إليها.

سحقت الحسرة قلب نيرودا عيثرون. المهمة فشلت، والآتي مجهول مطلق.

[[[

في اليوم الثالث على التحقيق، كان ذاك الخيط بين الواقع والخيال قد انقطع. ضُرب نبيه على مدار الأيام التي صارت بلا ليل ولا نهار. رُمي في زنزانة عفنة على جدرانها أسماء مقاومين سبقوه. مياه باردة ثم ساخنة، وجلوس بالساعات تحت المكيف المسلط على الجسد. كان يرى نفسه نائما على التتخيتة يحلم بانه معتقل، وكان يرى نفسه معتقلا يغفو في مكتب المحقق ويحلم بأنه على التتخيتة. أسوأ من أي شيء آخر في اعتقاله، انه لم يكن مدرباً قط لمثل هذا الموقف البديهي في عمله. موقف الأسر.

التزم أمرين: العملية كانت موجهة ضد لحديين، وكل المعلومات لدى «الذي مات»، أي كايد بندر. المحقق قال لنبيه إن كايد لم يمت. فرح نبيه وخاف مما ورط فيه رفيقه. نبش المحققون حياته. من تفاصيل صعوده من الثالث إلى الرابع ابتدائي، وصولا إلى أسماء قادة شيوعيين لم يلتقهم يوماً. غير ان للفتى اسما واحدا يحملّه كل ذنوب المقاومة: جورج حاوي.

مئة يوم من التحقيق. قد ينساها نبيه كلها، إلا مرة واحدة ادخله المحقق الذي يسمى نفسه جورج إلى مكتبه، جعله يجثو على ركبتيه وكفيه. جلس جورج على سطح طاولته. صار حذاؤه العسكري بمستوى رأس المقاوم. سأله: من مسؤول المقاومة في الحزب الشيوعي؟ أجابه: جورج حاوي. وبكل ما أوتي الاسرائيلي من قوة، ركل الفتى على وجهه فاطاحه أرضاً.

في الثالث والعشرين من أيار العام 2000، وقف نبيه أمام حسينية عيثرون حاملاً كلاشينكوف. طلب من العملاء المسلحين انتظار من يسلمون أنفسهم اليهم. خاض واحد منهم نقاشا مع نيرودا. سأله العميل عمن يكون. قال: نبيه عواضة. عرف العميل ابن قريته الاسير المحرر. قال لنبيه: مطرح ما بتحط إجرك منحط راسنا.

إنها تدور، هذه الكرة الارضية. والاسرئيلي الذي أراد أن يذل مقاوماً، ترك خلفه عميلاً ذليلاً خائفاً، اعلى مكان لجبهته هو حيث يدوس أسير محرر.

[[[

في زنزانة التحقيق، التقى نبيه صوتي رفيقيه أحمد وعلي من خلال جدران الزنازين. وكان الثلاثة يقولون عباراتهم مُغناة كي لا يعرف جلادوهم أنهم يوحدون المعلومات الكاذبة التي عليهم الادلاء بها حول العملية.

في العشرين من كانون الاول، غادر الثلاثة مركز التحقيق إلى سجن الجلمة. حين نزع الكيس عن رأس نبيه، كان يقف في الشمس للمرة الاولى منذ مئة يوم. سقط مغشياً عليه. وحين جُمع الثلاثة، انفجروا ضاحكين على الرؤوس المحلوقة لبعضهم البعض.

نبيه القاصر سيؤخذ إلى سجن آخر للأحداث في طبريا، في انتظار محاكمته. سجن فيه خليط من اسرائيليين وفلسطينيي 1948 منع نبيه من الاختلاط بهم. ظل هناك سبعة أشهر وحيداً، لكن في ظروف اعتقال أفضل، مع ثلاث وجبات يومياً. لم يكن هناك من معتقلين عسكريين من عمره. تراسل وأهله عبر الصليب الأحمر الذي جلب إليه أيضا كتاب القرآن الكريم. قرأه نبيه. هنا، كان يترك وحيداً في غرفة واسعة فيها عشرات الأسرّة. يقفز فوقها. يلعب. يعود وحيداً إلى طفولته.

[[[

صدرت الأحكام على الشبان الأربعة وفق قوانين الطوارئ للانتداب البريطاني للعام 1947. خمس عشرة سنة لنبيه واحمد وعلي. كايد حكم لعشرين سنة هو الذي اعتقل مرتين قبل ذلك، وخرج.

امتنع الأربعة عن حضور الجلسات كي لا يعترفوا بالمحاكمة والقاضي الضفدع، كما سماه الرفاق، حاكمهم لأنهم يحملون أسلحة في مناطق نفوذ الانتداب، والانتماء إلى حزب غير مرخص ومحاولة قتل جنود إسرائيليين.

حُوّل نبيه إلى سجن بئر السبع المخصص لمن هم تحت الثامنة عشرة. التقى فتيانا فلسطينيين، من سن الثالثة عشرة الى ما دون الثامنة عشرة بقليل. هؤلاء كانوا أسرى الانتفاضة الأولى. كانوا نحو خمسين ولدا وشاباً ينامون في غرفة واسعة وينضوون في مجموعات كل بحسب انتمائه. يتبدلون معظم الوقت. نبيه انضم إلى عناصر «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، بينما كانت هناك مجموعات لكل من «فتح» و«الجهاد الإسلامي» وغيرهما من التشكيلات والفصائل الفلسطينية.

هذه التقسيمات ليست تفصيلاً عابراً. الحركة الوطنية الأسيرة هي حكومة عابرة للمعتقلات الإسرائيلية. تنظم حياة الأسرى السياسية والفكرية والاجتماعية. تسن القوانين وتبعث بالرسائل الشهيرة بين المعتقلات. هذه التي تضغط في كبسولات يبتلعها أسير منقول من معتقل إلى آخر، فيها معلومات وأوامر جديدة، وكل ما يحتاج اليه هذا العالم الذي يظنه الجاهل به مكاناً لليأس والانتظار فحسب. نيرودا صار جزءاً من هذه الدولة الاسيرة وكان حلمه أن يكبر كي ينتقل من بين الاولاد إلى حيث الرجال.. الى عسقلان.

قبل اربعة ايام من عيد ميلاده الثامن عشر، في العام 1990 نقله الاسرائيليون إلى حيث أراد.

[[[

الفتى كبر في السجن. فرح بلقاء رفاقه الثلاثة من جديد. وفرح أكثر ما فرح بأنور ياسين. قرأ كتباً وخاض في نقاشات حول كل شيء. ارتبط بفلسطين لا كقضية بعيدة، بل كيوميات. في المعتقل كان فتى فلسطينياً يكبر ويخوض النضالات ويحبط لاتفاق أوسلو. وكان لبنان بعيداً. نادرا ما عاش أحلام يقظة يلتقي فيها أمه وأخوته والرفيق جورج حاوي. وما حدث لاحقاً لن يشبه كل أحلام يقظته حول حريته. لم يعرف شقيقه محمد الصغير، الزميل المصور الصحافي الملقب بأيوب بعدما صار عملاقاً إلا بعدما اخبره أنه شقيقه. حينها طلب منه أن يعود إلى الوالدة ويساعدها، هي التي سقطت أرضا بعدما حضنته من نافذة الباص.

كان يوماً مجنوناً يوم التبادل في 26 حزيران 1998. بشر من كل حدب وصوب. رقص نبيه مع والدته، وانتظر حتى اليوم التالي حتى زاره جورج حاوي. أبو أنيس الذي لم يكن حينها ذا مركز في الحزب، كان عليه أن يجيب عن سؤال الأعوام العشرة: لماذا توقف الحزب عن المقاومة يا رفيق أبا أنيس؟

كانت الاسباب كثيرة.

الآن ما زال نيرودا عيثرون في عسقلان تمر الاعوام عليه. وما زال على حماسته وضحكه ومزاحه. هل عرف حياة أخرى خارج السجن؟ بالطبع. وإلا، فكيف عرف الجميع في هذا المكان الذي يعيش على الحكايات برنا، وبتجربة جنسية يتيمة للفتى في أحد بارات الحمرا؟ كيف تحكى الحكايات، وتعاد، وتكبر، وتصير احلاماً تمر من ذهن إلى ذهن؟ الشاعر كبر وصار أكثر ثقافة. ليس مصنعاً للرجال هذا المكان. إنه مصنع للمعرفة وللمشاعر.

حين قفز عن الثانية والعشرين بدأ وقته يطول. وصار في حياته يعيش خارج المعتقل أكثر مما يعيش فيه. إنه يكبر، ويهدأ. يصير رجلاً، غير أنه يحفظ ضحكته كما هي، ضحكة ولد. ستطبع ملامحه إلى الابد.

هل مرت الأيام بسرعة؟ الفتى خرج في العام 1998، أي قبل 11 سنة. الذكرى نفسها باتت قديمة، وهو إذ يحكيها، يقول إنه ليس بطلاً. إنها الصدفة، تجعل منه اسيراً بينما غيره شهيد. بينما أبطال كثر خاضوا معارك لا تحصى، ولم يعرف بهم أحد. هو اذ يروي حكايته، يصر على التذكير بالقضية، وليس بنفسه. المقاومة. هذه قضية اختمر فهمه لــها في سنوات الاعتقال. هناك عرف أكثر كارل ماركس وفلاديمير ايليتش لينين، وسمع للمرة الأولى بعبارة مثل «الرأي الآخر».

المواطن الناشط سياسياً نبيه عواضة، المعترض على سياسات الحزب الشيوعي قبل اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وبعده، فكر كثيراً حين طلب منه ان يلقي خطاباً في يوم 14 آذار 2005. لم يقبل الصفة غير المعلنة التي ستخرجه إلى المنبر: شيعي مقاوم. هو شيوعي أصلاً، وهو ليس بوارد ان يكون حجة طرف سياسي ضد مقاومة شيعية. رفض ان يتحدث ولم نره على منبر 14 آذار، وبعد اغتيال جورج حاوي، سيعرف أن طرفي لبنان وجهان لعملة سياسية طائفية واحدة. لم يعد إلى الحزب الشيوعي، ولم ينضم الى يسار 14 آذار الديموقراطي. جعله معتقله نقدياً. هذا مكسب هائل. مكسب آخر تحقق له في حريته: عائلته. فيتنام، زوجته، واطفاله، التوأم الكسي (على اسم رفيقه الشهيد) وتالا وهما في السابعة، وبترا ابنة السنة والاشهر السبعة.

نيرودا عيثرون سيعود مواطناً عادياً لحظة يدخل لبنان، لكن ليس قبل ان يُضرب ورفاقه في كل المعتقلات مرتين عن الطعام، في المرة الاولى لخمسة عشر يوماًً، وفي الثانية لستة عشر يوماً نقل فيها الى العيادة بعدما انهار جسمه. ليس قبل ان ينتفض المعتقل مرة وتطلق الى زنزانة نبيه قنبلة غازية يختنق بها، وحين يتداوى يخرج منه مرض الربو المزمن ولا يرجع. ليس قبل أن يسمع عبر «صوت الشعب» اسمه ورفاقه الثلاثة من بين الأسرى الذين تم التوافق على تبادلهم. يخجل نبيه من التعبير عن الفرح امام أنور ياسين، لكن أنور سيكون فرحاً بشدة لرفاقه. الأسير الباقي أقوى من المحرر، يقول نبيه. في لحظته تلك، يدفعه عناده إلى الأمل. يكون المحرر ضعيفاً، بينما الباقي يكون صلباً قوياً.

«يللا باي باي»، هكذا ودع عسقلان. عانق أنور بسرعة، وربما لم ينظر في عينيه. كأنه كان يهرب. ولما ناداه لم يلتفت. لم يكن يريد أن يتركه خلفه، فتجاهله.

وفي تحقيق أخير في نقطة قريبة من حيث سيفرج عنه، عند الحدود، دخل غرفة فيها ثلاثة ضباط يجلسون أمام طاولة عليها أنواع فاكهة كثيرة. كان أحدهــم مبتـسماً: ما لقبك في الحزب.

ـ نيرودا.

ـ من مسؤولك في الحزب؟

ـ جورج حاوي.

ـ نيرودا؟ مكتوب هنا انك تحب لقبك. لماذا؟

ـ لأنني أحب كتابة الشعر.

ـ قبل عــشر ســنوات أتيت من اجل أن تقوم بعملــية. اخــبرنا ما الــذي كــنت تنوي عليه؟

هذا سؤال يعيد نبيه عواضة إلى لحظة التحقيق الأولى، والضرب والكابوس المتصل. أجابه: قانونياً لا يحق لك أن تسألني، لأنني حوكمت خمسة عشر عاما بناء على هذا السؤال.

ـ هل ستعود إلى محاربتنا؟

ـ طالما الاحتلال باق فالمقاومة مستمرة.

قال الضابط بالعبرية: أتيت إلينا مخربا صغيرا وها أنت تخرج مخرباً كبيراً.

بالعبرية أجابه نيرودا: شكرا جزيلاً.

عاد الضابط إلى العربية داعيا نبيه إلى تناول فاكهة: ألا تريد أن يكون بيننا خبز وملح؟

أجابه: ولا بطيخ ولا اجاص.

[[[

صعد الفتى إلى باص الصليب الأحمر بعدما فُكت أغلاله. جلس إلى الكرسي وفتح النافذة. اعتدل في جلوسه نافخاً صدره. طوى ذراعه ووضعها فوق النافذة. انطلق الباص إلى لبنان. الرحلة انتهت.

إحدى رسائله من الأسر إلى والدته
إحدى رسائله من الأسر إلى والدته


 نبيه عواضة في العام 1986
نبيه عواضة في العام 1986


تعليقات: