على جبل حرمون ودّيني...

الرقص المحموم يغلب التأمل والسكون
الرقص المحموم يغلب التأمل والسكون


لمناسبة «عيد التجلي»، شهدت قمة حرمون حفلة شبابية صاخبة من حيث الرقص المتنوع وحلقات الدبكة التي عقدت على ارتفاع ألفي متر، وحتى موعد شروق الشمس الذي ذهب المشاركون ليتأملوا فيه، فإذا بهم يحولون المناسبة الدينية التي تحتفي بالسكون إلى «عيد» صاخب أتاح لهم المرح والتعارف

احتضن جبل حرمون، لمناسبة «عيد التجلي»، حفلاً صاخباً على إيقاعات مختلفة، نضحت بها تجهيزات الصوت الضخمة، التي بثّت موسيقى تنوعت بين غربية وعربية لأكثر من خمس ساعات في ذلك الفضاء الوعر بسبب الطقس المسيطر عليه. أما رواد الرقص و«الهزّ» فشبان وصبايا قدموا من مختلف المناطق اللبنانية «ليحتفوا ويتعارفوا خارج الطقوس الدينية التي ترافق عيد التجلي» كما ردد بعضهم.

جاوز عديد الشباب الصاعد نحو قمة حرمون الحشد المتوقع من الجهات المنظمة للرحلة السنوية، في بلدية راشيا الوادي، إذ أحصي ما لا يقل عن ألف ومئتي شاب وصبية، من بين نحو ألفين قصدوا الجبل، هذا العام، بمناسبة عيد التجلي، المنظم من البلدية للسنة السابعة على التوالي، ما أربك المنظمين الذين وضعوا ترتيبات لاستقبال نحو 500 شخص اعتادوا المشاركة خلال السنوات الماضية. معظم المشاركين من الشبان الذين غصت بهم الباحة المخصصة للاحتفال، والتي شهدت، قبل ساعة من انعقاد السهرة، قداساً دينياً.

بات الشاب فريد كمال من بلدة راشيا الوادي ينتظر المناسبة التي لا تنعقد إلا في مطلع شهر آب من كل عام «بفارغ الصبر، إذ من خلالها، صار عندي العديد من الأصحاب والمعارف في مختلف المناطق اللبنانية التي ربما لم أكن لأزورها أو تخطر ببالي».

ليس فريد الوحيد من شبان راشيا الذي يصعد إلى الجبل «ليس لممارسة الطقوس الدينية التي تعني الطوائف المسيحية بما أنني أصلاً من الطائفة الدرزية» كما يشرح، بل لممارسة «طقوس الفرح والرقص والتعارف وتبادل أحاديث الإعجاب والغزل».

فخلال السنوات الماضية، وبعد مرور عامين على التحرير، بدأت بلدية راشيا تنظم هذا التسلق الموسمي إلى قمة الجبل، ممهدة لذلك بطريق غير معبدة بطول 15 كيلومتراً من الصعود المتواصل حتى ارتفاع ألفي متر. هناك، يقيم المنظمون مخيماً في باحة تبلغ نحو أربعة دونمات، يتخلله قداس وسهرة شبابية، تستمر حتى منتصف الليل. وبعد سبات وراحة قليلين، تنطلق عند الثالثة فجراً مسيرة تسلّق راجلة على طريق وعرة حتى ارتفاع 2800 متر، هي قمة الجبل، ليشهد الواصلون شروق الشمس من خلف الصحراء وليفي بعض المسيحيين منهم نذورهم الدينية. ولأن معظم الشبان في راشيا قصدوا هذه القمة أكثر من مرة، لم يعد يعني معظمهم من الرحلة سوى جزئها الأول، المتعلق بعقد اللقاءات مع شباب وصبايا آخرين، والرقص المحموم «المتحرر من قيود المذاهب والطوائف وحتى الأحزاب والقوى المتناحرة سياسياً التي جعلت أبناء البلد ينقسمون بحسب مللهم ومناطقهم» كما يقول أحد المشاركين، قيس صديق فريد، مضيفاً «هنا، لا أحد يسأل أحداً إلى أي حزب تنتمي أو إلى أي مذهب؟ المهم في اللقاء الفرح والرقص».

أتت رانيا وابنة عمها نيفين مع ذويهما من مدينة صور للمشاركة. «أقام أهلنا سهرتهم في جوار خيمة نصبوها في المكان، وأتينا نحن للمشاركة في الحفلة الشبابية الراقصة؛ لم أشعر مرة بحرية في ما أفعل أكثر من اليوم، هنا لا قيود ترتبط بالأصدقاء العاديين، أو «قيل وقال»، بل أرقص أنا وابنة عمي من أجل الرقص والمرح، لا ضير من وجود وجوه حولنا لا نعرف عنها شيئاً، ولا ضير كذلك من أن نتعرف إلى شبان لم نعرفهم سابقاً، المهم أن لا شيء في المكان خارج على القانون أو الآداب»، كما تقول رانيا.

فسحة الأمل: مرح خارج السياسة

فوجئ رئيس بلدية راشيا الوادي زياد العريان «بهذا الحشد من المشاركين، وخصوصاً بحجم مشاركة الشباب. فالمناسبة هي محطة لقاء لكل اللبنانيين التواقين إلى الفرح بعيداً عن الشحن السياسي والمذهبي؛ وربما الشباب، هم المتضررون أكثر من غيرهم مما يحصل في البلد، لذلك هم يبحثون عن أجواء المرح والرقص والاحتفاء، وقد وجدوا في قمة جبل حرمون ضالتهم».

أضاف: «ليس كل من يصعد الجبل يقوم بذلك من أجل ممارسة الطقوس الدينية. زوّارنا هم من الدروز والشيعة والسنة ومختلف المذاهب المسيحية. ونلمس ألفة رائعة بينهم، ما يجب أن يحفّز القيادات على أن يرحموهم ويتيحوا لهم فرص الفرح واللقاء بعيداً عن السياسة».

لرقص المحموم يغلب التأمل والسكون

ثمة تناقض بين أجواء القداس الديني الذي يحصل عصر الخامس من آب، وبين أجواء الصخب والرقص التي تليه على يد الشباب التواق للـ«فرفشة»

يفرض الشباب على رحلة التأمل والسكون أجواء الصخب التي تحمل ما تحمله من كلام في الغزل والغرام والتعارف، والتواعد، لتصبح أجواء رحلة التأمل أشبه بأجواء «نايت كلوب» مفتوح على السماء، يبدو أنها تعوض عن النقص الواقع على الشباب المشاركين الآتين من بلدات وقرى مجاورة تسيطر الحياة الريفية الهادئة عليها. لذلك، بات شبان راشيا والجوار يتزاحمون على المشاركة في الحدث فرادى وجماعات عبر وسائل نقل تؤمنها البلدية لقاء مبلغ من المال بلغ هذا العام 25 ألف ليرة، يسدد للبلدية في مقابل تأمين النقل والخيم والمياه والخدمات والطعام للمشاركين.

على خط مواز، باتت المناسبة تحفّز صبايا المنطقة على الصعود هنّ الأخريات، نحو الجبل، لكي لا يفسحن في المجال أمام الحسناوات الآتيات من أماكن بعيدة في اقتناص قلوب شباب المنطقة.

يشير المشرف على تنظيم الرحلة، كمال الساحلي، إلى المسجلين قبل الرحلة «لم يتجاوزوا الـ700؛ وإذ بعدد الواصلين إلى هنا يفوق ألفي شخص، أكثرهم من الشباب، ما ضاعف من مسؤوليتنا. ومع ذلك فقد فرضت انضباطية تلقائية نفسها على الجميع، بالرغم من وجود بعض المشروبات الكحولية؛ لكن حادثاً صغيراً واحداً قد يعكر صفو اللقاء لم يسجل على الإطلاق، وهذا إن دلّ على شيء، فعلى وعي الشباب وحرصهم على إنجاح طقوس اللقاء ورغبتهم في التعبير عن حاجاتهم المكبوتة للترفيه. أصلاً إن أي حفل مشابه ربما لم يكن ليحصل في أيٍّ من بلدات المنطقة، على هذا النحو من العفوية والتلقائية والسلام».

مرح يعوّض عن شباب القرى المحيطة

ورغم ثناء الساحلي على مسؤوليّة الشباب المشاركين ووعيهم، إلا أنه لا ينكر ورود بعض الشكاوى إليه من مشاركين «أرادوا للمناسبة أن تظل فرصة للتأمّل والصلاة. فهؤلاء، ربما انزعجوا من أجواء الرقص والصخب والدبكة التي شارك فيها الشباب من الجنسين، لكن في ظل هذا الحشد الشبابي الذي له أحلامه ورغباته وتطلعاته لا يمكن أن نفرض على الجميع أجواء إيمانية أو طقوساً دينية، بل إن أجواء البرد التي تبدأ بالتسرب إلى المكان مع حلول المساء والليل، وما يحيط بنا من رهبة في هذا الجرد المفتوح على الفراغ والفضاء، تتوجب علينا إيجاد فرص للنشاط الجسدي المتمثل بالرقص والدبكة للشباب، وتفعيل التعارف والحوارات لنسيان ما يحيط بالموجودين».

ويتحدث الساحلي عن نواقص «واجهت هذا الكمّ الهائل من الناس ينبغي علينا تداركها في المرات المقبلة، وخصوصاً أن من شارك هذا العام في الحلقات المنعقدة من الرقص والدبكة والبهجة، لن يأتي المرة المقبلة وحده. ونجد أن هذه المناسبة باتت مثل كرة الثلج التي تكبر عاماً تلو عام، ويذيع صيتها نحو مختلف المناطق اللبنانية، ونحو خارج الوطن، ما يجعل المسؤولية علينا مضاعفة. يعني في المرة المقبلة يجب أن نوسع باحة الرقص والدبكة، وإيجاد المزيد من المراحيض، وتفعيل مقومات السياحة؛ وإطلاق حملة توعية تدفع بالشباب نحو الحفاظ على البيئة المحيطة، وخصوصاً أن بعض النباتات الصلبة النادرة تتعرض من بعض الشبان المتهورين للحرق، ربما لأن النار هنا تبدد بعض المخاوف ويترك الضوء المنبعث منها طمأنينة في النفوس».

فوق قمة حرمون (الأخبار)
فوق قمة حرمون (الأخبار)


تعليقات: