سياسة مصرف لبنان التشجيعية حرّكت السوق العقارية

حركة بناء ناشطة في مختلف المناطق. وشقق سكنية لمن يرغب
حركة بناء ناشطة في مختلف المناطق. وشقق سكنية لمن يرغب


المصارف تتنافس على إقراض الطامحين إلى امتلاك شقق سكنية

حركة بناء ناشطة في مختلف المناطق. شقق سكنية لمن يرغب.

تتزاحم الاعلانات المصرفية داعية المواطنين الى الافادة من القروض السكنية. المنافسة تبدأ هنا، في الطرق وعبر اللوحات الاعلانية المنتشرة في طول البلاد وعرضها. "فائدة مُخفضة، فائدة 0%، تملك شقة من دون دفعة اولى، تملك الآن وقسّط بعد سنتين"... هذه بعض الاغراءات التي تتنافس المصارف في تقديمها، لجذب الطامحين الى تملك شقق سكنية من طريق الحصول على تسهيلات مصرفية لم تكن شبه مستحيلة فحسب، بل كان مجرد التفكير فيها امراً مستهجناً، يدفع الى اتهام صاحبه بالجنون. ما سر هذا "الكرم" المصرفي؟ ولماذا اصبح المصرف يطارد الزبون ليقرضه المال، بعدما كان الزبون يعاني الأمرّين للحصول على قرض سكني؟

تعيش البلاد فورة عمرانية لا مثيل لها، ولا تقتصر هذه الظاهرة على منطقة معينة او مدينة محددة، بل تطال كل رقعة صالحة للبناء اينما وُجدت، ساحلا أو جبلا أو جردا. الاسباب باتت معروفة وشائعة، وترتكز في شكل اساسي على وجود طلب كبير محلي واجنبي على التملك، ادى الى عدم تأثر سعر العقار في لبنان، رغم الأزمة المالية التي عصفت بالعالم وارخت بثقلها على القطاع العقاري، منطلق الازمة وأحد اسبابها الرئيسة. واذا كانت رغبة الاجنبي، وتحديدا الخليجي، التملك في لبنان قديمة ومرتبطة بالمناخ المعتدل والطبيعة الخلابة، كما يُشاع، فأن اللبناني سلك هذه الدرب مجبرا في بادئ الامر، ثم ما لبث ان اصبح التملك ضرورة لا مفر منها في ظل ارتفاع ايجارات الشقق السكنية، بعدما حرّر قانون الايجار الاخير الايجارات وحولها عقودا استثمارية لمدة ثلاث سنوات لا تتجدد الا وفق رغبة المالك وضمن شروطه التي تشمل رفع قيمة الايجار في شكل استنسابي.

كان تملُّك شقة طموحا بعيد المنال بالنسبة الى السواد الاعظم من اللبنانيين، ولا تزال هناك عائلات كثيرة لا تملك مسكنا خاصا بها مستفيدة من اقامتها في شقق استأجرتها قبل ردح من الزمن، واصبحت اليوم ايجاراتها زهيدة جدا لا تتجاوز بضع مئات الألوف من الليرات اللبنانية سنويا، وخصوصا انها لا تزال تخضع لقانون الايجار القديم الذي يمنع المالك من رفع الايجارعلى هواه وتحديده بالعملة الصعبة. غير ان أعداد هؤلاء تتناقص يوما بعد يوم في ظل إفادة المالك من قانون الايجار الجديد، الذي يسمح له بالطلب من المستأجرين اخلاء المسكن في حال اراد اسكان احد افراد عائلته فيه، او هدم المبنى وانشاء بديل منه، مقابل دفع تعويض مالي يحدد القانون قيمته. بمعنى آخر، لا يحق للمالك ان يستبدل مستأجراً قديما بآخر تنطبق عليه حكما شروط قانون الايجار الجديد، والا فرغت كل الشقق من قاطنيها القدامى لمصلحة مستأجرين جدد يدفعون بالعملة الصعبة.

عزّز هذا الواقع الرغبة في التملك، علما ان امتلاك مسكن ليس مسألة شخصية، بل قضية تكتسب ابعادا قومية ووطنية، وتساهم في تحقيق الامن السياسي، وفق رئيس مجلس الادارة، مدير عام مؤسسة الاسكان السابق انطوان شمعون، الذي يؤكد ان "المسكن يزيد من تمسك المواطن بأرضه، لأن من لا يملك مسكناً وليس عنده ما يخسره يمكن شراؤه ببضع ليرات. والاهم من هذا كله، يؤثر امتلاك المسكن ايجابا في اقناع المغترب بالعودة الى وطنه، في حين يسهل دفع المواطن الى الرحيل عن موطنه وعدم التفكير في الرجوع ما لم يملك بيتا. ولا تقتصر اهمية امتلاك مسكن عند هذا الحد، بل تتعداه الى أبعاد اجتماعية وانسانية، وخصوصا انها تلعب دورا مهما في تأمين الاستقرار الاجتماعي وتضييق الهوة بين الطبقات الاجتماعية المختلفة، والتخلص من تبعات العلاقة بين المالك والمستأجر، من دون إغفال الفائدة الكبيرة التي يجنيها الاقتصاد جراء حركة العمران، وخصوصا انها تؤدي الى تشغيل عدد كبير من القطاعات التي تدخل في صناعة البناء".

وعندما يكون المسكن على هذا القدر من الاهمية، لا بد من ان يزداد الطلب عليه. من هنا، يعتبر شمعون "ان الحركة التي تشهدها السوق العقارية منذ بضعة اعوام دليل عافية وليس العكس. وجاءت سياسة القروض المصرفية، في الشكل الذي اتخذته في الآونة الاخيرة، لتدعم هذا الواقع وتعززه، فبدا الامر وكأنه فورة غيرعادية، علما ان ما لم يكن عاديا هو الحقبة التي سبقت ما عرف بفورة القروض السكنية، التي تميزت بصعوبة الحصول على هذا النوع من القروض وفق التسهيلات المتوافرة حاليا".

الدولة - الحمّال

لم يكن الحصول على قرض سكني مسألة سهلة قبل عقد من الزمن، في ظل عدم وجود تمويلات طويلة المدى للقروض السكنية تفيد منها الطبقة الوسطى واصحاب الدخل المحدود. وأثر هذا الواقع سلبا في تطور القطاع العقاري، الذي ارتكز لمدة طويلة على تمويلات قصيرة المدى، علما ان التمويل الحقيقي كان محصورا آنذاك بالقطاع الخاص، مما جعل تملك الشقق حكرا على ابناء الطبقة الميسورة في ظل قدرات الدولة الضئيلة جدا.

ويصف شمعون الدولة في حينه"بالحمّال الذي كان عليه ان يتحمّل وحده العبء المالي للقطاع السكني بما يغطي حاجات اصحاب الدخل المحدود، علما ان الدولة لم تكن قادرة على تحمل هذه الاعباء، وحتى لو اعتبرنا انها كانت كذلك ، فقد شاخت الآن وهرمت".

انقلب هذا الواقع رأسا على عقب اعتبارا من العام 2000، وبات المواطن يشكل، مع القطاعين العام والخاص، الهرم الذي ترتكز عليه نظرية القروض السكنية. ويشرح شمعون مفهومه لهذه المعادلة الجديدة مشيرا الى ان "المواطن يقبل على التملك في شكل لافت، ولكنه لا يملك المال الكافي. القطاع العام لايملك بدوره المال ليقرض المواطن ويحقق طموحاته في التملك، في حين يشكو القطاع المصرفي من كثرة الاموال. وكان لا بد من حل هذه المعضلة من خلال تحول القطاعين العام والخاص الى شريكين في عقد اجتماعي، وليس فريقين في عقد تجاري". ويشير شمعون الى ان "بروتوكول التعاون والشراكة بين القطاعين العام والخاص انتج حلاً لعقدة التمويل على المستوى السكني، وخصوصا ان العمل المصرفي يقوم على ركيزتين اساسيتين، هما جمع الاموال الطليقة في السوق اولا، وتوظيفها ثانيا".

مما لا شك فيه ان استقرار العملة اللبنانية لعب دورا كبيرا في تشجيع المصارف على الاستثمار بالليرة، ما ساهم الى حد بعيد في ايجاد آلية عمل تنطلق منها سياسة القروض المصرفية. ولكن ثمة اسباب اكثر اهمية سمحت للقروض السكنية بان تشق طريقها قدماً، لتصبح المنافسة بين المصارف على جذب الراغبين في تملك شقق سكنية العنوان الابرز في القطاع المصرفي.

لعبت المؤسسة العامة للاسكان دوراً رئيساً في هذا الاطار، بعدما فتحت الباب واسعا امام الموظفين للحصول على قروض سكنية طويلة الامد وبالليرة اللبنانية. وليس جديدا القول ان المؤسسة ساهمت في شكل كبير في تحريك السوق العقارية ومفاقمة الطلب على الشقق، بعدما اصبح بامكان الموظفين وابناء الطبقة الوسطى التملك من خلال الحصول على قروض ارتفع سقفها منذ مطلع السنة الحالية الى 180 مليون ليرة لبنانية، بعدما كان الرقم يقتصر على 120 مليون ليرة، على الا يتجاوز دخل المقترض 3 ملايين ليرة.

بدوره دخل مصرف الاسكان حلبة القروض الميسرة بالليرة اللبنانية اعتبارا من العام 2000، ووسّع مروحة الذين يفيدون من خدماته لتطال المغتربين وليس المقيمين فحسب، اذ تشير احصاءات المصرف الى ان دخل المغتربين يوازي 4 الى 5 اضعاف دخل المقيمين. ويلفت رئيس مجلس الادارة، المدير العام لمصرف الاسكان جوزف ساسين الى ان" 60 في المئة من الطلبات المقدمة الى مصرف الاسكان تعود للبنانيين يعملون في الخارج، علما ان بينهم من يسدد ثمن الشقة نقدا".

دخل مصرف الاسكان بدوره، إذن، ميدان السباق، واطلق قبل حين عرضا مغريا، واكبته حملة اعلانية كبيرة احتلت اللافتات على الطرق العامة، وفيها يعلن المصرف اطلاق برنامج اقراض مدعوم ينطبق على القروض السكنية الجديدة بالليرة اللبنانية بمعدل فائدة قدرها 4،99 في المئة سنويا من دون اي عمولة اضافية.

وبدأ تطبيق هذا البرنامج اعتبارا من 21-8-2009 على ان ينتهي العمل بموجبه في 30-6-2010.

ولم تتأخر المصارف الخاصة عن حجز حصتها في السوق، فاغدقت على المواطنين عروضا لا تقاوم. منها من وعد بتقسيط الدفعة الاولى التي على اي راغب في التملك ان يؤمنها، ومنها من الغى العمولة التي يتقاضاها المصرف عادة وتراوح قيمتها ما بين نصف وواحد في الالف، وثمة مصارف قدمت ايجار الخبير المولج تخمين قيمة الشقة مجانا. والمفارقة، ان المنافسة بين المصارف الخاصة لم تهدف الى جذب الزبائن للاقتراض من المصرف مباشرة فحسب، بل طالت ايضا اولئك الذين يقترضون بواسطة المؤسسة العامة للاسكان. اذ كما هو معلوم، على هؤلاء ان يتولوا تأمين المصرف الخاص الذي يمول قرضهم في حال استوفوا قائمة الشروط الخاصة بالمؤسسة.

"كرم" مصرفي

لهذا "الكرم" المصرفي اسبابه، التي يشرحها ساسين مؤكدا ان "تنفيذ برنامج خفض الفائدة على القروض التي يمنحها مصرف الاسكان لم يكن ممكنا، من دون مساعدة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي بادر الى خفض الاحتياط الالزامي لكل مصرف يمنح قرضاً تمويلياً لمصرف الاسكان بنسبة 80 في المئة، ما ادى الى خفض كلفة موارد المصرف في صورة ملحوظة وأتاح امامه فرصة اطلاق برنامجه، بعدما كانت كلفة القروض التمويلية التي يوقعها مصرف الاسكان ويدعمها من موارده الخاصة، عالية. وكان المصرف يتحمل من موارده الخاصة ايضا رسوم التسجيل العقاري عن ذوي المداخيل العائلية التي لا تتعدى 10 اضعاف الحد الادنى للاجور، اي ما يوازي خمسة ملايين ليرة لبنانية" .

وما ينطبق على مصرف الاسكان يسري على المصارف الخاصة، اذ بهدف تحفيز نشاط الاقراض السكني وتعزيز الدورة الاقتصادية، عمد حاكم مصرف لبنان اعتبارا من 30/05/2001 الى السماح باستخدام نسبة محدودة تراوح ما بين 3 الى 4 في المئة من الاحتياط الإلزامي المفروض على المصارف التجارية الذي يصل الى نحو 15 في المئة، على ان ترتفع نسبة الاستخدام المسموح بها الى 80 في المئة اذا كان الهدف تمويل القروض السكنية عبر مصرف الاسكان، وتنخفض الى 60 في المئة في حال تولت المصارف الخاصة تمويل القروض السكنية مباشرة او بواسطة المؤسسة العامة للاسكان. اما النسبة المتبقية، فتتولى المصارف تمويلها من مواردها الخاصة.

انعكست مبادرة حاكم مصرف لبنان تنشيطا للسوق الذي كان يحتاج الى القروض المدعومة لينطلق في تلبية حاجات اصحاب الدخل المحدود. ولكن ثمة اسباباً اخرى لا تقل اهمية لعبت دورا بارزا في هذا الاطار وهي، وفق ما يؤكد ساسين، " تدفق الاموال بالعملات الاجنبية الذي لا يزال يشهده لبنان رغم الازمة المالية العالمية، اذ انه نظراً الى الفارق في المردود ما بين الودائع بالعملة الاجنبية والودائع بالعملة اللبنانية، نشأت حركة تحويل لافتة من العملة الاجنبية الى اللبنانية، ما انتج سيولة كبيرة وجب تصريفها عبر القروض السكنية وسواها. كما ارتفعت، في المقابل، نسبة الودائع المصرفية خلال العام 2008 بنسبة15%، وحافظت على وتيرتها من دون التأثر بتداعيات الازمة المالية العالمية، ما ادى الى ارتفاع احتياط مصرف لبنان الى 25 مليار دولار".

من نافل القول، ان التملك العقاري مسألة حيوية لا بد من ان تساهم الدولة في تطويره وخصوصا انه يشكل، مع التعليم والصحة ونظام التقاعد الركائز الاساسية لتكوين النظم الاجتماعية التي على اساسها يُبنى المجتمع. هذا ما يؤكده وزير المال السابق جهاد ازعور، مشيرا الى ان "هناك مسألتين اساسيتين لا بد من اخذهما في الاعتبار عند مناقشة القروض السكنية، وهما تأثير القروض المصرفية على القطاع العقاري اولا، وعلى وضع المقترضين على المستويين المالي والاجتماعي ثانيا. لذا، لا بد من ان يرافق تطور القروض السكنية والفردية عموما، نظام ادارة أخطار للحؤول دون افراط المواطن في الاستدانة، كما يجب وضع ضوابط على مستوى التملك العقاري تجنب البلاد خوض تجربة المضاربات العقارية التي دفع ثمنها عدد كبير من اقتصادات دول العالم".

يشكل امتناع المصرف عن تغطية كامل ثمن الشقة، على ان يتكفل المُقترض تأمين جزء من ثمنها، احد الاساليب الناجعة التي من شأنها ان تؤمن الحماية اللازمة للجهة المُقرضة بما يتيح لها المحافظة على قدرتها في الإقراض. ولكن هذا الاجراء، على اهميته، لا يكفي وحده، ويعتبر ازعور انه "لا بد من تطوير سياسة الاقراض من خلال اعتماد سياسية تحفز المواطن على الادخار وتضاعف قدرته على التملك. وهذا ما يُعرف بالادخار العقاري الذي يسمح للمواطن من خلال المال الذي يدخره في المصرف، ان يدفع الجزء المتوجب عليه من ثمن الشقة نقداً . ويتطلب تطبيق هذه السياسة تعاونا ما بين جمعية المصارف ومصرف لبنان، والدولة في حال كانت شريكا في نظام الاقراض. ومن شأن سياسة الادخار هذه ان تتيح للمصرف تأمين ودائع مستقرة تقلل من الاخطار جراء الفوارق ما بين الودائع القصيرة المدى والقروض الطويلة المدى".

ورغم اعتبار ازعور سياسة الاقراض جيدة في مجملها، فهو يسجل تحفظا واحدا يتعلق بضرورة "تحديد سقف للقروض حتى يتوزع الدعم على اكبر فئة من المواطنين، على ان يكون المستفيد الاول من يملك قدرة مالية اقل". في المقابل، يلفت ازعور الى " اهمية وجود آلية مراقبة على سياسة الاقراض في ظل ارتفاع حجم محافظ القروض السكنية في المصارف ".

ولعل اهم نقطة يثيرها ازعور هي تلك التي تتعلق بتشجيع" الايجار التملكي الذي يعود بفائدة كبيرة على المواطنين، والشباب خصوصا، الذين لا يملكون القدرة على تأمين دفعة اولى من ثمن الشقة، اذ من شأن هذه السياسة ان تساعدهم في شراء مسكن لهم".

في ظل هذا الطلب الكبير على التملك وتنافس المصارف على تقديم القروض المغرية للراغبين، اي منطق يقول ان اسعار العقار في لبنان ستتراجع، وان اثمان الشقق السكنية ستنخفض؟!.

تعليقات: