اليونيفيل والناس يهجّرون السلاحف إلى «بحر الأمان»

ينتهي هذا الشهر موسم وضع السلاحف البحرية لأعشاشها
ينتهي هذا الشهر موسم وضع السلاحف البحرية لأعشاشها


لم يكن موسم إباضة السلاحف البحرية على الشاطئ الجنوبي على قدر آمال المهتمين القليلين بها في لبنان. ففيما تتكاثر الأخطار المحدقة بها، تجهد مواليدها للإفلات من المتربّصين بها، مكافحةً للوصول إلى «بحر الأمان»

صور:

ينتهي هذا الشهر موسم وضع السلاحف البحرية لأعشاشها على بعض شواطئ العالم، ومنها الشاطئ الجنوبي في لبنان، في مناطق البقبوق وصور والمنصوري والقليلة. يبدأ الموسم عادةً في شهر حزيران وينتهي في تشرين الأول من كل عام، ويشهد الشاطئ الرملي في هذه الفترة قبل انتصاف الليل وحتى بزوغ الفجر، إقبالاً من سلاحف بالغة، يزيد عمر بعضها على الثلاثين عاماً، وقد يصل عمر بعضها الآخر إلى أكثر من مئة عام.

وتفيد البحوث العلمية أن الـ45 عشاً، التي وضعتها السلاحف هذا العام على شاطئ المنصوري، تعود إلى سلاحف كانت قد وضعتها أمّاتها في المكان ذاته. فالسلاحف ترسل إشارات مغناطيسية لتحفظ المكان. وإذا كان كل عش يضم من 90 إلى 100 بيضة، فإن عدداً صغيراً منها يخرج إلى النور في غضون 4 أيّام إلى 60 يوماً.

وإذا كانت سواحل تركيا واليونان وقبرص وليبيا وفلسطين المحتلة ومصر وتونس تستقبل السلاحف السوداء “كاريتا” (Caretta)، فالشاطئ الجنوبي يستقبل النوع الأخضر النادر، منها سيلونيا (Chelonia) الذي يعود سبب ندرته في العالم إلى اصطياد بعض الشعوب له، اعتقاداً منهم بأن تناول دمه أو لحمه يجعلهم أقوياء.

تظهر دراسات قامت بها جمعيات متخصصة، بالتعاون مع وزارة البيئة منذ عام 2001، أنّ أعشاش السلاحف البحرية موزعة على الساحلَين الشمالي والجنوبي. ويتميز الشاطئ الجنوبي بوجود سلاحف بحرية من النوعين فيه، وغياب الضغط السكاني لعقود طويلة عنه بسبب الاحتلال الإسرائيلي. واستناداً إلى نشرة المجموعة البريطانية للسلاحف الخضراء لعام 2005، فإنّ السلاحف السوداء تضع ما معدّله بين 37 إلى 70 عشاً في الموسم الواحد، فيما تضع الخضراء ما يصل إلى 16 عشاً. كما تؤكد الملاحظات الميدانية أنّ شاطئ المنصوري الممتد بطول 1.4 كلم، هو المكان الأفضل لوضع السلاحف البحرية أعشاشها، بسبب ابتعاد المتنزّهين عنه. وكذلك شاطئ البقبوق الممتد بطول 1.67 كلم، ومحمية صور الطبيعية الممتدة بطول 1.71 كلم جنوباً، إضافةً إلى جزيرة الأرانب في طرابلس.

أبرز ما ميّز الموسم الحالي، انضمام المتطوعة البيئية نابغة دقيق إلى حملة الحفاظ على السلاحف وحمايتها في المنطقة التي تقودها، منذ 9 سنوات، الناشطة البيئية منى خليل على شاطئ المنصوري.

ترى منى التي ينظر إليها البعض باستغراب وأحياناً باستخفاف لأنها “تركت كل القضايا وتهتم بالسلاحف”، أنها بدأت “تؤثر في الناس ولو جزئياً، وتدفعهم إلى الرفق بالسلاحف”.

تعمل دقيق في محمية صور الطبيعية، وهي حاصلة على إجازة في علم الأحياء، وكانت وزارة البيئة قد انتدبتها للمشاركة في ورشة عمل عن السلاحف البحرية أُجريت قبل أربعة أشهر في قبرص.

ترى دقيق أنه “ليس هناك تجربة ميدانية بشأن السلاحف من جانب طاقم وزارة البيئة ومحمية صور”. لذلك فهي قررت تطوير قدراتها الذاتية، ولجأت إلى منى لتتقرّب من السلاحف، وتتدرّب على يديها، وتنقل تجربتها إلى المحميّة.

ويعود فضل «توجيه الأنظار العالمية والمحلية قبل ثماني سنوات، إلى وجود السلاحف على الساحل الجنوبي، بعدما اتصلت بوزارة البيئة والجمعيات العالمية المختصة لمشاركتها في حمايتها”، إلى نابغة، تقول منى.

إشارةً إلى أن الشروط المحيطة بالمحمية الطبيعية تؤثر سلباً في ارتياد السلاحف لها لوضع أعشاشها خلال ظلام الليل وهدوئه في الصيف، منها أضواء الخيم البحرية المجاورة، والضجيج الذي يحدثه مرتادوها، فضلاً عن أن المحمية لم تعد كذلك، بل باتت استوديو تصوير متواصل لكليبّات تلفزيونية.

أما إلى الجنوب من المحمية على شاطئ المنصوري، فإن القيمة المضافة التي تستفيد منها منى لحماية السلاحف هي أنها تملك مساحة ألف ومئتي متر على شاطئ المنصوري، مجاورة للبستان الذي تملكه ويقع فيه منزلها، الذي حوّلته إلى فندق يستقبل المهتمّين بالسلاحف من لبنان والعالم. لكن تلك المساحة التي يصفها البعض “بمحمية منى”، ليست مغلقة تماماً أمام بعض المتسلّلين من زوايا أخرى إلى الشاطئ الرملي، ما يجعلها تكثّف الإجراءات الحمائية للأعشاش التي تضعها أمّاتها وتتركها إلى مصيرها عائدةً إلى البحر. من هنا يبدأ دور منى بدفن البيض في الرمال تحت سقف حديدي مثقوب يحميها من السرطانات (السلاطعين) والكلاب الشاردة ومن أقدام البشر.

يمثّل انخفاض عدد السلاحف وبيوضها دليلاً على بدء انقراضها

وفيما استراحت السلاحف الجنوبية من الجنود الفيجيّين العاملين في إطار قوات اليونيفيل، الذين غادروا الجنوب عام 2000، والذين كانوا أبرز “أعدائها”، فإنّ عوامل عدة أخرى تهدّد حياتها. فالفيجيون الذين كانت لهم نقطة مراقبة على شاطئ القليلة، كانوا يكلّفون الصيادين باصطياد السلاحف وبيضها، لإعداد الوجبة الأساسيّة في بلادهم، مقابل 10 دولارات على كل سلحفاة يصطادونها. أما الأعداء الحاليّون، فأولهم جهل الناس لحياة السلاحف وعدم اهتمامهم بها، والتمدّد الاستثماري على الشواطئ الرملية، إضافةً إلى تلوّث البحر، وخصوصاً بالمواد الكيميائية والديناميت وأكياس النايلون التي تظنّها السلاحف قناديل البحر فتأكلها ثم تختنق بها. أضف إلى كل هذا، شباك الصيادين والأسماك الكبيرة التي لا تسمح إلّا لـ10 في المئة فقط من بين المئات التي تولد سنوياً بأن تنجو. وتؤكّد منى من خلال دراساتها أنّ “تلك العوامل التي تسبّب أمراضاً مميتة، باتت تقصّر أعمار السلاحف لما دون الستين عاماً، فيما كان معدل أعمارها يزيد على المئة عام”.

لكن الأخطار على الشاطئ الجنوبي تتكاثر وتتوالد مثل السلاحف وآخرها بحسب منى، المناورات العسكرية التي تجريها قوات اليونيفيل مع الجيش اللبناني، والتي تشمل رمايات مدفعية على البحر (آخرها كان أول من أمس).

تسبّب القذائف المستخدمة خلال المناورات تدمير الحياة البحرية المتنوّعة من الأعشاب والحيوانات، من بينها الأسماك والسلاحف التي ينفق صغارها وكبارها. إضافةً إلى الزيوت والمواد المنبعثة من البوارج والسفن الحربية الأممية التي تجوب الشاطئ يومياً.

وهناك، بحسب منى، خمس سلاحف بحرية نفقت في شهر أيار الفائت بسبب تدريب عسكري مدفعي مشترك أقيم قبالة بحر الناقورة، تزامناً مع مرحلة التزاوج. وبعدما طالبت مراراً الجيش واليونيفيل بالتوقف عن المناورات البحرية حمايةً للحياة البحرية، تلقّت منى بعض الإشارات الإيجابية من اليونيفيل، التي وعدتها بمعالجة الأمر. علماً بأن الوحدة الإيطالية كانت قد اقتطعت قبل عامين، مئات الأمتار من الشاطئ الواقع بين الناقورة والمنصوري لاستحداث قاعدة عسكرية. أما الجيش اللبناني، فإنه سحب كميات كبيرة من رمل الشاطئ لاستخدامها في تدشيم مركز مراقبة قريب تابع له.

وإذا كانت القوات الأممية قابلةً للتفاوض بشأن السلاحف، فإن منى متأكدة من صعوبة التفاوض مع السلطات اللبنانية، في مواجهة استثمار الشاطئ الرملي والشريط الزراعي المحاذي له “لإقامة منتجعات سياحية بالتواطؤ بين المستثمرين والبلديات”.

محمية بمرسوم جمهوري

تسعى منى خليل إلى تحقيق حلمها بتحويل شاطئها، في المنصوري، إلى محميّة طبيعية للسلاحف البحرية بمرسوم جمهوري. خطوتها المقبلة هي محاولة الالتقاء مباشرةً برئيس الجمهورية، لعرض القضية عليه بعدما فقدت أملها بالسلطات المحلية من بلديات وغيرها. وتجد الناشطة أنّ من المخجل أن تهتمّ الجمعيات العالمية بتطوير آلية حماية السلاحف البحرية في لبنان، فيما وزارة البيئة والهيئات المعنية غائبة عن السمع، وتكتفي بالدراسات النظرية. وتشير منى إلى أنها لم تلمس الجدية المطلوبة لدى محمية صور الطبيعية، ووزارة البيئة، ما جعلها تحيد عن التعاون معهما.

وفي الموسم المقبل وبإمكانيات وجهود خاصة، تعتزم منى افتتاح بركة تستقبل السلاحف البحرية الحديثة الولادة بعد خروجها من البيض. وسوف تكون البركة مركز عناية فائقة تحظى فيه المواليد بعناية طبية وتغذية تقوّيها، وتجعلها قادرة على خوض غمار البحر، ومقاومة أخطار البشر والحيوانات الأخرى. ومن المعلوم أن المحميات البرية والبحرية تحتاج إلى قانون يصدر عن مجلس النواب، ولا يزال مشروع قانون إنشاء محمية في جبل الريحان نائماً في أدراج مجلس الوزراء منذ عام 2008.

تعليقات: