من ينقذ الشيعة (غير سعد الحريري)؟‎

أسعد أبو خليل
أسعد أبو خليل


تعاني حركة 14 آذار من مشكلة شيعية، وتحاول ما استطاعت أن تستنبط «تياراً» شيعياً حريرياً ‏يحظى ببعض «الصدقية» الطائفية. فرفيق الحريري استطاع في سنوات حكمه أن يحقق كسباً كبيراً ‏في اجتذاب الرأي العام السنّي نحوه، وإن كان هذا الاستقطاب المذهبي قد تفاقم بعد اغتياله. ونجح ‏في استمالة الزعيم الدرزي الأبرز، بالإضافة إلى حصوله على تأييد بعض الفعاليات المسيحية.

ولكن يجب الإقرار بمهـارة ‏رفيق الحريري في هذا المجال: فللّعبة الديماغوجــية الطائفــية أصول وقوانين لا يجيدها إلا من امتهنها ‏في العمــل السياسي اللبناني. لكنّ رفيق الحريري لم يكـن كامل السيطرة على الرأي العام السنّي في ‏حياته على الرغم من سعي حثيث (وصناديق الزيت والسردين)، وإن كان فاق كل رؤساء الوزراء بعد ‏الاستقلال (الاستقلال عن فرنسا لم يعد استقلالاً، إذ إن وليد جنبلاط، بعدما أُزيلت «الغشاوة» عن عينيه ‏في عملية جراحية معقدة تطلبت حضور اختصاصي الغشاوة غطاس خوري، أفتى بأن الاستقلال هو ‏فقط استقلال عن سوريا وطالب بالتلويح بالعلم الفرنسي في عقر داره) في مهارته في تأجيج ‏الحساسيات الطائفية السنية، وفي استغلال الدين بمناسبة وغير مناسبة كما فعل ضد قانون الزواج ‏المدني (قد يكون الياس الهراوي المغلوب على أمره أكثر الرؤساء علمانية في تاريخ لبنان، وإن كان ‏محكوماً باعتبارات موازين الترويكا آنذاك). والحريري لم يكن سلساً في عملية صعوده السياسي، إذ إنــــــــــه اعتمد عبر السنوات على ثلاثة عناصر أساسية لبناء زعامته السياسية (والعناصر الثلاثة هي ‏نفسها آفات النظام السياسي اللبناني):‏

‏1)‏ التدخل الخارجي، السوري أساساً، وإن تغيّر في سنتيه الأخيرتين عندما بدأ بالإعداد للقرار ‏‏1559. ‏

‏2)‏ التأجيج المذهبي الحاد، وخصوصاً في الانتخابات النيابية. ‏

‏3)‏ المال السياسي غير المحدود. ولا شك في أن سعد الحريري اعتمد على العناصر نفسها (مع ‏استبدال أدوار التدخل الخارجي) في بناء أكثريته النيابية، وإن كان ذهب في التأجيج الطائفي ‏والمذهبي وفي إغداق المال (الذي «أنعم به» الله على العائلة، وفقاً لوصف رفيق الحريري ــ أي ‏إنّه «مال إلهي»، وإن كانت أبواق العائلة تسخر من هذا الوصف هذه الأيام) أبعد بكثير من ‏والده، وخصوصاً في انتخابات الشمال.‏

والطائفة الشيعية، على خلاف الطائفة الدرزية وعلى خطى الطائفـة المارونية، تخلّـــصت من زعامات ‏الإقطاع الذين قضوا سـني الحرب مـنبوذين في المنافي أو في المناطق اللبنانيـــة البعيدة عن أماكــن ‏الوجود الشيعي. لكن بعـض بقايـــا العائلات الإقطاعية الشيعية استطاعت أن تتعايش مع الحالة السياسية ‏المستجدة عبر الانضواء في صفوف كتلة حركة أمل، وإن كان دورها هامشياً. ‏

وشكل الواقع الشيعي معضلة لرفيق الحريري وإن كانت حملاته المذهبية كفيلة بمنع انجذاب الشيعة ‏وراء قيادته، بالإضافة الى عوامل أخرى تتعلق بسياساته الإنمائية، وبموقفه المعارض للمقاومة منذ ‏البداية، على الرغم من مزاعم بكّائي عائلة الحريري المحترفين. ‏

والوضع الشيعي اليوم (والتحليل الطائفي مبرّر في لبنان نتيجة ضعف الهويــة الخارجة عن الطائفة) ‏معقود اللواء لحزب الله (ولحركة أمــل بدرجة أقل). والمفارقة أنه كلما غرقت قيادة السلالة الحـاكمة ‏في عملية التأجيج الطائفي، صعّبت من إمكان نجاحها في تحقيق اختراقات في الطائفة الشيعـــية ‏والمارونية (وكلام المطران بشارة الراعي حول «أسلمة» لبنان يذكّر بكــلام تردّد من قبل في الأوساط ‏المسيحية إبان صعود قيادة الحريـــري، برعاية تلك الوصاية البغيضة نفسها ــ لكن قبل أن تنقشع ‏الرؤية). وتظهر استطلاعات الرأي في لبنان أنّ الطائفة الشيعية والطائفة الدرزية هما أكثر الطـوائف ‏انسجاماً وتماسكاً في الرأي السياسي، وهذا ما يعزّز من واقع التماسك الطائفي الذي يسم كل الطوائف ‏في لبنان حيث يشكل الانتماء الطائفي عاملاً مقرراً لصنع الموقف السياسي، وإن كانت الطوائف ‏السياسية متقلّبة (مثل تقلّب زعاماتها التي لا تعتنق من ثوابت إلا ما يديم تلك الزعامات). والطائفة ‏السنية كانت تتمتّع بالتنوّع في الوجهات السياسية قبل بروز ظاهرة الحريري التي لا تسمح بتنافس ‏سياسي داخل الطائفة. أما الخلاف السياسي المسيحي، أو الثنائية، فهي كانت عنصر شقاق وفرقة في ‏تاريخ الحرب الأهلية اللبنانية.‏

ورغبة في تشكيل مشروعية سياسية متعددة الطوائف، عمل فريق السلالة الحاكمة على جذب فريق ‏شيعي معارض لحزب الله ومنضوٍ (ذيلياً كما هي الحال مع كل حلفاء آل الحريري) في إطار 14 ‏آذار. طبعاً، هناك عدد من الشيعة في 14 آذار، من غازي يوسف (الذي قدم اعتذارات محمومة للسيد ‏محمد حسين فضل الله بسبب تقديمه درع الأرز لجون بولتون)... إلى باسم السبع. ثم هناك مفتي ‏صور الذي لا يهدأ، والذي له اليوم في كل أعراس 14 آذار وأتراحها قرص، وهو يظهر حتى في ‏المناسبات الاجتماعية لفريق 14 آذار، مثل توقيع كتاب مي الشدياق. والرجل تنقّل بين حزب الله ‏وحركة أمل قبل أن يكتشف «حب الحياة» في فريق 14 آذار. ‏

لكن مبادرة باسم السبع إلى تأليف فريق شيعي حريري ليست جديدة، إذ إن فريــق الســـــلالة الحاكمة ‏سارع بعد اغتيال الحريري الى إنشاء فريـق شيعي تحت قيادة الشيخ محمد حســــن الأمين والمعلّـــق ‏نصير الأسعد (واحد من كثيرين في منظمة العمل الشيوعي الذين انتقلوا من الشيوعية الى الحريرية ــ ‏عن قناعة مبدئية طبعاً). لكن التجربة تلك لم يُكتب لها النجـــاح، إذ إن الأمين اكتشف على الهواء في برنامــج «خلّيك (مع الحريري) بالبيت» أنه يُستدرج الى اتخــاذ مواقـــف ضد المقاومة، فأهان المضيف، ‏وأنهى التجربة تلك. وهو عـــقـد اجتماعاً تنسيقيّاً أخيراً مع مسؤول حزب الله في الجنوب. كان يمكن نصير الأسعد أن يستمر في التجربة وحده لو اكتشفت فيه الأكثرية الشعبية كاريزما أو شيئاً من ‏السحر الجماهيري (ويملك من هذا السحــر وبوفرة، مصطفى علوش على سبيل المثال).‏

ثم اختـــرعت مؤسسة الحريري السياسية الشيخ محمد الحــاج حسن الذي يقود تياره الشيعــي ‏من… النبعة ــ لكن قد يكون الرجل لم يسمع بعد بتهجير الشيعة من النبعة.

وهو يعد، باستمرار، ‏بمفاجئات وحفلات قسم يمين، ولكنه دائماً ينسى وعوده. لعل رجمه من قبل أهل منطقته عثّر خطاه، ‏ما دفعه إلى اعتزال العمل السياسي. ‏لكن من المضحك أن الفريق الحاكم يظن أن تنصيبه لفئة شيعية على الشيعة سيحظى بالمطلوب، مع ‏أن العكس هو الصحيح. ومحاولات الفريق الحاكم لتنصيب بدائل من حزب الله وأمل تبدو مضحكة ‏أحياناً، وخصوصاً عندما تعمد وسائل الإعلام الحريري والقواتي الى إبراز أحمد الأسعد أو منى ‏فياض وكأن هذا الإبراز المصطنع كفيل بالتأثير في الرأي العام الشيعي (وهذه المحاولات، مع ‏مشابهة أيضاً في الفكر العنصري الموجِّه، تذكّر بأسلوب اليمين الأميركي في إبراز أصوات سوداء ‏يمينية، مع أنها بعيدة كل البعد عن رأي وتوجّهات السود في البلاد). وأصرّت وسائل الإعلام ‏الحريرية أثناء حرب إسرائيل على لبنان على إعطاء منبر وافر لأصوات شيعية معارضة للمقاومة. ‏لكن لا يبدو أن الأسلوب قد نجح، ولا دليل إلى اليوم أن حناجر جماهير الشيعة تهتف بحياة نصير ‏الأسعد أو أحمد الأسعد أو علي صبري حمادة (الذي أنشأ ميليشيا نسور البقاع أثناء الحرب الأهلية ‏لكن مصيرها كان شبيهاً بمصير «لواء تنورين» ــ هل من يذكر؟).‏

ثم طلع علينا أخيراً باسم السبع بمبادرة حريرية جديدة، ولم نكن نعلم أن السبع موجود في لبنان، ‏فأهلاً به في وطنه الثاني، لبنان (طائرة الحريري الخاصة هي الوطن الأوّل في هذه الحالة). ويُذكر ‏لباسم السبع أنه رافق سعد الحريري في جولاته المهمة أثناء العدوان الاسرائيلي على لبنان، بما فيها ‏رحلة الى قبرص طلب فيها الحريري، وفقاً لجريدة المستقبل آنذاك، مساعدة الرئيس القبرصي لوقف ‏النار في لبنان.

وتدخل تلك الجولات في إطار السياسة الدفاعية للبنان التي ينتهجها فريق 14 آذار ‏بديلاً من المقاومة. فنعم الاستراتيجية الدفاعية في هذه الحالة. ‏

والطريف في هذه المبادرة الجدية من النائب السبع أنها جمعت كل من له خلاف مع حزب الله أو ‏أمل، ولأسباب تبدو متناقضة، على أن يكون شيعياً (على طريقة الطائفية المعادية للطائفية).

فهناك ‏في هذا التيار الجديد والعفوي (إذ إنه التقى هكذا عفواً من دون ترتيب حريري مسبق) فريق ورثة ‏الإقطاع الشيعي من عائلات حمادة والأسعد والخليل. ويستحق النائب السبع (الذي، للأمانة، أفرط ‏في البلاغة في مديح النظام السوري عندما شغل منصب وزير الإعلام في عزّ عهد الوصاية) الثناء ‏لأنه قدر على جمع عائلات متنازعة منذ عقود وإن كانت متصاهرة، وإن كنا نتمنى له أن ينجح في ‏جمع كامل الأسعد مع ابنه. من يدري؟ قد ينجح في المبادرة الشيعية الحريرية المقبلة. ‏

وممثّلو عائلات الإقطاع السياسي يذكّرون بورثة السلالات الملكية المنتشرة في المنافي (من عرب ‏ومن غربيين). فهم حاقدون على تقدّم الزمن ويكنّون ضغينة واضحة لتقدّم أمر الشعوب. من هنا، ‏نفهم كلام علي صبري حمادة ووصفه لأهل الضاحية بـ«الغوغاء» (وهو الوصف نفسه الذي أطلقه ‏صدام حسين على من عارضه في العراق). فالسيّد حمادة، مثله مثل أبناء عائلات الإقطاع، ينشأون ‏ويتربّون على فكرة التسلّم الأوتوماتيكي للزعامة. لا يتوقع الإقطاع تغيّر أهواء الناس، ورفضها ‏للإقطاع. لهذا، كان أحمد الأسعد (الجدّ) يقول إنه لا حاجة إلى المدارس في الجنوب طالما ابنه ‏النجيب كامل يتلقى علومه.‏

لكن اللقاء المذكور (الـذي اختار عنوان دعم الجيش، وكأن الموضوع هو مدار اختلاف بين اللبنانيين ‏في الوقت الذي يزايد فيه الجميع على بعضهم في لبنان في دعمهم للجيش، حتى إن قيادة منظمة التحرير ‏في لبنان هي الأخرى تهلّل للجيش في دكّه مخيم نهر البارد) ضمّ أيضاً جمعاً من أفراد كانوا ‏يعرّفون أنفســـهم، كما ظننّا، بأنهم «علمانيون» أو ليبراليون. لكن المصلحة اقتضت أن يتأطّروا داخل ‏جمعية طائفية، وذلك لمحاربة حزب الله الذي يقولون عنه إنه طائفي (هل هناك زعيم واحد أو حزب ‏واحد غير طائفي في لبنان، باستثناء الشيخ محمد علي الجوزو الذي توقف عن إرشاد خليّة حمد، و‏توقف عن المطالبة بالحكم الإسلامي في لبنان وعن إهانة المسيحيين ــ الغشاوة تلك أيضاً أُزيلت عن ‏عينيه كما يبدو)، أي أن هؤلاء الليبراليين ارتأوا محاربة طائفية حزب الله بطائفية أخرى، حضارية ‏طبعاً. فكـــــل فريق 14 آذار هو حضـــاري وراقٍ ــ إيّــاك أن تنسى. ‏

لم يخرج علي صبري حمادي عن البروتوكول المرسوم. فوصفه لأهل الضاحية (الذين قالت عنهم ‏جريدة النهار في منتصف السبعينيات بأنهم يتكاثرون «كالفئران») هو من صلب عقيدة أهل 14 آذار ‏الذين (واللواتي حتى لا ننسى غنوة جلول ونائلة معوض) يعتبرون عدم لحاق الشيعة بشعاراتهم ‏المُحبّة للحياة دليل تخلّف وهمجية (عبّر عنها بصراحة بعض قادة الحركة المذكورة).

لكن الفريق ‏الليبرالي واضح في التعبير عن أسباب اختلافه مع حزب الله، لكنه أقل وضوحاً في شرح أسباب ‏تلاقيه مع فريق الحريري. هل أصبح وليد جنبلاط وسعد الحريري وسمير جعجع ليبراليين علمانيين ‏من دون أن ندري؟

المشكلة طبعاً تكمن في قوقعة الطوائف. والتحريض الطائفي والمذهبي يفعل فعله، ويؤدي الى ترسيخ ‏الحدود النفسية وحتى الجغرافية بين الطوائف. وقد يأتي يوم يطالب فيه الفريق الحاكم بجدار فصل ‏عنصري حتى تبقى الضاحية الجنوبية بعيدة عمّن يحب الحياة في لبنان، وعمّن يعتبر مقاومة ‏الاحتلال الإسرائيلي عملاً غير حضاري.‏

‏ ‏‏* أستاذ العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا

تعليقات: