أين الجنبلاطية من كمال جنبلاط؟!


تعليق على رد لعزت صافي:

قرأت في صحيفتكم الغراء كلمة نائب الامين العام لـ"حزب الله" تحت عنوان "كيف ينخرط باقي المجتمع في المقاومة" (8/6) ثم تعليقا من السيد حسين عبد الحسين من واشنطن (12/6) ثم تعليقا آخر من السيد عزت صافي تحت عنوان "نظام الكيان اللبناني ونظام حزب الله" (19/6).

لن اعلق طويلا على كلام حسين عبد الحسين من واشنطن، المهووس بديموقراطية بوش وتجلياتها في العالم الثالث، بل سأكتفي بالتعليق على بعض ما كتبه عزت صافي، اذ انه يكرر ما قاله عبد الحسين من واشنطن ويزيد عليه الكثير.

لا بد لأي نقاش عقلاني لا يغرق في المماحكات، ان ينطلق من الاسس والمبادىء التي تستند اليها التعليقات على المواقف السياسية والقيم والاخلاقيات النضالية والاجتماعية. وعزت صافي يكتب دون الاستناد الى منهجية علمية بقضية "التناقضات" الاساسية والثانوية. فطوراً يرى التناقض الاساسي بين لبنان من جهة، وسوريا وايران من جهة ثانية. وطورا يرى وجود تناقض اساسي غير قابل للحل بين النظام اللبناني ونظام "حزب الله" مع العلم ان "حزب الله" ليس نظاما بل هو حالة شعبية مقاومة، وشتان بين الحالتين. ومرة ثالثة يرى التناقض الاساسي بين لبنان و"فتح الاسلام" في نهر البارد، واخرى بين الديموقراطية التوافقية اللبنانية والمقاومة التي لا تستشير جميع الطوائف والعشائر اللبنانية عند كل طلقة تطلقها على العدو.

ولكنه لا يرى اي تناقض مع العدو الذي استباح لبنان ودمر بنيته التحتية مرات عدة، وقتل الآلاف من ابنائه، وارتكب فيه ابشع الجرائم ضد الانسانية الى جانب جرائمه التاريخية في فلسطين، وذلك بدعم عسكري ومادي، وتغطية سياسية كاملة من الولايات المتحدة و"المجتمع الدولي" الذي تقوده. ان عزت صافي وقف في معسكر الاعداء الاساسيين، فرأى العدو صديقا والصديق عدوا. فقد انتقل من فكر كمال جنبلاط وممارسته واخلاقياته الى فكر سمير جعجع وممارسته واخلاقياته.

لم يغادر غزت صافي موقعه القديم فقط، بل حمل كمال جنبلاط كل اوزار الاعتداءات الاسرائيلية على لبنان اذ قال "فعلى اسم فلسطين وبسبب اخطاء زعماء لبنانيين... استبيحت ارض لبنان اكثر من مرة، واستنفدت قواه". ولا يقصد طبعا بكلمة الزعماء الذين تسببوا باستباحة ارض لبنان واستنفاذ قواه كميل شمعون وبشير الجميل وسمير جعجع، بل يقصد رئيس الحركة الوطنية المتحالف مع قوى الثورة الفلسطينية، لمواجهة الهجمة الامبريالية الصهيونية الشاملة على كل المشرق العربي، والتي نرى انجازاتها اليوم من افغانستان الى العراق وفلسطين ولبنان. فكمال جنبلاط كان يرى التناقض الاساسي بين شعوب العالم الثالث والمعسكر الاشتراكي من ناحية، والامبريالية من ناحية اخرى، والتي تعني الرأسمالية في مرحلتها الاكثر احتكارية وعولمة.

وتحت هذا التناقض الاساسي كان يندرج التناقض بين حركة التحرر العربية، والكيان الصهيوني واميركا بشكل خاص، ثم التناقض بين مصالح اوسع الجماهير اللبنانية والنظام اللبناني المستتبع دائما بحكم تركيبته المركنتيلية (التجارية) الاحتكارية، والذي يريد لبنان، كما وصفه ادوار حنين "اذا استتبع يعتز، واذا استقل يهتز"، وان قوة لبنان في ضعفه، اي في انكشافه الشامل لعدوانية اسرائيل، وخضوعه لسيطرة الدولة الرأسمالية الاكبر في العالم.

ان ضياع الرؤية الاستراتيجية للتناقض الاساسي في العالم، وانعكاسه على الوضع اللبناني قاد عزت صافي الى تخبطات مضحكة مبكية. فهو مذعور جدا من سلاح المقاومة الذي حرر لبنان حتى مزارع شبعا وتلال كفرشوبا. خائف من "المدافع وعشرات آلاف الصواريخ" الموجهة ضد العدو الاسرائيلي الطامع بالارض والمياه اللبنانيتين، والهادف الى جعل لبنان جرما يدور في فلكه، وينام آمنا مطمئنها في ظل الترسانة النووية الاسرائيلية التي تهدد جميع العواصم العربية بما فيها بيروت، كما آلاف الطائرات والمدرعات، ومئات القطع البحرية، التي اكتوى لبنان بنيرانها وحصارها الشامل له. كيف يمكن عاقلا او وطنيا ان يخاف من سلاح دافع عنه وحرره ويحميه، ويرتاح الى سلاح دمر وطنه واذله؟ هل هي عقدة حب الضحية للجلاد.

وارسل الله عز وجل لعزت صافي احداث نهر البارد ليختبىء خلفها وخلف الجيش اللبناني المغدور ويطلق اتهاماته من ورائه بشطارة اعلامية مستعارة من غوبلز والدعايات الاميركية المستندة الى غير الحقائق فيكرر ادعاءات لا اساس لها من الصحة، علها ترسخ في اذهان غير الاذكياء من الجماهير. فحتى عزت صافي يدرك ان حرب تموز بدأتها اسرائيل حسب خطة موضوعة مسبقا، وبدعم شامل من الولايات المتحدة، اما خطف الجنديين الاسرائيليين فعجّل بانفجار حرب وضعت لتكون استباقية، كما نشرت وسائل الاعلام الاميركية والاسرائيلية، اما "فتح الاسلام" فهي قريبة جدا، ان لم تكن فصيلا من فصائل "القاعدة" ولا يجهل عزت صافي ان هذه التنظيمات الاصولية التكفيرية مطاردة من سوريا، ويقبع العديد من اعضائها في السجون السورية منذ سنوات، وهو حتما يتذكر كمية الدماء التي سالت في حماه والعديد من المدن السورية الاخرى نتيجة مطاردة هذه التنظيمات.

ولكن عزت صافي بالرغم من كل ما بثته وسائل الاعلام الغربية كافة، بأن لا علاقة لسوريا بـ"فتح الاسلام" يقول ان "فتح الاسلام" التي يفوق خطرها على النظام والكيان اللبنانيين خطر اسرائيل، موجود "جسمها ورأسها في الجوار" وطبعا لا يقصد بالجوار اسرائيل بل "العدو" سوريا. ولماذا يضخم عزت صافي خطر بضع مئات من القوى الاصولية التكفيرية، والتي اوجدت السلطة اللبنانية المناخ الملائم لنموها (افقار المناطق اللبنانية وتهميشها، وانتهاج سياسات الاستتباع لاميركا واسرائيل) واتت بها بعض اطراف السلطة الى لبنان لتكون عونا لها في حربها على المقاومة، فيحسبها اخطر من اسرائيل؟ هل لبنان كيانا ونظاما، هش الى هذه الدرجة في وجه بضع مئات من الاصوليين، ومنيع في وجه رابع جيش في العالم اعتاد على اجتياحه وانتهاك سيادته وحياته ولا يحتاج الى المقاومة للرد عنه؟ اين هو المنطق في ما يقول؟

يقول عزت صافي ان "حزب الله" "ضيّع فرصته اللبنانية والعربية، بل العالمية والتاريخية التي كانت ستجعله بطلا... لو انه بادر في ايار 2000 الى اهداء النصر الى الشعب اللبناني والى الدولة، ثم سلم سلاحه ومعداته الى الجيش ووضع عناصره وخبرته تحت الطلب في الحالات التي تستدعي مواجهة العدو". لو فعل "حزب الله" ما يتمناه عزت صافي للعنه التاريخ والشعب العربي كله بما فيه اللبنانيون. الدعوة للمقاومة لا تشبه الدعوة الى وليمة دسمة يمكن ان تلبى خلال ساعات، لترد عدوا متربصا لا نعلم اين ومتى يشن عدوانه. والمقاومة ليست مجرد استعداد شعبي ونفسي للقتال، بل هي بنية مناضلة حية قائمة، تتطور باستمرار لتسبق تطور قدرات العدو واستراتيجيته وتكتيكاته، يقظة دائمة الاستعداد، وليست سراجا يمكن اطفاؤه واشعاله متى تريد.

وتسليم اسلحة المقاومة الى السلطة غير المقاومة، بل المتآمرة على المقاومة يعني استسلام لبنان امام العدو الصهيوني، وهذا ما يريده طلاب تسليم سلاح المقاومة الى السلطة اللبنانية في حقيقة الامر. ويريد عزت صافي تمثل المقاومة اللبنانية بالمقاومة الفرنسية في تسليم سلاحها الى السلطات الفرنسية بعد التحرير، وهذا المثال الذي يكرره دائما دعاة انهاء المقاومة في لبنان. ولكن هناك عشرات المقاومات الاخرى الناجحة التي ظهرت في التاريخ القديم والحديث. وكان انتصار المقاومة على عدو خارجي او حكم عميل جائر يعني تسلم المقاومة زمام السلطة. هذا ما حصل في روسيا والصين وفيتنام والجزائر وكوبا وحتى في اميركا وعشرات الدول الاخرى. أفلم يكن جديرا بالمقاومة اللبنانية تسلم السلطة بدل التعرض لطلب اسقاطها؟

واذا عدنا الى المقاومة الفرنسية، فانها لم تحظ باجماع شعبي او دعم حكومي. فلم يتم مثلا استشارة بيتان الممثل للسلطة الفرنسية ابان الاحتلال النازي وطلب اذن منه للمقاومة، وكانت المقاومة في وجه السلطة التابعة كما في وجه الاحتلال النازي. وعند اندحار المانيا سقطت السلطة التابعة لها، وهذا لم يحدث في لبنان بعد. ثم ان المقاومة هي التي اصبحت في السلطة، وهذا لم يحدث في لبنان بعد. ثم ان العدو الذي اجتاح فرنسا تم تدميره واستسلامه، ولم يتم تدمير الكيان الصهيوني بعد، وما زالت الهجمة الاميركية الاسرائيلية في اوجها، وما زالت بعض ارض لبنان محتلة، مما يستدعي بقاء المقاومة وتعميمها كما قال نائب الامين العام لـ"حزب الله".

ويتابع عزت صافي: "اذا اجاز لبناني لنفسه ان يبدي هاجسا فمن منطلق حقه المشروع في ان يفكر في حياته ومستقبل عائلته ومجتمعه، عندما تكون حياته في وطنه وفي مجتمعه مرتبطة بحياة شريك آخر في الوطن وفي المجتمع، ولا يمكن الفصل بينهما بقرار منفرد، يتخذه شريك يقبل على الشهادة، من دون حساب لسائر الشركاء، كما حال المسافرين في مركب واحد وفي مصير واحد". ويقول في مكان آخر ان استمرار المقاومة يجب ان يخضع للديموقراطية التوافقية اللبنانية.

اولا: ليست هناك مقاومة في العالم وعبر التاريخ قامت باستفتاء الشعب، واشترطت اجماعه حتى تبدأ مقاومتها. فكل المقاومات في لبنان لم تستظل "الديموقراطية التوافقية". ان كل مقاومة هي تعبير عن تناقض صدامي مع عدو خارجي او داخلي، وهي في كل الاحيان نقيض للاجماع الوطني المستحيل في لبنان، حيث اصبحت الخيانة الوطنية والعمالة للعدو مجرد وجهة نظر.

ثانيا: لماذا يطلب البعض اجماعا وطنيا للتصدي للعدو الخارجي وطلب موافقة من تعاملوا ويتعاملون معه لقتاله؟ اليس ذلك ضربا من السذاجة؟ ثم لماذا نتذكر اننا في مركب واحد، واننا نحب الحياة ولو منبطحين امام العدو، ونصر على اعطاء رئيس كل طائفة او قبيلة وكل تابع للعدو الخارجي حق نقض المقاومة واعمالها وحق تعطيلها، وننسى الديموقراطية التوافقية حين تؤلف الوزارة، وحين تطلب المحكمة الدولية تحت البند السابع، وحين تقر ورقة الكارثة الاقتصادية والضريبية المقدمة لمؤتمر "باريس 3"، وحين تطلب قوات دولية لاقفال الحدود مع سوريا، وحين تشطب المحكمة الدستورية، وحين يتم تجاوز صلاحية رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب وحين يوضع لبنان تحت الوصاية الدولية ويُخضع لأوامر القناصل، وحين يراد لنا الخضوع لحكم مدعوم من اميركا وضد ارادة اكثرية اللبنانيين.

* كاتب وخبير لبناني في الاقتصاد السياسي، والمدير السابق للبنك المركزي في بيروت

غالب أبو مصلح (يميناً) مع أحد الصحافيين
غالب أبو مصلح (يميناً) مع أحد الصحافيين


تعليقات: