الحداثــة ومــا بعــد الحداثــة

الأميركي أندي وارهول (1928 ـ 1987)
الأميركي أندي وارهول (1928 ـ 1987)


إذا كان الجسد هو الحداثة فالجنس هو ما بعد الحداثة..

كما تعددت تعريفات الحداثة فإن ما بعد الحداثة، بدورها، لم تنأ عن هذا الشيء. فليس هناك ما بعد حداثة واحدة، بل هناك ما بعد حداثيات، لكنها تشترك جميعها في بعض الأسس النظرية. يتناول الكاتبان «ميجان الرويلي» و«سعد البازعي» في «دليل الناقد الأدبي» هذا المصطلح بقولهما انه ما بعد الحداثة بفرعيه من أهم المصطلحات التي شاعت وسادت منذ الخمسينيات الميلادية، ولم يهتد احد بعد الى تحديد مصدره: فهناك من يعيد المفردة الى المؤرخ البريطاني آرنولد توينبي 1954م، وهناك من يربطها بالشاعر والناقد الاميركي تشارلز اولسون في الخمسينيات الميلادية، وهناك من يحيلها الى ناقد الثقافة ليزلي فيدلر، ويحدد زمانها بعام 1956م.

مهما يكن من أمر، فإن ما بعد الحداثة هي حركة شمولية ايضا كما الحداثة تنشط في الفضاءات كافة: السياسية، الاقتصادية، التعليمية، الاجتماعية، الفلسفية، الاخلاقية النفسية، المعرفية، الانتروبولوجية... وتتشظى ما بعد الحداثة الى ما بعد حداثات مختلفة. وهي أبرز ما تكون في العمارة وتخطيط المدن. يمكننا التمييز بين قسمين كبيرين منها:

Postmodernty أو Postmodernité وPostmodrenism، الاولى تعالج المنهج والنظرية النقدية فلسفياً ومعرفياً، والثانية كممارسة عملية وكتطبيق لهذه المنهجية والنظرية على حقل معيّن كالأدب او الفن او الموسيقى او العمارة... يرى الكاتبان ان ما بعد الحداثة تخلط بين المظاهر الاجتماعية والفكرية والثقافية. وانها ردة فعل على الحداثة كما هو متفق عليه بين الكثير من آراء المفكرين.

لقد قلبت ما بعد الحاثة نظريات الحداثة وفرضياتها. احتفت الحداثة بالعمق والمعنى. أما ما بعد الحداثة فقد نادت بعدم ثبات المعنى وانفتاح النص وتعدد القراءات (نذكر هنا كتاب رولان بارت «العمل المفتوح L’oeuvre ouverte». حاربت ما بعد الحداثة النخبة والنخبوية، وآمنت بالسطحية والمبتذل اليومي، وتغلب فيها الهامش على المركز. قوضت ما بعد الحداثة السلالم الهرمية، واهتمت بأشكال التعددية اهتماماً شديداً. ما بعد الحداثة تشظ تشتيت في حين ان الحداثة ثبات وشمولية، وايضا هي عمل مغلق مكتمل ذا مدلول Signifié (معنى)، بينما ما بعد الحداثة شكل مفتوح، دال Signifiant (شكل). تبنت ما بعد الحداثة طروحات البنيوية وما بعدها وأبرز منظريها ومفكريها: جاك دريدا، جاك لاكان، رولان بارت، ميشال فوكو وغيرهم... الذين أسسوا لثقافة ما بعد حداثة. يمكننا القول آنئذ ما بعد الحداثة قد عجزت عن تقديم البديل عن الحداثة والمأزق الذي وقعت فيه. حسب ليوتار فقد اصبحت المعرفة سلعة من بين سلع اخرى. وانطلاقا من تحليله لوضعية المعرفة ما بعد الحديثة يشير ليوتار الى ان ما بعد الحداثة هي ما بعد ميتافيزيقيا، ما بعد صناعية، وهي ذات سمات تعددية. وهو يضع من ثم برنامجا لما بعد الحداثة يأخذ في الحسبان ثورة تكنولوجيا المعلومات داعيا الى خلخلة الاستقرار الذي تتمتع به المؤسسات والشركات المتعددة الجنسية، مناديا بفتح بنوك المعلومات لكل من يريد استخدامها. هو يدعو الى ديموقراطية الحصول على المعرفة. منظر ما بعد الحداثة ايهاب حسن ينقد الحداثة بقوله ان سماتها هي اللاتوجه وتعني: الالتباس، الانقطاع، هرطقة للخروج على المألوف، التعددية، العشوائية، التمرد، الشذوذ، التحويل التشويهي. والمفهوم الاخير يدل وحده على دزينة من المصلحات الواهنة حول التهديم: اللاـ ابدع، التحلل، التفكيك، اللامركزة، الانزياح، الانقطاع، التقطع، الاختفاء، الانحلال، اللاتعريف، اللاكيليانية، اللاشرعنة... اذا كانت الحداثة هكذا، فكيف تكون ما بعد الحداثة او «اللاحداثة» كما يسميها المسرحي الأميركي المشهور «روبرت لويل» عازيا هذا الموقف الى قلقه واضطرابه النفسي وتقلب مواقفه وتناقضها! وتطرّف آخرون فقالوا ان ما بعد الحداثة مصطلح يشير الى السير الى الوراء ومخالفة التيار السائد قولاً وفعلاً وتفكيراً.

يرى المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي في كتابه «دراسة التاريخ» إن عصر ما بعد الحداثة في الغرب سيهيمن عليه القلق واللاعقلانية وفقدان الأمل والعجز.

يجد «مالكولم برادبري» من يؤكد موت ما بعد الحداثة ومن يؤمد استمراريتها. يقول ان مصطلح ما بعد الحداثة يقصد به النتاجات الفنية التي جاءت بعد الحرب، وهي خليط من الفن التقليدي ومن فن «اللافن anti-art». تعني ما بعد الحداثة الفنية العودة الى الاصول ضمن مفهوم جديد. إن تيارات ما بعد الحداثة الفنية لسنوات الثمانينيات من القرن الفائت تتأتى مصادرها من أفق متعددة. حيث نجد تأثيرات فن الديكور الإسلامي بألوانه العالية المشرقة وأشكالها المنمقة القائمة على المناظر الطبيعية، وايضا الموضوعات الإباحية من الشرق، وايضا الاستعمارة من الخزف المكسيكي والهندسة المغربية. ونجد فيه ايضا تأثير الفن الشعبي »البوب آرت» وإيثاره الكليشيه والموضوعات او العناصر المطبوعة على النسيج الصناعي. تبقى ما بعد الحداثة على مسمع القديم والحقيقة الآلية في آن مع تأكيدها على الوظائف الجمالية. من جهة اخرى هناك التصاق مفتوح بتاريخانية مؤكدة موصولة بانتقائية وتعددية.

وهي بهذا تعارض عمل الطليعيين L’avant- garde حيث اخذت على عاتقها التهكم والسخرية والسقوط الوسخ لمافهيم الطليعيين. إن ما يميّز فناني ما بعد الحداثة (ولا سيما فناني الثمانينيات) وفناي المعاصرة هو العودة الى التقنيات التقليدية والفريسك والتصوير الزيتي والأكواريل والرسم والموزاييك والنحت بالحجر وبالبرونز كاحتجاج هائل لجيل الشباب بمواجهة الجيل القديم الذي اعلن نهاية فن التصوير la peinture. ونرى هيمنة وغلبة السخرية على اعمالهم كمحرك لما بعد ـ الطليعي، وعدم الاهتمام بمنابع الأفكار... هذا دون ان نشير الى اعمال فنانين غارقة في ابتذالها وطرحها وسخريتها وتطرفها (انظر كتابنا «رؤى تشكيلية حديثة ومعاصرة»، منشورات الجامعة اللبنانية 2008).

ما بعد الحداثة لمي غصوب

«مي غصوب»، الفنانة التشكيلية والباحثة، تتناول ما بعد الحداثة في كتاب لها بعنوان «ما بعد الحداثة: العرب في لقطة فيديو» بقولها ان العرب لا يسعهم تجاهل ما بعد الحداثة وان معتنقي ما بعد الحداثة ورموزها الفكريين لم يتفقوا حتى على تعبير «ما بعد الحداثة» اياه. تذكر ان (أمبيرتو إيكو) يكره تسمية ما بعد الحداثة على رغم اعتبار اعماله ما بعد حداثية بامتياز. وتشير الى ان التفكيك هو مكوّن اساسي من مكونات ما بعد الحداثة. وأن «ما بعد» تعني المستقبل.

أقامت غصوب سجالا متخيلا بين شخصين، الاول يمثل الحداثي، والثاني يمثل ما بعد الحداثي، حيث يرى الحداثي بأن ما بعد الحداثي لا يعبأ بخلق مجتمع جديد. لقد ترك مدنه تنمو عشوائيا بذاتها، باسم الدعوة الى ترك الناس يعيشون كما يرغبون. وان الحداثيين خلقوا موسيقى البوب وهي موسيقى الشبيبة المتحررة والثقافة السوداء. وأن الحداثي قاتل الظلامية ودافع عن حقوق الإنسان، وفصلوا الكنيسة عن الدولة وقطعوا مع الماضي وأزمته المعتمة. ليتهم الما بعد حداثي بأنه يريد المتعة والمتعة وحدها، وبفضله بات الإنسان لا يؤمن بشيء، وان ما بعد الحداثي مجرّد منظم او منسق، يؤمن بالتجاور... التجاور فقط. فيوافقه الما بعد حداثي على الوصف الاخير، ثم يتهم الحداثي بأنه اراد إسكان الفقراء فحشرهم في علب وصناديق اسماها مباني وظيفية. وانه رفع راية العقلانية، اما الذي حصدناه في آخر المطاف فكان مجتمعات توتاليتارية كما لو كان هناك مجتمع واحد وحقيقة واحدة. وقد اتهم الحداثي بأنه يفتقر الى السخرية والتهكم وينظر الى ذاته بجدية مفرطة. ثم يضيف ما بعد الحداثي قوله بأن الشعب لا يريد ان يعامل بأنه قطيع. فالحداثي يكره الذوق الشعبي، ويعتبر قيمه الثقافية متفوقة على قيم الاثنيات الاخرى ليذكر لينين كمثال بأنه بحث عن «طليعة» تنقل الوعي الى العمال. ثم يتهم الحداثي بأنه تجاهل الماضي ووضع العراقيل في وجه التخيّل المستقبلي. يفتخر ما بعد الحداثي بأننا نعيش متجاورين، الواحد منا لصق الآخر، وليس ثمة ما يحوجنا الى ان نحيا في تناسق كلي.

أما قضية التجاور فتحتل حيزاً مهما في فكر ما بعد الحداثي. فتعقيدات المدينة الغربية الحديثة تعطي فكرة عن هذا الشيء. ففي وسط المدينة، وعند الغروب، الدكاكين لا تزال مفتوحة... معظم الناس يهرولون للحاق بالقطار... محلات صينية وتركية وايطالية تبيع الوجبات السريعة. مناشير ضد التمييز العنصري في جنوب افريقيا، او ربما ضد التسلح النووي، او ضد اضطهاد الحيوان... سيدة تعرض عليك ان تقرأ كفك...

في هذه المدينة تفوح رائحة الطعام الصيني قريبا من سندويشات ماكدونالد، بجانبه مطعم فرنسي يمكنك ان تحتذي فيه نبيذا فرنسيا فاخرا. يمكنك ان تلبس الجينز او أي قطع من الثياب هندسها احد ألمع المصممين.

بلغة اخرى، تستطيع ان تعيش وتلبس وتأكل على ايقاع تزامن ثقافي يجعله الانتاج الكبير والاستهلاك الموسع الهائل الخيارات ممكنا. هي مفارقات في شوارع المدن الكبرى. لهذا لم يعد تعريف الزمان والمكان كما كان عليه في السابق. فالتجاور وتزامن الانماط والقيم والامزجة والاشكال والمباني والمساحات والحضاريات تشكل «القرية العالمية».

فما بعد الحداثي تجاور، بينما الحداثي هو تناسق. الحداثي يكره التعددية بعكس ما بعد الحداثي.

تعطي غصوب امثلة في الفن التشكيلي، فماغريت في غليونه «Ceci n’est pas une pipe» يود القول ان هذا ليس غليونا، بل صورته الزائفة، وهو ما يعتقده ما بعد الحداثيين. وتتطرق الى (أندي وارول) والتساؤل حول تمثيله للحداثة او ما بعد الحداثة حين نزع الخط الفاصل بين الصورة وبين صنع الصورة؟ وتذكر في هذا الاطار صورة مارلين مونرو. لتصل الى التساؤل حول الكومبيوتر بقولها ان ما نتلاعب به هل هو مجرد صورة على شاشة الكومبيوتر المحمول، ام ما نسجله عليه انما هو الواقع؟

ثم تذكر بعض الآراء لمفكرين رأوا ان ما بعد الحداثة هي نتيجة سيئة للحداثة، وانها تجريب... وان الحداثة نزعت القداسة عن الفن.

ثم تتطرق الى الحركة النسوية باستبدال التصورات الآحادية عن النساء وهوية جنسهن... وقضية الحب ما بعد الحداثي وتغيّر المعايير (ويعنى به السحاق واللواط).

أما دور الطليعة فينكره ما بعد الحداثي، وينظر إليه بقدر ملحوظ من السخرية. فمثقفي ما بعد الحداثة يصفون فنانيهم بـ«البدو الرحل» كنقيض لـ«الطليعة».

ثم تتطرق الى الموسيقى والفيديو والاغنية بصفتها ظاهرة بصرية توحد شبيبة العالم قاطبة، وتذكر أغاني مادونا ومناخها الجنسي البوروغرافي. ويبقى المجاز هو القاسم المشترك بالنسبة إليها بين كل الفنون والحركات والعلامات التي يستخدمها البشر. تتطرق الى الاعلان، كمسحوق الغسيل الذي يتعامل مع بله النساء بالحديث عن قيمة السلعة وفعاليتها.

فالمجاز والصورة الزائفة يرتبطان، في الحقبة ما بعد الحداثية، بعلاقة تكامل تشد بينهما، اذ ان كلا منهما غريب وبعيد عن فكرة الصدق...

ثم تذكر (بودريار) الذي يرى ما بعد الحداثة بأنها انطلاق الصورة من الواقع ثم الانقطاع عنه، ويعطي مثلا على ذلك حرب الخليج التي شاهدها في وسائل الاعلام المرئية والمسموعة ليقول بأن هذه الحرب لم تقع بل ان ما رأيناه هو صورة زائفة عنها ليس اكثر!

تتحدث غصوب ايضا عن مبدأ السخرية الذي يحدد ما بعد الحداثة، وتذكر العرب لتقول بأنهم بالغو الجدية حيال ذواتهم، فيما بعد الحداثة أشد انجذاباً الى العبث، كي لا نقول الى الخفة احيانا كثيرة.

ترى ان هندسة العمارة ما بعد الحداثية كثيرة التسلي وصولا الى الباروديا اللاعبة، الباروديا التي تعني الخلط بين الاشياء، كما تعنى الكيتش الواعي. تعطي امثلة عن افلام سينمائية كأعمال الايطالي (فلليني) باعتماده السخرية كما ظهر في فيلمه «روما». وتتطرق الى اعمال (توني غراغ) «الخبز المعفن» الذي نشره على امتداد غاليري تيت بلندن، او صوراً كصور «سندي شيرمان» لنفسها وهي في حالات وأوضاع مختلفة. وتعطي امثلة عن اعمال الفنان اللبناني محمد الرواس كونه استخدم السخرية بمزجه القديم والحديث متجاورين.

أما في هندسة العمارة فتعطي امثلة عن بيروت التي تمثل ازمنة ما بعد الحداثة بأبنيتها المنوعة (القديمة والحديثة) ووجود النراجيل ذات الزينة الشرقية الى جانب الأواني الاوروبية. وتتطرق الى هندسة المعماري (حسن فتحي) الذي أراد إنشاء «عمارة للفقراء» تكون تقليدية، غير مزينة، مادتها الطين الخالص.

وهناك ديزني لاند وشروطها الغريبة على موظفيها الذين لا يمكنهم صبغ شعرهم او لبس خاتمين في الأصابع، بل عليهم ان يلبسوا ثيابا داخلية ملائمة اثناء العمل... سعادة للبعض على حساب شقاء الآخرين.

تتحدث ايضا عن الحي الصيني في لندن كنموذج للديموقراطية الغربية. تذكر في مكان آخر (كونديرا) وروايته «خفة الكائن» الذي انتقد من خلالها مجتمع ما بعد الحداثي الذي يتخبط فيه.

لا مركزية الإنسان

يبقى أخيراً ان نذكر آراء المفكر «عبد الوهاب المسيري» في كتابه «الحداثة وما بعد الحداثة» ان الفكر الغربي يدور في اطار الفكر الإنساني الاستناري، ذلك الفكر الذي يمنح مركزية الإنسان ويؤكد عقلانيته ومقدرته على تجاوز ذاته وبيئته. بالنسبة لتاريخ بدء ما بعد الحداثة فتتعدد الآراء، كما حدث مع الحداثة، فيقول (المسيري) انه في عام 1963 نشرت سوزان سونتاج Suzan Sontag، الكاتبة الاميركية المدافعة عن السحاق، كتابا بعنوان «ضد التفسير»... فكثير من مؤرخي الفكر الغربي يعدون تاريخ صدور هذا الكتاب هو ايضا تاريخ مولد ما بعد الحداثة.

أما الروائية الانكليزية (فرجينيا وولد 1882ـ 1941) فقالت: إن الحداثة (او العالم الحديث) بدأت في ديسمبر سنة 1910 حين تغيرت شخصية الإنسان!! وقد أعاد (تشارلز ديكنز) صياغة عبارة وولف، واضاف بجدية ساخرة هي من سمات ما بعد الحداثة: إن الحداثة انتهت في 15 يوليو 1972 في تمام الساعة 3,32 عصرا تحديدا في الساعة والدقيقة اللتين شهدتا إزالة المشروع السكني Pruitt Igoe الذي صممه الحداثي (منورو ياماساكي) عندما قرر مهندسو مدينة سانت لويس الاميركية عدم صلاحيته، ويقول (روبرت راي): الحق أن مصطلح ما بعد الحداثة قد شاع بداية في مجال العمارة ثم تبنته الفنون والآداب، وبات أسلوبا جماليا ووضعا ثقافيا وممارسة نقدية وموقعا سياسيا وحالة اقتصادية.

يقول أن النموذج الانساني مر بمرحلتين: المرحلة العقلانية المادية الصلبة (الحداثة)، والمرحلة اللاعقلانية السائلة (ما بعد الحداثة). في المرحلة الأولى يصبح الإنسان إلها أو بديلا للإله او لا حاجة به إليه. أما في المرحلة الثانية فهو خاضع لحتميات الطبيعة ككائن زمني مكاني لا سلطة له على الطبيعة. فالإنسان حيوان لا يعرف غير التربص والافتراس والصراع وحب البقاء والأنانية والبحث عن المنفعة واللذة، شأنه في ذلك شأن الحيوان الأعجم، يعيش وحيدا منعزلا عن غيره من البشر المتربصين به.

انفصال الدال عن المدلول

قضية علاقة الدال بالمدلول تكاد تختصر قضية علاقة الحداثة بما بعد الحداثة. هي قضية علاقة العقل بالواقع، والإنسان بالطبيعة والذات بالموضوع، في نهاية الأمر علاقة الخالق بالمخلوق.

تشكل إشكالية علاقة الدال بالمدلول المدخل الحقيقي لدراسة فكر عالم اللغة السويسري (فرديناند دي سوسير 1857 ـ 1913) وأضع أسس علم اللغة البنيوي، الذي ذهب إلى أن علاقة الدال بالمدلول لا تستند إلى أية صفات موضوعية كامنة في الدال، ومن ثم فالعلاقة ليست ضرورية او جوهرية او ثابتة، فهي علاقة اعتباطية او عشوائية.

يقارن المؤلف بين الحداثة وما بعد الحداثة، فيقول ان الجسد يمثل الحداثة (المادية الصلبة) بينما الجنس يمثل ما بعد الحداثة (المادية السائلة)، وهناك فرق بين الاثنين.

يتطرق الى عالم الفنون التشكيلية فيذكر ان فن القرن العشرين هو فن مكعبات ومربعات ودوائر وألوان. ويصبح كل شيء مرجعية ذاته، مكتفيا بذاته، دون أي معنى أو مدلول في عالم مادي. أبرز ما يمثل ذلك الفن المفاهيمي، ويعطي مثالا على ذلك الفنان (بيير مانزوني) الذي كان يعلب برازه ويبيعه. يقارن المؤلف بين الفن ونيتشه حيث النظام عند كليهما نظام مؤقت وواقع وهمي لا توجد فيه حقيقة. يلغي نيتشه المساحة بين النص والحقيقة وبين المبدع والحقيقة بل بين نص وآخر.

يفند المؤلف (المسيري) مصطلحات الحداثة من خلال رؤية (دريدا) وتقسيم معجمه إلى قسمين: مصطلحات الثبات والصلابة، ومصطلحات التغير والسيولة.

المعنى عند (دريدا) يأتي من خلال علاقة الدوال ببعضها، وليس من خلال علاقة الدال بالمدلول... ليصل إلى القول إن ما بعد الحداثة ليست معادية للمنظومات الدينية فحسب، وإنما هي معادية للمنظومات الانسانية الالحادية ايضا. هناك معان بعدد القراء، فهي مجرد مجال عشوائي للعب الدول ورقصها... فتتعدد المعاني... قال دريدا ان استراتيجية دون غاية، وتفكيره لا هدف له... ثم أضاف قائلا انه يرضى بالجنون كعنوان لما بعد الحداثة.

علم آخر من أعلام ما بعد الحداثة والتفكيكية هو (ميشال فوكو 1936 ـ 1984)، مفكر فرنسي، يعتبر من آباء المدرسة التفكيكية. كتاباته ساخرة ومتشككة وعنيفة في راديكاليتها، وهي أيضا، مضحكة ولا أخلاقية في إطاحتها بكل تقليدي ملتزم. كتاباته تعكس فكر ما بعد ماركسية. كتب في الجنون وتاريخه، وفي الحمقى... يتوقف طويلا أمام جنون الفلاسفة والشعراء والأدباء والفنانين، أمثال نيتشه، ولدراين، آرتو، جيرار دورنيفال، غويا، فان غوغ، ساد... الخ. لكنه يقول أن هؤلاء المجانين الكبار قدموا روائع خالدة للثقافة وللإنسانية. أما قضية نهاية التاريخ فيرى هيغل ان التاريخ مقدس وله غاية محددة، وأنه سيصل إلى نهايته حينما تتحقق هذه النهاية. أما فلسفة ما بعد الحداثة فتعتبر قمة الثورة ضد الهيغيلية. التاريخ يصل إلى نهايته (فوكوياما) و(هنتنجتون): إن ما بعد الحداثة إعلان لنهاية التاريخ ونهاية الإنسان ككائن مركب اجتماعي قادر على الاختيار الحر، ليحل محله انسان ذو بعد واحد لا عمق له ولا ذاكرة ولا قيما. ان ما بعد الحداثة (ودائما حسب المسيري) هي في واقع الأمر الإطار المعرفي الكامن وراء النظام العالمي الجديد، هو عصر ما بعد الايديولوجيات وعصر نهاية التاريخ، وعصر ما بعد الانسان... هو عالم في حالة سيولة كاملة. ان النظام العالمي الجديد هو امبريالية عصر ما بعد الحداثة، اذ يجد الإنسان نفسه في عالم بلا تاريخ، تتفكك فيه علاقة الدال بالمدلول، وينزلق فيه الانسان من الخصوصية الانسانية والتاريخية الى عالم الطبيعة/ المادة والجسد والجنس والبراز والعدمية.

الحداثة وما بعد الحداثة مصطلحان أو كلمتان تختصران ثقافة الانسان المعاصر، بل قد تمتد جذورهما عبر العصور. هما لم يتأتيا من العدم بالرغم من عدمية طرحهما واختصارهما للإنسان إلى كائن لا همّ له سوى المنفعة واللذة وإن تعددت الشعارات والتسميات والمفردات والتبريرات. الحداثة أسلوب حياة وحاجة إنسانية رافقت الإنسان منذ وجوده الأول. بحثت عنه وبحث عنها. وجدته ووجدها. لقد غادر الإنسان جنته السماوية الأولى، وها هو يبحث عن خروجه الثاني من جنته الأرضية، التي تحول إلى إله فيها، إلى حيث التلاشي والعدم تحت عنوان الجنون الذي لخص فيه دريدا مسيرة هذا الكائن الباحث أبدا عن معنى لحياته، إذا بقي هناك من معنى.

تعليقات: