الشاعر عمر شبلي سجين يخترع زمانه ويطلق أحلامهُ كالقصائد المرتعشة

الأسير الشاعر عمر شبلي
الأسير الشاعر عمر شبلي


أسئلة كثيرة وهواجس تجرك إلى تجربة الشاعر والسجين في زنزانة كالقبر، ويبقى حياً بضعة عقود من الزمن؟ تلك حال شاعرنا عمر شبلي تأقلم مع الزنزانة – القبر، حياً، فكيف تأقلمتْ معه نفسه؟ وقصيدته؟ ما هو مفهوم الزمن لديه؟ وكيف يحلم؟ وكيف تتأقلم اللغة لتصبح قصيدة جديدة. أسئلة كثيرة مزدحمة والبياض يضيق بالكلمات

حوار مع الأسير الحالم الشاعر عمر شبلي...

* أمضيت سنوات طوالاً في السجون معتقلاً سياسياً، ماذا تركت تلك التجربة في وجدانك ونتاجك؟

- السجن حالة متناقضة مع فطرة الإنسان وكينونته، ولذا تنقص إنسانية الإنسان في السجون. وبمقدار ما يتحفز فيه وعيُه لنقصه يتحفّز فيه وعي آخر عميق كإنسانيته لاسترداد ما سُلِب منها، وخلق إنسانية أخرى بلا حفرٍ مظلمة فيها وبلا عاهات ترافقه طوال فترة سجنه، وبمعنى آخر يكون نضالاً إنسانياً مشروعاً بمقدار سمو الفكرة التي سجن من أجلها، ومع الوقت تغدو الحرية هي الغاية لأنها تضمر الموجود الأبهى كله. كان الفضاء ضرورياً، وكانت الشمس إغراء شهياً، والخروج من الزنزانة/ القبر خروج من الظلمات التي تحتل الروح قبل المكان، وقتها بدأت أعي لماذا اقترن الحزن بالسواد، ولماذا نلبس الأسود في المآتم، وكأننا نقول للناس إننا في منطقة الحزن فأخرجونا منها بمواساتكم. في السجن تدرك معنى الحرية كوجود وليس كشعار سياسي، تدرك أن اعتقال الحرية يعني حذف الإنسان وإلغاء ارتباطه بحقه في كينونة مكتملة غير منقوصة. ومن هنا تدرك حدَّة الانتماء للحياة عند السجين وحدَّة نضاله من أجلها.

زمن الأسر كالفيل

* كيف تنظر كشاعر لمفهوم الزمن داخل السجن وخارجه؟ كيف كنت تضع زمنك أنت؟

- يجثم الزمن كالفيل على إحساس الشاعر ويمنعه من استنشاق الهواء. الزمن يُلْغَى في السجن سوى زمنك الخاص الذي تحاول خلقه باستمرار عبر الحلم، وبكثافة تكرار الحلم تدخل في يوغا من نوع يجعل الواقع ملغى ويصبح الحلم هو الواقع، وتكون قدرة الإنسان في تفوقه بقتل الواقع وخلق الزمن الآخر حتى لكأنك فيه. وتحس وأنت تمارس حلمك أنك تشارك الله في الخلق عبر تكوين "فراديسك المفقودة". يبدو أن الذي يشدنا للحياة هو الشوق لمعرفة الآتي بشكل متجدد، فإذا كنت سجيناً، ولا تعرف مدة سجنك، تموت لديك الرغبة في الحياة لأنك تعي تماماً أن اليوم كالغد، وهذه السنة كالسنة القادمة، وهكذا يتحول الزمن إلى رماد جاثم فوق وعيك وإحساسك، وبانقطاعك عن الناس تشعر أن الزمن واقف، وتصبح مشتاقاً لاجتيازه، ولو عبر الموت وأرض السكلوب وجزر الساحرات. الزمن الذي يخلو من المفاجأة هو موت في حياة لا يتحرك فيها شيء، ومتى تدخل في الحلم تدرك لتوِّكَ أنك في مقبرة مهددة بالحياة. الحلم هو الحياة الحقيقية في المعتقلات الطويلة المدد، والضيقة المكان.

كانت الغربة تتسع في داخلي، وبدأت أغترب أكثر عن وعيي الخارجي، وبخاصة في سنوات الانفرادي التي كنت فيها وحدي والتي استمرت عشر سنين، أما سنوات الأسر الأخرى التي قضيتها مع الأسرى فقد كانت شيئاً مختلفاً تماماً، لقد شعرت وأنا أدخل في معسكر الأسرى بعد عشر سنوات من الانفرادي أنني عائد إلى لبنان.

لا يمكن للإنسان أن يعي أهمية الوطن وشدة التصاقه بالعمق الإنساني إلا في حالة فقد الوطن وهروبه من تحت قدميك ومن محيطك اللاّحيوي الذي تتنفس فيه الغربة باستمرار ومن روحك التي لا يشبهها إلاّ تفاصيل الوطن. ولشدة احتياجي إلى وطن رحت أؤسس وطناً في اللغة، ولم يعد الوطن رمزياً لشدة كثافة إحساسي بحضوره.

* كيف يحلم المسجون؟ كيف يتأقلم الحلم مع المكان الضيّق؟ كيف يحلّق خارج أسوار السجن؟

- رحت أصرّ على تنمية خيالي عبر تدفق الحلم بعد ممارسات روحية عميقة، وكنت متأكداً أن الخيال المهزوم لا ينقذ، ولا يجعلك قادراً على اجتياح المساحة الزمنية المرعبة التي تحيط بك. وسيجعلني جثة في قبر غير جميل.

أما المرأة فهي بالنسبة للإنسان المعتقل الفردوس المفقود، كما كان حضورها ضرورياً في تلك الغربة التي تشبه الموت، المرأة في السجن يعدل حضورها الحرية، وهي لا تبرح السجن أبداً وحضورها فيك هو عذاب بمقدار ما هو حلم ضروري لاستمرار دقات القلب في ذلك الصدر المحشوّ بالقهر والغربة والظلام، لا يمكن أن تتحقق فردية الإنسان إلا من خلال تلك الثنائية، وانشطار المرأة عنك في ظروف صعبة لا يتيح لك المجال لتكون سوياً، للمرأة في الأسر أسماء أخرى هي أشهى ما يُقدَّم على مائدة وجودك الإنساني:

أحبيني، فإن الحب في المنفى يساعدني

وينقذني من الحجر

فقد تُلْغي بنفسجةٌ بنفح عبيرها صحراء

ويملأ غابةً عصفور

أحبيني، فأنت الدفء في "رينا" وأنت النورْ

في الشعر ما يشبه الفرح

* الكلمة في عتمة السجن وعتمة الدماغ كيف تنمو؟ كيف تتجدّد خلاياها؟ كيف تعاني القصيدة؟

- على المستوى الشعري فقد صارت الكلمة جزءاً من لحمي الحي، وبدأ الشعر يغريني بهزيمة الوقت الذي لا يتحرك. كان الشعر هو القطار، والهواء والأفق، كان ترجمة لإرادة الحياة فيَّ، ولم يكن ترفاً لنيل شهرة أو حضور لا يعني في النهاية إلا مزيداً من الاغتراب الحقيقي. كان الشعر بديلاً للموت، ودخولاً في الشمس، وبمقدار ما كان المكان يمنعني من الحركة كان الشعر سفراً رغم السجن والسجان والجدران السميكة والأسلاك الشائكة العريضة، كان الشعر يعني حضور المكان الآخر، وكان إلغاء للموت والحصار والمنفى. كتبت في الأسر كثيراً من القصائد أصدرتها بعد خروجي من السجن في "العناد في زمن مكسور" و"إن الخلود متاعٌ سعره الجسد" و"الحجر الصبور". ومن الطبيعي أن الشعر هذا خرج معي في ذهني وليس على ورق، وأعتقد أنني استطعت أن أكون نفسي فيما كتبت بكل ضعفها وقوتها أمام تجربة السجن التي استمرت عشرين عاماً. تجربتي الشعرية في السجن هي أنا بكل ما فيّ من تقلبات وتحولات داخلية، كان الخارج ملغى تماماً، وكان مستبعداً من وجداني وحاضراً كالجرح، ولذلك كان الشعر يشبه الضماد لنفس ممزقة ومجموعة في زنزانة. كان في الشعر ما يشبه الفرح لأنه كان يلغي كثيراً من الساعات القاسية، كنت أرتاح أثناء الإقامة في الشعر، وهكذا أصبح الشعر موازياً لاستمراري متعلقاً بأمل الخروج من جوف الحوت والذي لم أكن أسمع في جوفه سوى صرير الباب الذي كان قلبي يصرّ معه تماماً. كان لانفتاح الباب شيء في داخلي يجعلني وكأنني أهيئ نفسي للخروج، وحين يُغلَق كان ينغلق معه شيء في داخلي. كان الباب في حالتيْه ضوءاً وانطفاءً، وبين الحالتين كنت أشعر بانهيار عوالمي، ثم أحاول بناءها ثانية في محاولة شعرية جديدة. بهذا المعنى كان الشعر عندي أحد وسائل ملامسة الحرية بكل ما فيها من إغراء، ومن هنا كانت أهمية أن تكون شاعراً في سجن، وقتها يصبح الشعر كيمياء التحول والتجوال في الممنوع، ويصبح ضرورياً لبقائك إنساناً غير مخترق ومتصلاً بالممنوع الذي لا يأتي إلا في بريد الشعر، كانت الحرية تتناوأ علي من خلف باب اسمك من جدار القبر. ويخطئ من يظن أن الشعر الملتزم بقضايا الإنسان الكبرى هو شعر أيديولوجي. إنه أعمق من الأيديولوجية، وأبقى من أي ترف شعري يغري ويسلي، ولا يسافر بقوة في العمق الإنساني المتحفز للخروج من معتقل الروح، ولذلك يصبح جزء منك في الخارج وجزء في داخل السجن في تناوب عجيب يذر على باب الزنزانة السميك مزقاً من روحك وقلبك. إن الشعر بهذا المعنى يفسر التجارب الصعبة، ويدخلها في ما بعد باستمرار. لعل الأسر أصعب تجربة يمر بها الإنسان. أما قضية الإعدام فلا يعوزها إلا قرار جريء، ويصبح بعدها كل شيء سهلاً. الأسر موت طويل طويل لا يعدله الموت نفسه.

* النفس هل تُسجن مع السجين أم تتأقلم هي الأخرى؟ أما أنها تألف قبرها؟

- على المستوى النفسي غسلتني تجربة الأسر من كل البقع السوداء التي تعلق بالنفس البشرية في تجربتها بين مشيمة الزنزانة والمشيمة الأخيرة/ القبر. وانتفت حالة عداء الآخر من وجداني، كنت أحسّ أحزان الحارس القادم من أذربيجان أو كردستان وتلك المناطق البعيدة، إنه يشبهني في الأسى وهو يغني أغانيه الحزينة لحبيبته في تلك الأصقاع البعيدة. لم نعد سجيناً وسجاناً، كنا متوحدين إلى أقصى ما يجمع غريبين في تلك الليالي العاصفة في "آراك" و"رينا" المتكئة على خصر "دماوند" العظيم. كان بيننا حالة ولغة لا نفترق بهما إلا أمام الموت. لقد انتفى العداء من داخلي، وبعد خروجي من السجن أهديت كتابي الذي ترجمت فيه شعر حافظ الشيرازي إلى سجاني النبيل مصطفى خزاد والإنسان الإنسان "خوشهنك". إن الحزن في النفوس الكبيرة أهم معقم لها من أدرانها.

خيانة الوعي

* كيف تحدد دور المثقف العربي اليوم؟

- المثقف العربي اليوم أشبه بالانتحاري لصعوبة ما ينتظره من عيون وعسس وغرف ضيقة رطبة مملوءة بالليل والكرابيج الثخينة والروائح المنتنة، والأصوات التي لا تبرحها لمعذبين سابقين، فقد يخرج المسجون ولكن أصوات روحه وأنينها لا يبرحان أبداً يسمعهما السجين الوافد. المثقف إذن هو جندي محارب، وعليه أن يكون ناقداً باستمرار وجارحاً باستمرار، حتى ولو كان في بلاد نظامها صحيح. إن الصحيح بحاجة دائماً إلى تصحيح. المثقفون جنود في معركة دائمة، هذا قدرهم. أما مثقفو السلطة فهم كالعملة المزيفة، بل هم خونة القضايا الكبرى لأنهم يلمِّعون أخطاء السلطة لتبدو مضيئة أمام الشعب المظلم المظلوم، ولكنهم في الحقيقة يقتلون الحقائق بالمال الحرام والإعلام الكاذب. إنهم يحتجزون تطور الوطن، وبذا فهم أخطر من الجهلة، وهم يشكلون بزيفهم علاقة الانسداد بين الوعي والضمير، وهم ليسوا أكثر من أشكال الظل للسلطات القائمة. إن أصعب ما في الإنسان هو خيانة وعيه، وخيانة الوعي مفسدة لا صلاح بعدها. إن المثقف حين يصبح صوتاً للإيجار يتحول من مثقف إلى موظف في "المنطقة الخضراء" مع أن المهمة الحقيقية للمثقف يجب أن تكون بإدخال الخوف إلى هذه المناطق الخضراء، وما أكثرها في بلادنا العربية، والشعب ذو قدرة عالية على التمييز بين المثقف والموظف، لأن المثقف السلطوي لا يمكن أن يلمس روح الشعب مهما كان بارعاً، فمن أية طينة أولئك "المثقفون" العملاء الذين يتعاملون مع قاتل أهلهم، على المثقف أن يعود إلى المعركة حتى ولو جبن حيناً وصادرت المناطق الخضراء صوته، عليه أن يكون كالمتنبي الذي أعاده شعره إلى المعركة وليس خادمه، لقد خجِل من ثقافته فقرر الموت إلى جانب شعره الخالد، وبذلك وحده هزم الموت، ودخل فينا، الوعي لا يكون كاملاً إلا مشتبكاً، والعاصفة تقول لنا منذ اندلاعها إن الماء ليس هو الذي يحدد مزاج البحر، إن الرياح القادمة هي التي تفعل ذلك، والرياح هي قوة الثقافة التي هي أعلى من أية قوة.

كادر:

عمر شبلي

- سنابك الفجر مسرحية شعرية عن العمل الفدائي 1969. عن الألوان وخرائط الموت 1970. الدخول في زمن الجرح والذاكرة 1974. الشاعر السفير (دراسة لشعر عمر أبي ريشة). العناد في زمن مكسور، شعر، بين 1981 – 2000. إن الخلود متاع سعره الجسد (شعر)، بين 1981 – 2000. الحجر الصبور، شعر، بين 1981 – 2000. والمجموعات الثلاث كتبت في الأسر. على أي جرح توكأت حتى وصلت، شعر، 2006. ترجمة ديوان "حافظ الشيرازي إلى العربية شعراً، و"الثقافة العربية" عن دار الطليعة - بيروت. تكرار خلق الحلم. الطريق من غوانتناموا إلى أبو غريب.

تعليقات: