500 ألف سيارة تبحث عن مرائب في بيروت يومياً و12 ألف مخالفة في أسبوع

تتكرر مأساة مواقف السيارات كلما ادار السائق محرك سيارته في العاصمة
تتكرر مأساة مواقف السيارات كلما ادار السائق محرك سيارته في العاصمة


من ينجح في ايجاد موقف لسيارته في بيروت داخل مرأب عام او في الامكنة المخصصة لركن السيارات يربح موقفا مجانيا لمدة سنة كاملة في اي مكان يزوره في العاصمة وضواحيها. يصلح استخدام هذه المعادلة في اي من برامج الجوائز على شاشات التلفزيون المحلية احتفاء بانتهاء السنة الحالية واستعدادا لاستقبال سنة جديدة. ومما لا شك فيه ان هذه الجائزة ستكون افضل الجوائز واثمنها، ومن سيربحها سيدرج في خانة اكثر المحظوظين لسنة 2010. ومن يعتقد عكس ذلك، ما عليه سوى اثبات وفرة المرائب والمواقف لاستيعاب آلاف السيارات التي تجتاح العاصمة يوميا، والا فليصمت الى الأبد.

ليس من ازمة تضاهي ازمة السير سوءا وحرقا لاعصاب اللبنانيين سوى ايجاد موقف للسيارة في العاصمة. فبعد ساعات يمضيها المواطنون عالقين داخل سياراتهم في زحمة تحولَ الحديث عنها اشبه بعلك الصوف، يصلون الى مقصدهم ليعيشوا مأساة من نوع آخر تتمثل في البحث عن مكان مناسب يوقفون فيه سياراتهم. ولكنهم غالبا ما لا يجدونه، مما يضطرهم الى المكوث اوقاتاً اضافية مسجونين داخل سياراتهم يجولون في الشوارع علهم يُوفقون، فاذا بهم يقعون مجددا في فخ زحمة السير ليتحولوا في لفّهم ودورانهم هذا، احد اسباب الزحمة و ضحاياها في آن واحد.

قد يعتبر البعض ممن لا يمكلون سيارات طبعا، او ممن لديهم سائقون خاصون يتولون تدبير الامر، علما ان ثمة من استعان بسائق خاص لحل "معضلة" البحث عن موقف، او من المسؤولين الذين تقفل الطرق العامة كرمى لمواكبهم الخاصة، ان الازمة مفتعلة، لان المواطنين لا يرغبون في دفع بدل ركن السيارات في المرائب العامة. ولكن فات هؤلاء ان هذه المرائب تفيض بالسيارات خلال دقائق معدودة من فتح ابوابها مما يجعل دخولها شبه مستحيل مهما حاول السائق اغراء صاحب المرأب بدفع أضعاف التعرفة التي باتت تخضع لنظام الساعات. وكلما طالت اقامة السيارة في الموقف ارتفعت قيمة البدل المالي. فالمسألة عرض وطلب، والمساحات الفسيحة المخصصة لركن السيارات في حال من التقلص المستمر لمصلحة انشاء ابنية فاخرة، بعدما أُلغي القانون الذي كان يفرض على مالكي الاراضي تحويلها مرائب للسيارات لمدة سنتين قبل بدء اعمال التشييد. اما السبب فيعود الى شكوى المالكين من تعطيل مشاريعهم طوال هذه المدة، مما يؤثر سلبا في مصالحهم في ظل ارتفاع مواد البناء وكلفة الانشاء عموما. وبدلا من ان تبادر بلدية بيروت الى تشجيع اصحاب العقارات المهملة الى استثمارها وتحويلها مرائب للسيارات، اصرّت على تقاضي الرسوم البلدية المتوجبة عليهم جراء توظيف هذه العقارات، مما دفع اصحابها الى الإحجام عن تشغيلها، وخصوصا ان كلفة الرسوم احيانا تفوق قيمة الارباح التي يمكن تحقيقها.

مواقف عامة... للخاصة

تتكرر مأساة مواقف السيارات كلما ادار السائق محرك سيارته، وايا تكن وجهته في العاصمة ومداخلها وضواحيها. وبين زحمة السير الخانقة ومأساة ايجاد موقف للسيارة، بات كثيرون يفضلون التنقل مشيا اذا كان الطقس يساعد على ذلك. ولكن المشكلة ان لا اماكن مخصصة للمشي بعدما تحولت الارصفة بدورها امكنة يوقف فيها المواطنون سياراتهم غير آبهين بضبط المخالفة الذي سيعلق على الواجهة الامامية لمركباتهم الآلية، وخصوصا ان معظمهم لا يبادر الى دفعه بل يمزقه ويرميه ارضا او يهمله وينسى الامر، لان ما يهمه قد تحقق، وهو ركن السيارة. وبالنسبة الى البعض هناك ما هو اهم: اثبات "شطارته" والتذاكي على الدولة التي لم تحلّ مشكلته، فاضطر الى حلها على طريقته. وهذا يعني مثلا ركن السيارة تحت اشارة "ممنوع الوقوف" او في ما يعرف بـ"الصف الثاني". ويشير مصدر في قوى الامن الداخلي الى ان "القوى الامنية نظمت اكثر من 12 الف محضر ضبط خلال اسبوع واحد بحق السيارات المركونة في اماكن ممنوعة". مما لا شك فيه ان المواقف العامة التي استحدثتها بلدية بيروت على جنبات الطرق الرئيسة ساهمت الى حد معين في ايجاد حل للأزمة، ولكنه حل غير كاف وخصوصا ان اعداد السيارات التي تدخل العاصمة يوميا تبلغ نحو 500 الف سيارة وفق ما يؤكد المصدر نفسه. فكيف للمواقف المستحدثة ان تستوعب هذا الدفق الهائل يوميا الذي ترتفع نسبته في المناسبات والاعياد كما هو الحال هذه الأيام؟

ولو بقيت المواقف العامة للعامة، لكانت الازمة أقل وطأة. ولكن المشكلة ان جزءا كبيرا منها يتحول مواقف خاصة ولا سيما عندما يصادف وجودها امام المطاعم والمقاهي واحيانا المحال التجارية، اذ يسارع اصحاب هذه المراكز الى وضع اليد عليها ومنع السائقين من استخدامها بحجة انها "ملك خاص" لصاحب المتجر. والنقاش هنا لا يؤدي في معظم الاحيان الى نتيجة حتى ولو كان صاحب السيارة ينوي زيارة المطعم او المقهى الذي استولى بالقوة على المكان. وعندها يأتي دور الـ"فاليه باركينغ" الذي يعرض خدماته لأخذ السيارة الى مكان آخر، لأن المكان يفترض ان يبقى فارغا في انتظار زبون آخر قد يصل في اي لحظة. هذه الظاهرة تتكرّر في اكثر من منطقة وشارع في بيروت وسط محاولة ايحاء صاحب المطعم او المقهى ان الموقف ملك له. وقد تنطلي هذه الخدعة على المواطنين الذين يظنون ان البلدية أجّرت فعلا هذه المواقف. ولكن نائب رئيس بلدية بيروت توفيق كفوري ينفي ذلك، مؤكدا ان "البلدية لم تؤجر ايا من المواقف العامة اينما صادف وجودها. والاستثناء الوحيد في هذا الاطار هو "موقف لحظة" للصيدليات. واكد كفوري ان "حجز هذه المواقف هو تعد على الاملاك العامة. اما معاقبة الفاعلين، فليست من صلاحيات البلدية التي لا تملك رافعات لازالة هذه المخالفات، بل تندرج في صلب مهمات القوى الامنية".

ورغم صحة هذا الكلام، فان القوى الامنية لا تستطيع ان تعاقب الفاعلين لأن حجز الامكنة يتم عمليا بأسلوب قانوني، او بالاحرى بتحايل على القانون. هذا ما يؤكده المصدر في قوى الامن الداخلي مشيرا الى ان "اصحاب المطاعم والمقاهي يشترون بطاقات لحجز الموقف تماما كما يفعل المواطنون، مع فارق بسيط انهم لا يركنون فيها سياراتهم، بل يوقفون"الفاليه باركينغ" مزودا البطاقات التي تم شراؤها والتي يرفعها في وجه المراقب في حال جاء ليحرر مخالفة"!

ولكن ماذا عن الذين يحجزون الرصيف المحاذي لمتاجرهم؟ هذا مشهد نمطي يتكرر في الشوارع الداخلية والاحياء السكنية، اذ غالبا ما توضع الكراسي البلاستيك امام الملحمة او متجر بيع الدجاج او الدكان او المصبغة.

الـ"فالية باركينغ"

لا شيء يعصى على اللبناني فعلا. فكل ازمة لها حلها وكل قانون له مخارجه ومداخله. ومحاولات التغلّب على ازمة المواقف بدأت مع "الفاليه باركينغ" الذي اصبح اختراعا لبنانيا بكل معنى الكلمة، وخصوصا انه يتناسب مع تطلعات اللبنانيين الاستعراضية وعشقهم للمظاهر. اذ من المعيب في العرف اللبناني ان يوقف رواد المطاعم والنوادي الليلية سياراتهم في المرائب المجاورة ويمشوا قليلا حتى بلوغ مقصدهم. وتقضي "الاصول العصرية" بأن يترجلوا من سيارتهم على باب المطعم بكل هدوء واستخفاف بالابواق التي تزعق خلفهم لأنهم منهمكون في الحديث على الهاتف الخليوي الذي يثبتونه على اذنهم مستعينين بكتفهم بسبب انهماكهم في الوقت عينه بارتداء معطفهم.

صحيح ان تسمية الـ "فاليه باركينغ" عبارة اجنبية ليس لها ما يقابلها باللغة العربية، لكنها تحولت فجأة خصوصية لبنانية يجري حاليا تصديرها الى الغرب. اذ يروي المصدر في قوى الامن الداخلي ان "زميلا له زار اخيرا العاصمة الفرنسية، و"كانت دهشته كبيرة حين اكتشف ان الـ"فاليه باركينغ" في الفندق لبناني". ويعلق على الرواية: "اللبنانيون يصدرون عاداتهم السيئة الى الخارج". اذ كما هو معروف، لا وجود للـ"فاليه باركينغ" في الدول المتحضرة او حتى المتخلفة سوى في الفنادق الفاخرة او المجمعات السياحية الضخمة، وليس كما هي الحال في لبنان حيث بات يعتمد على هذه الشخصية في الجامعات. هذا ما تؤكده احدى السيدات التي تقيم في الخارج، وجاءت الى لبنان لتمضية الاعياد. وفوجئت في زيارتها لاحدى الجامعات في بيروت بوجود "فاليه باركينغ" على مدخلها يتولى الاهتمام بسيارات الطلاب.

الحاجة أمّ الاختراع. تلك هي القاعدة الذهبية التي يطبقها اللبناني في ادق تفاصيل حياته لتصبح اقوى من القانون وخصوصا اذا وضعت القوى السياسية يدها على المشاريع التي تنتجها هذه القاعدة والتي تدرّ عليها اموالاً طائلة. وتؤكد مصادر مطلعة ان معظم شركات الـ"فاليه باركينغ" تحميها قوى سياسية نافذة. والانكى ان هذه الشركات المحمية تفرض على المطاعم والمقاهي والنوادي الليلية التي تشهد حركة رواد كبيرة، التعامل معها تحت طائلة إلحاق أضرار بالسيارات وتخريب الممتلكات.

ازاء هذا الواقع تجد القوى الامنية نفسها عاجزة عن معالجة هذه الظاهرة التي تحولت "معضلة" فعلية تحتاج الى حل سريع، وخصوصا انها تسبب مشكلات عديدة، وتضاعف ازمة الازمات في لبنان، اي السير.

ويتطلب الحل اولا ايجاد قانون ينظم عمل شركات الـ"فاليه باركينغ" التي فرضت نفسها على الساحة ونمت خلال الاعوام الاخيرة بشكل جنوني لتصبح مافيا لها قوانينها وقواعدها الخاصة التي تشكل نسخة منقحة عن اعمال "القبضايات" في خمسينات القرن الماضي.

• قضية جديدة تضاف الى ملف السير الذي وضع على بساط البحث بكل تشعباته وتعقيداته في انتظار ايجاد الحل الشامل له.

تعليقات: