مـــن ينتـــشل الصنــــدوق الأســــود؟

 لم يحمل البحر أي جديد لعائلة فؤاد وعباس جابر التي حضرت الى شاطئ خلدة
لم يحمل البحر أي جديد لعائلة فؤاد وعباس جابر التي حضرت الى شاطئ خلدة


الرحلة 409 في يومها الخامس..

بصوت مبحوح، يكاد لا يخرج من صدرها، كانت شقيقة الأخوين فؤاد وعباس جابر اللذين فقدا في حادث تحطم الطائرة الإثيوبية فجر الاثنين الماضي، تخاطبهما أمام شاطئ البحر في منطقة خلدة حيث غرقت الطائرة، وهي تتمرغ في رمال الشاطئ، حاملة صورهما مضمومة إلى صدرها. لم تغفر السيدة لنفسها «جريمة» أنها أوصلتهما بنفسها إلى المطار. هكذا، كانت تخاطب البحر بلوعة: «اعطيني إخوتي، كيف ما كان شكلهم، هاتهم». لكن الشاطئ لم يكن مقصد الأهالي المفجوعين فقط. ففي اليوم الخامس تحوّل شاطئ خلدة إلى مقصد لسياح عرب وأجانب عكفوا على التقاط صور اليمّ الأزرق، لا بل إن بعضهم كان يقف في الصورة... التذكارية!

لا جديد في عملية البحث عن طائرة البوينغ 737 التي تحطمت وعلى متنها 90 شخصاً، بينهم 54 لبنانياً. وقال وزير الأشغال والنقل، غازي العريضي، لوكالة فرانس برس: البحث مستمر. أنهت الفرق المختصة عملية مسح نحو ثلثي المنطقة التي تم تحديدها بعد التقاط إشارات الصندوق الأسود». وكان قد أعلن أول من أمس أن مساحتها 49 كيلومتراً مربعاً تبدأ على بعد 14 كيلومتراً من الشاطئ بعمق يصل إلى 1500 متر. وقد واصلت الباخرة المدنية المتخصصة، «أوشن ألرت»، مسحها الشامل على أمل تحديد المكان بدقة. وكانت المدمّّرة الأميركية «يو اس اس راميدج» العاملة مع القوات البحرية اللبنانية والدولية قد التقطت مساء الأربعاء إشارات بثّها الصندوق الأسود وتمّ على أساسها تحديد منطقة المسح. ورغم عدم القدرة على رصد أعمال المسح بالعين المجردة من البر، فإن العديد من الإعلاميين تجمّعوا على طول الشاطئ المحاذي للمطار بهدف التقاط أي خبر جديد. لكن البحر لم يرجع أحداً، كل ما كان يرميه أجزاء من حطام الطائرة والمزيد من المقاعد وسترات نجاة جمعها فريق الدفاع المدني. ويقدر الخبراء أن بقية الجثث غرقت مع هيكل الطائرة لكونها مربوطة بأحزمة الأمان. وشهد مطار رفيق الحريري الدولي، أمس، اجتماع عمل برئاسة المدعي العام للتمييز القاضي سعيد ميرزا في المديرية العامة للطيران المدني، حضره عدد من المسؤولين والضباط اللبنانيين، إضافة إلى الأعضاء الأجانب في لجنة التحقيق المشتركة. وبحسب بيان صدر بعد الاجتماع، تم وضع خطة عمل موحدة للأيام المقبلة سواء كان لجهة حفظ الأدلة (حطام وأمتعة) أو لجهة التحاليل المخبرية للحمض النووي، أو لجهة التشريح بالنسبة إلى جثث طاقم الطائرة فقط، على أن تتخذ اللجنة من المديرية العامة للطيران المدني مقراً لها، وقد أعطيت حق استيضاح من تشاء من العاملين في المطار أو خارجه بعد التنسيق لجهة التبليغ مع قيادة جهاز أمن المطار. ويعتبر الملحق الثالث عشر لاتفاقية الطيران المدني الدولي (ايكاو) وثيقة مرجعية للتعاطي في مسائل التحقيق بحوادث سقوط الطائرات. ويحدد هذا الملحق حقوق الدول التي يجوز لها المشاركة في التحقيق ومسؤولياتها، وهي الدولة التي يقع فيها الحادث (لبنان) ودولة التسجيل ودولة المشغل (إثيوبيا) ودولة تصميم الطائرة ودولة صنعها (الولايات المتحدة الأميركية). وكان لبنان قد طلب انضمام فرنسا إلى اللجنة، علماً بأنه يحق لها وفقاً لاتفاقية (ايكاو) أن تشارك لكون زوجة السفير الفرنسي في لبنان هي واحدة من ضحايا الطائرة. وليس معلوماً ما إذا كانت سوريا والعراق وبريطانيا وغيرها من الدول التي لديها رعايا على الطائرة، قد طلبت الانضمام إلى اللجنة. وقد أكدت مصادر مطلعة لـ«الأخبار» أن الفريق الإثيوبي هو الذي أصرّ على مطلب التحقيق مع العاملين في المطار، لكونه منزعجاً من الفرضية التي تحدثت عن مخالفة الطيار للتعليمات التي أعطيت له من برج المراقبة. وكان عدد من المسؤولين اللبنانيين قد أفاد بأن الطيار الإثيوبي الذي يتمتع بخبرة 20 عاماً، لم يلتزم توجيهات برج المراقبة بعيد إقلاعه في جو عاصف للغاية. وتفيد المعلومات بأن الرئيس السابق للمكتب الفرنسي للتحقيق في حوادث الطيران بول لوي أرسلانيان (شارك في تحقيق طائرة كوتونو عام 2003)، سيقوم بالدور الرئيسي في التحقيق الجاري، وليس مستبعداً أن يحدث اختلاف في وجهات النظر بينه وبين الفريق الإثيوبي أو اللبناني. ما يرجح هذه الفرضية سجل أرسلانيان في أكثر من حادثة، والتي خلص فيها إلى مسؤولية قائد الطائرة. فأثناء تحقيقه في حادث سقوط طائرة البوينغ 737 التابعة لشركة فلاش إير المصرية، في الثالث من كانون الثاني 2004، تناقض تقريره مع التقرير المصري الذي رجح فرضية العطل الفني في الطائرة. وفيما يجمع المحققون على أن المعلومات المخزّنة في الصندوق الأسود وصندوق تسجيل أحاديث قمرة القيادة، هي التي تحسم الفرضيات، فإن التحقيقات في الحوادث السابقة تشير إلى أن العثور على الصندوق الأسود ليس نهاية المطاف. ويعدّ وجود محقّقين لبنانيين على متن الباخرة التي ستنتشل الصندوق الأسود أمر بالغ الأهمية، وليس معلوماً ما إذا كان هذا الأمر قد نوقش خلال اجتماع المطار أمس، علماً بأن المهم ليس وجود هؤلاء شكلياً، بل في إعطائهم صلاحية الاطلاع على عمل السفينة بالتفصيل، لتفادي اتهامات لاحقة بإخفاء أدلة، على غرار ما قامت به اليمن ضد فرنسا في حادثة طائرة «إيرباص 310 ـ 300» التي سقطت في ٣٠ حزيران ٢٠٠٩. تجدر الإشارة إلى أن أرسلانيان قدّم تقريراً فنياً عن التحقيق في حادثة طائرة كوتونو أواخر عام 2004، لكن التقرير النهائي لم يظهر إلى اليوم.

حكايات عن مآسٍ شبيهة وعمليات انتشال من الأعماق

شهيرة سلوم

كثيرة هي حوادث الطيران التي تشبه مأساة الطائرة الإثيوبية، لجهة مأزق انتشالها من المياه. سيناريوات متنوّعة للأسباب: التعرض لصاعقة أو عطل تقني أو حتى تلميح لاعتداء؛ جثث الضحايا بعضها عاد، وبعضها الآخر أبى البحر أن يُعيدها، ابتلعها كي ترقد بسلام في أعماقه، وهل هناك سلام أعمق من هذا؟ وللصندوقين الأسودين حكايات لا حكاية واحدة، إن وُجدا تجد المأساة من تضع اللوم عليه وتُزيح ألم الغموض عن أهل الضحايا، وإن لم يُعثر عليهما يصبح المجهول سبباً لخلق حكايات لا حدود لخيالها.

قبل نحو 7 أشهر، سقطت طائرة ركاب فرنسية على متنها 228 راكباً، بينهم 5 لبنانيين، تابعة لشركة «إير فرانس» من طراز «إيرباص» فوق المحيط الأطلسي، إثر تعرضها لاضطرابات جوية شديدة خلال رحلتها من ريو دي جانيرو إلى باريس.

وكانت الطائرة قد حلّقت في جو عاصف لأربع ساعات بعد إقلاعها، وبعدما وصلت إلى مسافة بعيدة فوق سطح البحر، أرسلت رسالة آلية تبلّغ عن حدوث أعطال كهربائية، وانقطع بعدها الاتصال مع غرفة المراقبة، فأقلعت طائرات حربية من البرازيل ومن أفريقيا للبحث عنها. رُجّح احتمال تعرضها لصاعقة جوية. فشكلت مهمة إنقاذ من 12 طائرة برازيلية وطائرة مزودة بأجهزة رادار يمكنها الكشف عن المواد في المياه وطائرتين فرنسيتين وسفينة فرنسية وخمس سفن تابعة للبحرية البرازيلية. وأرسلت فرنسا غواصة نووية للبحث عن الصندوق الأسود. عثرت فرق الإنقاذ على جثث وحطام الطائرة على مسافة 1100 كيلومتر شمال شرق جزر فرناندو دي نوروها، قبالة الساحل الشمالي الشرقي للبرازيل.

وبقي الغموض يلفّ أسباب سقوط الطائرة، إذ كانت آخر رسالة إلكترونية منها قد أشارت إلى وجود عطل في موجه الدفة، وكانت من ضمن 24 رسالة أخرى بثتها قمرة القيادة أوتوماتيكياً إلى فريق المتابعة الأرضية قبيل اختفائها عن شاشة الرادار. تجاوز عدد الجثث الذين جرى انتشالهم الخمسين وابتلع البحر البقية.

وفي عام 2004، سقطت طائرة «فلاش آير» مصرية من طراز «بوينغ 737 ــ 500» أمام ساحل شرم الشيخ في البحر الأحمر بعد إقلاعها بثلاث دقائق فقط، وراح ضحيتها 148 شخصاً، بينهم 133 سائحاً فرنسياً.

وكانت الطائرة ترقد على عمق 900 متر، بينما كانت المعدات المصرية لا تعمل على أكثر من 120 متراً تحت الماء، ولا يستطيع الغواصون ورجال الضفادع الغطس لأكثر من 200 متر تحت الماء. وصلت طائرات عسكرية فرنسية حاملة غواصة آلية، تعمل على عمق 400 متر، إضافة إلى50 خبيراً فرنسياً، للمساعدة في عملية انتشال الصندوقين الأسودين وأشلاء 148 ضحية.

وخلصت لجنة تحقيق دولية، برئاسة رئيس لجنة حوادث الطائرات بسلطة الطيران المدني المصرية، شاكر قلادة، ومعه خبراء من سلطات الطيران المدني الفرنسي والأميركي، إلى أنّ سبب الحادث يعود إلى احتمال عطل في الطيار الآلي أدى إلى سقوط الطائرة، وتضمن تقريرها تحليلاً للمعلومات التي تم تفريغها من الصندوقين الأسودين للطائرة، اللذين عُثر عليهما بعد 10 أيام من الحادث، على عمق ألف متر.

كان بعض البحّارة أحياء حين استقرّت الغواصة في الأعماق

ومن لا يذكر كارثة الغواصة «كي 41 ـــــ كورسك» النووية الروسية التي غرقت قرب القطب الشمالي في 12 آب 2000؟ مصيبة تلك الغواصة هي أن من في قمرة القيادة أقفلوا على أنفسهم بمجرد حصول العطل حسب التعليمات، وكانوا ما زالوا أحياء حين استقرّت في الأعماق، ما أعطى عملية الإنقاذ التي دامت أياماً بعداً درامياً. الغواصة كانت من نوع أوسكار 2 ويبلغ وزنها 25 ألف طن وطولها 154 متراً وسرعتها 28 عقدة في الساعة، وتستطيع الغوص حتى 500 متر والإبحار 120 يوماً من دون توقف. وكانت تعمل بمفاعلين نوويين.

غرق الغواصة جاء في أثناء مشاركتها في مناورة بحرية في المياه الإقليمية النرويجية، حيث استقرت على عمق 108 أمتار، وكان من المفترض أن تطلق طوربيد مناورة على سفينة بقصد التدرب على الهجمات. وكانت تحمل على متنها طاقماً مؤلفاً من 118 شخصاً، إضافة إلى 24 منصة إطلاق صواريخ نووية.

طُرحت سيناريوات عديدة لغرق الغواصة، فقيل إنها أُصيبت بطوربيد من غواصة غير روسية، فيما تردد أن الغواصة الأميركية «يو أس أس ميمفيس» كانت ترصد المناورات وصدمت «كورسك». الرواية الرسمية تحدثت عن غرق الغواصة لعطل فني، وأن تفاعلاً كيميائياً طارداً للحرارة قد حصل بعد تسرّب مواد كيميائية من الطوربيد، تفاعلت مع صدأ موجود في أنبوب الطوربيد. ولم يكن أنبوب الطوربيد مقفلاً بإحكام، ما جعل قوة الانفجار تتجه إلى داخل الغواصة.

وشُكّلت مهمة إنقاذ مكوّنة من مجموعة شركات تحت اسم «مؤسسة كورسك». وكانت هذه المهمة في غاية الحساسية، لا لإخراج البحارة الروس من قاع البحر بداية، ثم جثثهم حين لم يستطع إخراجها وحسب، بل لمنع حدوث أي تلوّث من المفاعلين النوويين الموجودين على متن الغواصة أيضاً. وتمت عملية انتشال الغواصة من البحر باستخدام رافعات كبيرة، ثم تثبيتها تحت طوافة ضخمة. وبعد ذلك سُحبت الطوافة إلى مرفأ مورمانسك الروسي. وبلغت كلفة هذه العملية حوالى سبعين مليون دولار.

وفي التفاصيل، رست سفينة (صُنعت خصيصاً) فوق حطام الغواصة، وتم زرع برجين وربطها بـ26 كابلاً فولاذياً ضخماً) رُبطت بالغواصة، ثم شدت لرفع الغواصة إلى الأعلى، ثم أتت سفينة أخرى لاستخراج الغواصة، التي شُطرت إلى نصفين نظراً إلى وزنها الثقيل. واستغرقت عملية الإنقاذ نحو 36 ساعة على وجه التقريب.

وانتشلت أول دفعة من الجثث في عملية خاصة بدأت في تشرين الثاني 2000. لكن معظم الجثث انتشلت بعد رفع الغواصة من قاع المياه. وفي النهاية، جرى التعرف على جثث 115 من أصل 118 بحاراً انتُشلوا من الغواصة الغارقة.

لأوزاعي: في بيتنا طائرة

قاسم س. قاسم

خبُر أبناء منطقة الأوزاعي أمرين أكثر من غيرهم من اللبنانيين: مطار بيروت الدولي، والبحر. والاثنان أصبحا الحدث الأساسي اليوم. من المعروف أن الطائرة الإثيوبية أقلعت من المطار لتسقط على بعد 8 كلم في البحر. لكن، ماذا لو ــ لا سمح الله ــ لم تسقط الطائرة بعيداً هناك؟ ماذا لو انحرفت قليلاً وسقطت فوق سكان تلك المنطقة؟ أسئلة يُجيب عنها أهل البيت

«لو الطيّارة واقعة فوق الجناح أو الأوزاعي، بالميّتة كانت بتمسح حي بكاملو»، يقول حسن عبدو، ابن منطقة الأوزاعي، رداً على سؤالنا. ففكرة سقوط طائرة فوق رؤوس الناس هنا، حيث السماء أشبه بممرّ للطائرات التي تقلع وتهبط على مقربة، لم تكن واردة من قبل، لدهشة السائل. لكن بعد مصيبة الاثنين الماضي، أصبح «كل شي معقول» كما يقول.

يقف عبدو أمام الفان ـــــ المقهى، يتأمل السماء، يبتسم ثم يقول مستطرداً: «بتصدق ما فكّرت فيها؟». هكذا، أصبحت رؤية الطائرات التي تمرّ مقابل المنازل إذا كانت تهبط على المدرج الغربي، أو فوق رؤوسهم، إذا كان هبوطها في المدرج الشرقي، أمراً عادياً لأبناء المنطقة.

أما صوت الطائرات، فهو لم يعد شيئاً مزعجاً لهم. فآذانهم خبُرت أصوات المحركات، وأصبحوا يميّزون نوع الطائرات وحجمها بمجرد سماع هديرها. «إذا ما منسمع صوت الطيران يومية منقول في شي غلط بالمطار»، يقول عبدو. يضيف: «تعوّدنا عليها، بس ولا يوم فكرنا تصير هيك كارثة». تسأله ماذا كان سيحصل لو انحرفت «لا سمح الله»، الطائرة قليلاً باتجاه الأوزاعي؟ يجيب: «بأكدلك أعداد الضحايا رح تكون أعلى، وكانت الناس رح تحترق ببيوتها بسبب وقود الطيّارة».

ورغم المخاطر التي يدركها عبدو، إلا أنه لا يفكر بتغيير مكان إقامته، مستهزئاً بمجرد طرح الفكرة عليه. «من سابع المستحيلات، نخاف هيدا الشي قضاء وقدر»، يضيف ساخراً: «الطيّارة بتمرق من فوق بيتي وما بخاف تعودنا على الطيّران، وكمان هواها بينعش بالصيفية، هيدا هوا مستورد يا حبيبي». إذاً، لا مكان للخوف في قلوبهم، لا بل حتى لو خاف بعضهم لا إمكان «لنغيّر مكان سكننا، الدولة قالت بدها تعمّرلنا بيوت، وتدفعلنا تعويض (مشروع أليسار) ما شفنا شي، أخدو أسامينا وراحو» يقول.

تترك عبدو بعد أن يعرض عليك بلال عساف، الذي كان يستمع للحديث، رؤية مدى قرب الطائرة من سطح منزله «فيك تشوف الركاب إذا بدك» يقول ضاحكاً. تتوجه معه ينبّهك مسبقاً: «الشغل اليوم على المدرج الغربي مش الشرقي، أنت وحظك إذا نزلت شي طيّارة على الشرقي». تسأله عن الفرق؟ «الغربي بتصير الطيّارة أمامك، إذا الشرقي بتصير الطيّارة فوقك». يشير الشاب بأصبعه باتجاه أعمدة صدئة، «كانت هذه الأعمدة تُضاء، فتهبط الطائرة على المدرج الشرقي، وهي تتبع ضوءها، أما اليوم فأصبحوا في أغلب الوقت يستعملون المدرج الغربي بعد بنائه».

من المنازل هنا «فيك تشوف الركّاب إذا بدك»

عساف الملمّ بحركة الطائرات في مطار بيروت ومواعيدها «لأنني بعمل أركيلة وبقعد راقبها وبعرف بأية أحوال جوية بيستعملوا المدرج الشرقي وأيمتى الغربي»، أصبح يتخوف من مكان إقامته. ببساطة «ماذا لو انفجرت الطائرة في الجو قبل أن تسقط، حطامها كان كفيلاً بتدمير بضعة بيوت» يقول، لكن «يلي بيجي من الله يا محلاه». يروي عساف كيف تركت كارثة الطائرة تأثيرها على أبناء المنطقة حتى لو من طريق المزاح، فأحد اصدقائه دفعه عندما مرّت طائرة فوقهما قائلاً له: «بعّد، يمكن توقع على راسنا». فجأة يصمت الشاب، يجيبك عمّا كنت تفكر بسؤاله»، قائلاً: «تصور كمان لو أن الجناح مش الطيّارة نزل على طرف الأوزاعي، شو كان بيصير؟»، ثم يجيب نفسه: «بتشيل ألف قتيل دغري». هكذا، دفعت كارثة الطائرة الإثيوبية عساف، بالتفكير بسلامة المطار ومحيطه. فمنذ فترة منعت القوى الأمنية الأهالي «من كشّ الحمام، لأنو علقت حمامة بمراوح محرك إحدى الطائرات»، يشير بأصبعه إلى فضاء منزله ويقول: «تفضل، العالم عم تكشّ وما فارقة معها». لحظات، يأتي والد بلال، حسني عساف ليشاركك أطراف الحديث. الرجل سكن المنطقة منذ الخمسينيات حيث لم يكن هناك «عمار مثل هلق».

يشير حسني باتجاه أبنية مرتفعة «هيدي كانت أرض المطار وكانت الدولة مسوّرتها، بس العالم عمّرت فيها». يضيف: «هناك كانت تركن الطائرات، لكن خلال عام 75 وبعد تهجير أبناء النبعة سكن الناس في ممتلكات المطار». فجأة ينبهك عساف «هاي طيّارة نازلة على المدرج الغربي إذا بدك تصوّرها». تراقب الطائرة تهبط أكثر فأكثر، يخيل اليك أن إطاراتها ستضرب أسطح المنازل. لحظات، حتى تمرّ الطائرة أمامك، تلمس إطاراتها أرض المطار، يتصاعد الدخان الأبيض منها، كأنه يرتفع من سطح أحد البيوت. «يا أخي مش مبسوطين بالقعدة هون، العالم اللي عايشة هون فقرا، وين ممكن نروح إذا بدنا نترك؟» يسأل والد بلال. ثم يعيد الرجل ما قاله ابن منطقته عبدو سابقاً «كان في مشروع قبل استشهاد الحريري بالتعويض علينا، أخدوا أسامينا ولحد هلق ما في شي». يخبرك حسني، كيف «اعتدنا النوم برغم من صوت الطائرات، مر خمسون عاماً على وجودنا بالقرب من المطار، وبعد هالعمر بتتعود على كل شي». وماذا عن خوفه من حوادث قد تحصل فوق منطقته؟ «هيدا قدرنا بكون، وما في الواحد يهرب من قدره» يقول الرجل. تترك العائلة متوجهاً إلى ميناء الأوزاعي، حيث المدرج الغربي لمطار بيروت. هناك لا يهتم الصيادون الممنوعون من الخروج بقواربهم، بما يمر فوق رؤوسهم كل عشر دقائق، فهمّهم الوحيد هو ما سيعلق بصنّاراتهم. تسأل أحد الموجودين بالقرب من المدرج، وقد رفض الكشف عن اسمه «لانني ابن دولة»، إذا ما سبّب سقوط الطائرة خوفاً لديه من مكان إقامته. يضحك الرجل ليجيب: «ابن الأوزاعي يا حبيبي ما بينام إذا ما سمع صوت الطيران، لهوّنها عليك: إذا عملت حادث بسيارتك بتبطّل تسوق سيارة؟ أكيد لا، وقعت طيّارة منبطل نام ببيوتنا؟ كمان أكيد لا».

ابن مفقود وأب فقيد

البترون ــ فريد بو فرنسيس

رحل جرجي عسّال، والد ألبير راكب الرحلة 409. توقّف قلب الوالد المفجوع قبل رؤية جسد ابنه التائه في البحر. أمس، في منزل آل عسال في البترون، تحوّلت المصيبة مصيبتين: مصيبة الولد المفقود ومصيبة الوالد، الذي لم يمهله قلبه الوقت الكافي ليعرف مصير ابنه.

رحل الرجل السبعينيّ بصمت، بعد خمسة أيام من الانتظار والعزلة. لم يكن يكلّم أحداً، ولكنّ المقرّبين منه يعرفون ما كان يجول في خاطره. كان يفكر في «البحر الذي أحبّه وقضى حياته فيه صياداً، كيف لهذا البحر أن يأخذ ابنه منه»، هذا ما يقوله أحد أقرباء الفقيد.

يتذكر القريب حياة عسال على البحر، فقد «كان صياداً يعمل لإعالة عائلته، وكان محبوباً كثيراً بين رفاقه الصيادين، كما كان يعشق البحر، وكان غطاساً ماهراً لا يخاف شيئاً».

بعد وفاته، انتقلت العائلة من منزلها في البترون إلى قاعة الرعيّة لتقبّل التعازي، فاجتمع أقرباء الفقيد وأصدقاؤه هناك لمواساة العائلة بالفقيد والمفقود، في جوّ من الحزن والأسى. في الرعية، إذ اجتمع المحبّون، لم يهدأ لوران، ابن جرجي، من الرد على المكالمات الهاتفية التي يعزيه أصحابه فيها بفقدان الوالد. يصف حالة العائلة للمتصلين: «كنا بانتظار أن يأتينا خبر من البحر عن مصير أخي البير، فإذا بنا نستيقظ في الصباح على أبي، جثةً هامدة في غرفته». يقول لوران إن «جرجي قتله القهر على ألبير». ويضيف: «كان والدي يقول لي عندما تموت زوجة الرجل تموت سعادته، وعندما يموت شقيقه تتكسّر أجنحته، أما عندما يموت ولده فإنه يدفن معه وهو حي». لا يجد لوران ما يعزّيه الآن، فالوالد مات والشقيق تائه في البحر، ولا أخبار ترد من هناك. حال الحزن التي يعيشها لوران تشبه حال الأقرباء والمعزّين في قاعة العزاء في الرعية. لا أحد يريد أن يتكلم، فالمصيبة أخرست الجميع هناك. وحدها زوجة المتوفّى جورجيت حرب لم تستطع الصمت، فقد وجدت في الصراخ سبيلاً للحزن، تقول: «شو بدّي قول، راح جرجي وقلبي الآن مع ولدي البير». تمنّي الزوجة النفس بعودة ابنها، فتشير إلى أنه «ربما رحل والده وفداه ويمكن يرجع من قعر البحر». لا تزال تنتظر عودة ولدها المفقود «لأن ألبير من الغطّاسين الماهرين، وإذا لم يكن مشدوداً إلى كرسي الطائرة بحزام الأمان، فأنا أكيدة أنه سينجو». أمّا تقلا زوجة البير، فلا طاقة لها على الصراخ، مكتفيةً ببعض التعليقات. فهي المنهارة من المصيبة التي ألمّت بها. تقتنع الزوجة الآن أكثر من أي وقتٍ سابق بأن زوجها لن يعود سالماً، لكنها تأمل على الأقل أن يعود جثمانه، «كي نعرف أين يرقد، وكي ينعم برحلة أبدية هادئة ليس فيها عواصف مفاجئة ولا أعطال تقنية».

علي أحمد جابر يطوف النبطية قبل الوداع

كامل جابر

لم تجد شقيقات علي أحمد جابر، التسع، غير عبارات «الدعاء» لتوديعه الأخير قبل مواراته في جبانة النبطية؛ حسن الشقيق الوحيد لعلي، والدته وشقيقاته وأولادهم جميعاً، استقبلوا جثمانه لمدة خمس دقائق في بيت العائلة، في حي التعمير، بالزغردة ونثر الورود والأرز وعانقوا النعش الذي لم يفتح، وسط الصراخ والعويل، ثم ودّعوه بالمثل: «الله معك ياخيّ، الله معك يا حنون ويا محب ويا هَني». جثمان علي جابر وصل من بيروت إلى المدينة قرابة الثانية عشرة ظهراً في موكب سيّار تتقدمه دراجات قوى الأمن الداخلي وعدد من سياراتهم، وسيارات الإسعاف التابعة لجمعيات النبطية. الموكب طاف في طرقات المدينة، ثم باتجاه دارة علي، في حي الرويس، بين النبطية والنبطية الفوقا، حيث سجي النعش مدة خمس دقائق، ثم عودة إلى منزل ذويه، حيث استقبله الأهل والأقارب والمشيّعون من أبناء المدينة وجوارها، وقدمت له ثلة من قوى الأمن الداخلي السلاح، وعزفت أخرى نشيد الموتى بحضور النائب ياسين جابر ممثلاً الرؤساء الثلاثة وممثل المدير العام لقوى الأمن الداخلي، قائد سرية درك النبطية العقيد علي هزيمة على رأس وفد مثّل المديرية العامة، ومسؤولين من حزب الله وحركة أمل.

بعدها حُمل النعش على الأكف وشيّع في موكب مهيب تقدمته أكاليل زهر من رئيس الجمهورية ميشال سليمان ورئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس مجلس الوزراء سعد الحريري. ولحظة وصول مسيرة التشييع إلى ساحة الوسط التجاري انضم إليها إمام مدينة النبطية الشيخ عبد الحسين صادق والنائب هاني قبيسي.

في النادي الحسيني لمدينة النبطية، جرت مراسم تشييع رسمية: تحية السلاح، نشيد الموتى، ثم أمّ الشيخ صادق الصلاة على الجثمان قبل مواراته في جبانة النبطية.

النائب ياسين جابر نقل تعازي الرؤساء الى ذوي الضحية علي جابر، وقال: «اليوم شيّعنا علي جابر في النبطية، وأمس ضحيتين في زبدين، وننتظر أن تتكلل المساعي والجهود التي يقوم بها أركان الدولة وفرق الإنقاذ لانتشال كل الجثث من البحر، بغية تسليمها لذويها من أجل دفنها في بلداتها سواء في النبطية أو في المناطق الاخرى».

أضاف: «نتمنى ويتمنى الأهالي أنه بواسطة التقنيات الجديدة التي بدأت الدولة باستخدامها، سيتم انتشال المزيد من الجثث، وأن يفتح تحقيق شفاف بهذه الحادثة المروّعة التي أدمت قلوب اللبنانيين جميعاً، بهدف معرفة الأسباب التي أدّت إلى سقوط الطائرة. وندعو إلى الابتعاد عن التكهنات والتأويلات وترك الامر للتحقيق الذي تقوم به الدولة بإشراف الرؤساء الثلاثة الذين أصيبوا بجراح مؤلمة جراء هذه الكارثة».

ألبير والبحر

يروي لوران عسّال، شقيق ألبير، أنّ والدهما قال: «كان ابني يتمنَّى لو يُدفن في البحر عندما يموت، لتأكله الأسماك بدلاً من النوم تحت التراب. وقد تحقَّقت أمنيته». نام الأب جرجي مساءً، ولم يستيقظ صباح الجمعة. في «ورقة نعي» جرجي، يرد اسم ألبير من دون أيّ تلميح إلى كونه قد فارق الحياة، فـ«الغطَّاس الماهر لا يمكن أن يموت في البحر»، كما تُصرُّ رفقا، زوجته. «هو الآن يساعد على إنقاذ الركَّاب الآخرين، وسوف يعود عند انتهاء المهمَّة. ألبير يغرق في البحر؟ أبداً».

طائرات تمر فوق بيوت الأوزاعي
طائرات تمر فوق بيوت الأوزاعي


تعليقات: