الخيام بين الأمس واليوم

مشروع سكني في الخيام
مشروع سكني في الخيام


دردشة مع حبيبتنا الخيام..

منذ أيّام وقفتُ على إحدى الشرفات المطلّة على إحدى الحارات في بلدة الخيام (عفواً، أقصدُ مدينة الخيام!)، شاهدتُ منظراً يبعث الرّعبَ في القلب؛ فقد تحوّلت المنطقة إلى ما يُشبه كومة من الحجارة والباطون المتراكم كجبل من نفايات الصمّ!

تكاثفت الأبنية وتراصّت فوق بعضها البعض حتى تخالنا نحسّ أنّ الضاحية الجنوبية قد انتقلت إلى الخيام بكل عجقة بنيانها وبناياتها وشوارعها، وأكثر من ذلك، فإنّ عدوى مشاريع البيع على الخارطة المدفوعة سلفاً أخذت تنهش بجسد بلدتنا دون شفقة أو رحمة!

قد يلجأ البعض إلى التبرير أنّ سكانها زادوا عدداً، وأنّ الفرصة سانحة للبناء المجّانيّ، ونحن نقول أنّكم تقتلون بلدتكم بفوضاكم وطمعكم حيث الجدران أصبحت ملاصقة للجدران التي تُخبّىء الضوء والنور والدفء الخارجيّ والداخليّ عن الجار!

نقول أنّكم تحجبون وجه الخالق عن السماء والماء والهواء والتراب الذي أصبح نادراً في بلدتنا كما الثلج والحبّ والألفة!

ماذا نفعل وقد تحوّلت الخيام إلى مدينة، وا حسرتاه؛

لم يعد للطيور مكان فيها.

أُقتلعت الأشجار لتُزرع مكانها الأبنية الصمّاء.

لم يعد هناك من مكان لقضاء الأوقات الممتعة بين الشجر وعلى ترانيم طيورها وظلالها وروائح النعناع والصعتر البريّ والمردكوش والحبق والشومر والعلت والعنّة والصيفي و.. و... و.. حتى أنّ منطقة المرج قد غزاها مرض الباطون والحجارة الصمّاء البكماء الجرداء!

مجرم أنت أيّها الإنسان الذي لم تعد تكفيك غرفة صغيرة ومسطبة كبيرة أمامها الخضر والهواء النقيّ.

أبنية تصفر فيها الريح معظم فصول السنة، سكانها بعيدون عنها إلا في أشهر الصيف القليلة.. أصبحت غرفها أكثر عدداً من أفرادها.

منذ ثلاثين عاماً كتبتُ: "تحاصرني غربتي فألجأ إليكِ".

أمّا الآن فلمن ألجأ؟!

أأبحثُ عن ضيعة أخرى؟

معاذ الله.

ففي الخيام مولدي وتاريخي وحكايتي ووجعي وفرحي، وفيها سيكون مرقدي الأخير إذا بقي فيها مكان للموتى!

دعوا الموتى ينعمون بنسمة من هدوء الكون، دعوهم في وحشتهم مع فراغ الأمكنة التي تحتاجها أرواحهم. دعوا هذه الأرواح تهيم فوق البراري والحقول المتبقيّة لهم والتي تربّوا فيها ومعها وعليها، غنّوا لها وغنّت لهم. لا تحشروهم في أقبية لا سماء فيها سوى الباطون والحجارة والموت الرّوحي.

ماذا نفعل وقد تحوّلت ضيعتنا إلى مدينة لا مكان للشِعر والفنّ والوحي والحبّ فيها.

تحوّلت (ضيعتنا) إلى مكان للتنافس العمرانيّ والفخفخة والشطارة.

ابتعدتِ الخيام عن روحها وعن ريحها وعن رائحتها وعن دفئها وبردها وعن حكاياتها.

تحوّلت أراضي الشطوط إلى شطط عمراني!

كنا نقول "رايحين عالضيعة" بكلّ ما تحمله تلك الكلمة من معانٍ قرويّة يكون للفصول الأربعة طعم خاصّ فيها، أصبحنا نقول رايحين نعزّي.... بالخيام.

أنقول مع الشاعر: "لا أنتِ أنتِ، ولا الديارُ دياري"؟..

أم نقول مع آخر: "وما حبّ الديار شغفنَ قلبي/ لكن حبّ من سكن الديار"؟..

لكِ قبلاتنا يا خيام وحبّنا وشوقنا الدائم...

لا تحزني، هو الزمن المتغيّر القاتل.

سنسألُ مع الماغوط: "ماذا تفعل الغزالة العمياء بالنبع الجاري؟!".

ستبقى عيوننا معلقة بكِ.

ستبقى عيوننا تتكحلّ ببياض جبل الشيخ حيث الثلج الأبديّ هو الحقيقة الوحيدة الناصعة التي تُخبّىء عرينا وسواد شعرنا الآفل...

د. يوسف غزاوي

yugha.art@hotmail.com

تعليقات: