غموض يلف رحلة الـ 3 دقائق ومسافة الـ 3 كيلومترات


هل أُهملت المعطيات التقنية لبرج المراقبة

رغم تحديدها مكان سقوط الطائرة الأثيوبية ؟

يطوي اللبنانيون في روزنامتهم صفحة اليوم الـ 18 لكارثة طائرة الموت الاثيوبية، بعد التعرف رسمياً الى هويات 18 ضحية من مجموع ركابها الـ 90. وتكثر التساؤلات لدى اهالي الضحايا عن عدم تحديد مكان سقوط الطائرة في البحر، رغم توافر المعطيات اللازمة في برج المراقبة في المطار، اضافة الى رواية شهود العيان، وما تردد عن صور التقطت وتظهر الموقع قبالة الناعمة. وبموازاة ذلك يستجمع المسؤولون كل ما يمتلكون من رباطة جأش للاعلان عن القرار الصعب: وقف عمليات البحث.

قبل ان يتجرّع اللبنانيون، وخصوصاً أهالي ضحايا طائرة الموت الاثيوبية مرارة توصية لجنة التحقيق، وربما الحكومة، بوقف عمليات البحث عن الضحايا وحطام الطائرة تبقى اسئلة عدة تبحث عن اجابات في اعماق البحر عن طائرة سقطت من على نحو 3000 متر، ومع بداية الغيث المتمثل بتحميل قائد الطائرة مسؤولية الحادث، لا يزال الغموض يكتنف اضطرار هذا الاخير الى تغيير مساره وعدم تنفيذه تعليمات برج المراقبة وفحواها "حفظ خط اليمين" اي استمرار التوجه شمالاً لدى بداية انعطافته، وبدرجة حادة نحو الجنوب وهو على ارتفاع نحو 9000 قدم، ومن ثم فقدان الاتصال به وسقوط الطائرة في البحر.

رحلة الـ 3 دقائق

في الساعة الثانية والدقيقة الـ 37 من فجر الخامس والعشرين من الشهر الفائت اقلعت طائرة البوينغ 800 – 737، وعلى متنها 81 راكباً اضافة الى طاقم الطائرة المؤلف من 9 اشخاص، كانوا في الرحلة 409 المتوجهة من بيروت الى العاصمة الاثيوبية اديس ابابا.

ووسط ظروف مناخية متقلبة ووقع لبنان تحت تأثير المنخفض الجوي الذي ضرب شرق المتوسط، ووصول العاصفة الموعودة بعد تأخر "الجنرال الابيض"، اقلعت الطائرة من على المدرج 21 في مطار بيروت الدولي، وبعد اقل من 3 دقائق على اقلاعها اختفت عن شاشات الرادار في برج المراقبة.

وكان الخبر اليقين: سقوط الطائرة وفقدان ركابها الـ 90. ورغم انتشال 14 جثة من ضحاياها في الساعات الاولى قرب كاسر الموج قبالة المدرج الغربي للمطار في خلدة، لم تستطع فرق الانقاذ المحلية والمتكئة على المساعدة الاميركية في اعمال البحث تحديد موقع سقوط الطائرة الا بعد تسعة ايام. وطيلة هذه المدة لم يتم العثور على اي جثة وحمل اليوم التاسع (2 شباط) معه اكتشاف الجثة التاسعة للضحايا اللبنانيين وتبين انها تعود الى الغطاس ألبر عسال.

لكن هل كان ممكنا تحديد مكان سقوط الطائرة بناء للمعطيات المتوافرة لدى برج المراقبة، اضافة الى شهود العيان الذين اكدوا سقوطها قبالة الناعمة؟

موقع سقوط الطائرة

وصلت الطائرة الاثيوبية الى ارتفاع 9000 قدم، اي نحو 3000 متر، قبل ان تختفي. ومن المعروف ان الطائرة تنطلق بسرعة تراوح بين 180 و300 كيلومتر في الساعة لدى اقلاعها، تبعا لنوعها وعدد ركابها وحمولتها. فيما يبلغ طول المدرج الغربي الرقم 21 الذي اقلعت منه 2800 متر، وقبل بلوغ نهايته تكون الطائرة قد ارتفعت عن مستوى الارض صعودا ويستعمل قائدها الـFull Power مع ارجاع قدميه عن المكابح وشد مقودها الى الاعلى وتبدأ باتخاذ وجهتها تبعا للنقطة التي من المفترض ان تصلها. ووفق وجهة الرحلة 409 فان الطائرة اقلعت من المدرج، وانعطفت يمينا في اتجاه الشمال، ولدى وصولها قبالة مدينة بيروت بدأت فجأة بالانعطاف جنوبا، ما دفع برج المراقبة الى الطلب بالحاح من قائدها المحافظة على الاتجاه نحو الشمال، اي يمينا. ووفق التسجيلات في برج المراقبة كانت المناداة لثلاث مرات: "Keep right" وكان القائد يجيب انه تلقى الامر وشرع في تنفيذه. لكن الطائرة استمرت بالانعطاف جنوبا وسط اصرار برج المراقبة على اعطاء الاوامر لقائدها بالتوجه الى الغرب اي وفق الاتجاه 270. الا ان الطائرة اختفت بعد هذا النداء عن الشاشة وسقطت في البحر. وقد تمكنت شاشات الرادار في المطار من تحديد النقطة التي وصلت اليها لحظة اختفائها، علما ان هناك نوعان من الرادارات وتعرف بـPrimary وsecondary. وتبعا لخط طيرانها فانها انعطفت بزاوية حادة نحو اليسار، اي في اتجاه الجنوب (خلدة – الناعمة).

واذا اجرينا عملية حساب بسيطة للمسافة التي قطعتها تبعا لسرعتها وارتفاعها فيفترض انها قطعت مسافة لا تتجاوز 10 كيلومترات، ضمنها الارتفاع، اي 3 كيلومترات وطول المدرج 3 كيلومترات، فتكون اختفت وهي على مسافة لا تزيد عن 5 كيلومترات من المطار. واذا حسم من هذه المسافة الالتفاف الاول بعد الاقلاع مباشرة وحركتها النصف الدائرية في اتجاه الشمال، فلا يجب ان تزيد المسافة عن 3 الى 4 كيلومترات من مكان اقلاعها.

والى امكان قياس هذه المسافة بدقة تبعا لشاشة الرادار في برج المراقبة، يبقى تحديد موقع سقوطها الدقيق تبعا لوضعية الطائرة لخطة وقوع الحادث المجهول، وما اذا كانت سقطت عموديا ام ان محركاتها بقيت تعمل لثوان عدة بعد اختفائها عن شاشة الرادار، الامر الذي يجب اخذه في الحسبان، وبالتالي تحديد الدائرة التي يمكن ان تكون قد اندفعت بها في اتجاه البحر هذا فضلا عن احتمال آخر يكمن في امكان سقوطها على ذيلها، وهو الامر الذي يحدث عند الانعطاف بزاوية حادة، مع الاخذ في الاعتبار ان وزن الطائرة يناهز الـ 120 طنا وتكون كمية الوقود 40 طنا (عادة ما تكون حمولة الطائرة من الكيروزين توازي ثلث وزنها). وبطبيعة الحال كانت خزانات الطائرة شبه مملوءة بالوقود لان رحلتها تستغرق نحو 5 ساعات.

هذه المعطيات، اضافة الى ما ادلى به شهود العيان، تحدد مكان سقوط الطائرة على بعد 3 الى 4 كيلومترات من الشاطئ، وفي دائرة تبدأ من الاوزاعي وتنتهي في الدامور. واذا تم الركون الى شهادة عامل محطة الوقود في الدامور، الذي رأى جسما "مشتعلا يهوي في البحر قبالة الناعمة، اضافة الى ما تردد عن صور التقطها عناصر في "الجبهة الشعبية – القيادة العامة" المرابطون على تلال الناعمة، فان المكان المفترض لسقوط الطائرة هو الناعمة، والمسافة المفترضة هي 3 او 4 كيلومترات. وهذا المكان تمكنت مغاوير البحر في الجيش اللبناني من تحديده بعد 10 ايام على سقوط الطائرة، وعلى عمق 40 مترا، مما يسقط الفرضية الاولى التي توصلت اليها السفن الاجنبية، وفحواها ان مكان سقوط الطائرة هو على بعد 10 كيلومترات وعلى عمق 1400 متر. كذلك ينفي الفرضية الثانية عن وجود الطائرة قبالة المنارة وعلى بعد 10 كيلومترات وعمق 1400 متر، رغم ان الفرضيتين تم تعزيزهما بالتقاط الذبذبات المرجح ان تكون صادرة عن الصندوق الاسود الموجود في ذيل الطائرة.

اجتهاد إعلامي كلون الصندوق اللغز

صحيح ان لبنان فجع بالكارثة، وابدت حكومته وشعبه تضامنا لم يرتق الى مستوى الكارثة، الا ان ثغرات عدة ظهرت منذ اليوم الاول وتقاسمتها الجهات الرسمية وبعض الوسائل الاعلامية.

فعلى المستوى الرسمي لم يتم تعيين ناطق رسمي يطلع الجمهور، وخصوصا عائلات الضحايا، على مجريات عمليات البحث والمراحل التي قطعتها. ومنذ اليوم الاول بدأ التضارب في المعلومات التي يدلي بها الوزراء، خصوصا لجهة عدد الجثث التي عثر عليها حتى اليوم لم يتخط الـ 28، وكأن هناك سقفا وضع مسبقا للعدد الذي يمكن العثور عليه. من جهة ثانية انبرى بعض الاعلاميين لشرح اسباب سقوط الطائرة وخصائص الصندوق الاسود، فطالعنا مراسل احدى المحطات المرئية: "ان بطارية الصندوق الاسود تعمل لمدة عام ويظل يرسل الذبذبات طيلة هذه الفترة".

وبعد ايام عاد بتحقيق خاص في "شهر التنزيلات" وخفض الفترة الى 30 يوما، واكتشف ان لون الصندوق برتقالي وليس اسود. وبعد العثور على الصندوق الاسود بدأ بعض الاعلاميين بالحديث عن اهمية الصندوق الأسود الثاني، وانه لم يتم حتى اللحظة العثور عليه، وانه يوضح سبب وقوع الطائرة ويسجّل حديث قائدها مع برج المراقبة. علماً ان كل ما يتفوّه به قائد الطائرة يسجل في برج المراقبة، لان هناك "ميكروفون" في قمرة القيادة لا يستطيع قفله، عملاً بأنظمة المنظمة العالمية للطيران المدني الـ IKAO، وبالتالي فإن الحديث الاخير لقائد الطائرة المنكوبة مسجّل في برج المراقبة منذ لحظة اقلاعها حتى اختفائها عن الرادار. اما ما لم يسجل فهو يصف لحظة سقوط جسم يزن 140 طناً من ارتفاع 3000 متر اي انها ثوان معدودة، وهي اما للدعاء ومناجاة الخالق، او لاطلاق عبارات غير مفهومة ليس الشتم الا بعضها (عذراً لانه سبق الاستماع الى مسجل في الصندوق الاسود لطائرة سوفياتية تحطمت في العام 1988 وكانت الثواني الاخيرة تحمل تلك العبارات).

المنجمون يزيدون من هول الكارثة

تعامل الاعلام اللبناني اجمالاً بدرجة عالية من المهنية والانسانية مع كارثة الطائرة الاثيوبية، لكن البعض اختاروا البحث عن السبق، فكانت كارثة ثانية في حق اهالي الضحايا ظهرت في امثلة عدة، منها استقدام المبصرين والمنجمين الى مشرحة المستشفى الحكومي في بيروت ليعرضوا "بطولاتهم" في التنبؤ بالكارثة، وكذلك اجراء مقابلات مع اولاد فقدوا ذويهم في الحادث وسؤالهم "بتعرف وين بابا".

اول من امس فجّر وزير الصحة العامة محمد جواد خليفة "قنبلة" في وجه من يعنيهم الامر وقال حرفياً: "الطائرة انفجرت في الجو بما تملك من حديد وناس وسقطت في اماكن مختلفة في البحر (...)" وطالب المسؤولين عن ادارة البلد باتخاذ قرارات سياسية ودينية خلال 48 ساعة. ورغم ان الوزير عاد ليوضح ما قصده، لكن المعنى الحقيقي سبق في التصريح الاول. ومن جهة ثانية ساق وزير الاشغال العامة والنقل غازي العريضي خلال لقائه اهالي الضحايا قبل ايام امثلة عدة عن حالات تحطم طائرات وعن اعداد الجثث التي تم العثور عليها في بعض الحالات والتي لم تتجاوز الـ 20 في المئة من مجموع ركابها، مثل الطائرة الفرنسية التي سقطت في المحيط الاطلسي بعد اقلاعها من البرازيل.

هذه المؤشرات تشي بأن قراراً صعباً ستتخذه الحكومة اذا توافر الاجماع، يقضي بوقف اعمال البحث واعتبار الضحايا اللبنانيين الذين لم يتم العثور على جثثهم في عداد الموتى.

لكن ما ستكون عليه ردة فعل اهالي هؤلاء؟ الايام القليلة المقبلة تحمل الاجابة.

مقاعد وأغراض للركاب من الطائرة الاثيوبية المنكوبة وصلت الى شاطىء خلدة
مقاعد وأغراض للركاب من الطائرة الاثيوبية المنكوبة وصلت الى شاطىء خلدة


بوارج اليونفيل تمشط المنطقة بحثاً عن ناجين
بوارج اليونفيل تمشط المنطقة بحثاً عن ناجين


أهالي ركاب الطائرة المنكوبة أمام المطار
أهالي ركاب الطائرة المنكوبة أمام المطار


تعليقات: