العودة إلى الخيام

الرسوم التعبيريّة الثلاث، بالأسود والأبيض، المرسلة إلى جريدة السفير
الرسوم التعبيريّة الثلاث، بالأسود والأبيض، المرسلة إلى جريدة السفير


في عام التحرير 2000م عدتُ إلى الخيام بعد غياب دام سبعة عشر عاماً بسبب الاحتلال الإسرائيلي لبلدتي.

كان شوقي لها بحجم الغياب مضروب بمتواليات هندسيّة.

لم أُصدّق الأمر، وقفتُ في مرج الخيام، وعلى نبع الدردارة - وما أدراك ما نبع الدردارة لطفولتي ولذكرياتي- أبكي من شدّة الفرح وشوق اللقاء، فكتبتُ قطعة صغيرة أبثّ فيها عمق مشاعري تجاه تلك اللحظة الحميميّة، أين منها تلهّف الأمّ لفلذة كبدها!

أرسلتُ تلك الكلمة، مُرفقة بثلاث رسوم تعبيريّة بالأسود والأبيض عن الموضوع، إلى جريدة السفير التي لم تتوانَ عن نشرها مباشرة بتاريخ 30/5/2000م. أحببتُ بدوري أن أنشرها على موقع الخيام/دوت كوم، ليتسنّى لمحبّي البلدة مشاركتي حبّها (في عيد الحبّ)، ولا سيّما مرجها الأخضر وحقولها وفسحاتها وأشجارها التي تكلمنا عنها في كلمة سابقة تحت عنوان "الخيام بين الأمس واليوم".

وإليكم نصّ الكلمة التي ظهرت في صحيفة السفيرتحت عنوان "العودة إلى الخيام":

سبعة عشرة عاماً من الغياب القسريّ... تخيّلوا ذلك! بعيداً عن بلدتي حيث ولدتُ وتمرّغتُ في ترابها، وسبحتُ في هوائها، وتنشّقتُ ماءها.

فجأة، وجدتُ نفسي خارج ولادتي.. أغتيلت طفولتي، وأصبحتُ في عداد الموتى الأحياء.. لا شيء يعادل بلدتي وهواءَها وشجرَها وطيرَها وسماءَها. كلّ شيء حولي كان غريباً مصطنعاً على مدى قرنين من الزمن...

فجأة حصلتِ المعجزة! عاد أليعازر إلى الحياة. عدتُ إلى ضيعتي كمن يسير في منامه! إنّي أحلمُ.. أخذتُ أفرك أعيني بقبضات يديّ.. إنّها الدردارة بذاتها تتمدّد أمامي ببهائها وضوء شمسها الأصفر والفضّي والأخضر المتماوج على ضفاف أعيني...

سجدتُ وقبّلتُ الأرض بصلاة لا تنتهي.

وقفتُ في الحلم. مرّت في ذاكرتي أيام طفولتي: فصل الربيع بفراشاته وجيزه ونحله وألوانه المباركة. الخريف بعريه الأخّذ. الشتاء برذاذه وأمطاره ولحنها، وانتظار ثلجه. فصل الصيف والفخّ والرمّود والأغنية الجميلة للإيقاع به.

الله يا خيام! كيف مرّ بنا العمر مسرعاً ونحن في غربة عنكِ. ها أنذا أستعيدُ ذاكرتي فينحلّ الشريط أمام أعيني، فأستعرضُ جنونَ طفولتي وبراءَتها، وأشمّ رائحة الأرض والزهر والحبق والياسمين والمردكوش... وصوت أبي الحنّ وعصفور الشتاء، وتحويم الباشق ونقزة الفرّي، ورجع صدى القبّرة، وغناء طائر الوروار ورقصة الهدعد واستعراض أبو زريق و.. و.. و... وسرقة الخوخ والجنارك واللوز والجوز من أشجارها، والكزدورة على طريق الدردارة والترابات البيضاء، والكوعين، وعين بومزراب، والشوار، والباردة، والرقيقة، وزيتونة النبيّ، وشرب الشاي على ضفاف المسيل، وشواء العرانيس، وأكل البطيخ والشمّام والجزر والفجل بنهم وجوع بترابه وحدّته، وصنع "النقّيفة" من الأفنان، وقطاف زهر الزنزلخت.. والحماقات الكثيرة التي اقترفناها، وعصابات "الحارات الصبيانية" والغزو الطفولي المتبادل... ذكريات وذكريات مرّت أمامي فأحسستُ بنشوة الحياة وفرح الوجود للمرّة الأولى منذ عقدين! بل منذ غادرتُ بلدتي آنذاك، ولم أشعر بوجعِها وطعمِها إلا عند الفراق..

الله يا خيام، ما أجمل العيش بعد موت، بعد غياب، بعد وجع.

آه منكِ، كم أنتِ مؤلمة وموحشة دون طفولتي. ها إنّي أضعها بين يديكِ. بالله عليكِ إبقي هذا الكحل في عينيكِ، وخفّفي عنكِ هذا الجمال القشيب، وحافظي على تينكِ وزيتونكِ ولوزكِ وعصفوركِ.. إبقي في بالنا طفولة دائمة فطريّة وحداءً رقيقاً، لنتنفّس عبق الزهر وعطر التراب الطاهر. صوني وفاءكِ.

شكراً لكِ

للجنوب

للوطن

للمقاومة...

تعليقات: