من سقوط الطائرة قبل شهر إلى انتشال الجثث... أين الحقيقة؟


السفن خلال عمليات المسح والبحث عن الحطام. من الارشيف) الصندوق الاسود للطائرة المنكوبة.

فجر الخامس والعشرين من كانون الثاني الفائت كان الخبر: فقدان الاتصال بطائرة اثيوبية تنقل 90 راكباً بينهم 54 لبنانياً، كانت متوجهة من بيروت الى العاصمة الاثيوبية اديس ابابا في الرحلة 409، والمعلومات تؤكد سقوطها في البحر، والأمل ضئيل في العثور على ناجين. فلف السواد لبنان من جنوبه الى شماله مروراً بجبله وبقاعه وساحله. والى ان يطلع رئيس الحكومة سعد الحريري أهالي ضحايا الطائرة على التقرير الاولي لنتائج تحليل المعلومات المستخدمة من الصندوق الاسود في الثاني من آذار المقبل يبقى الترقب سيد الموقف.

للوهلة الأولى، لم يكن الاعتقاد ان هذه الكارثة تتخطى بتداعياتها الامكانات المتاحة لدى الحكومة اللبنانية، وسط ارتباك وبلبلة وجملة فرضيات عمّقت الجرح المفتوح للحكومة والاهالي في آن واحد. مرّت الايام ثم الاسابيع ثقيلة دون ان تميز بين لبناني واثيوبي وفرنسي وعراقي وسوري ممن كانوا على متن رحلة الموت، وطال الانتظار لاقفال ملف الكارثة.

حكاية الطائرة المنكوبة في هذا التحقيق.

لم تحلّ ثمار التقدم العلمي والتكنولوجي في القرن الحادي والعشرين دون تجنب الكوارث في عالم الطيران، ويكاد لا يمضي عام دون ان نشهد سقوط طائرة ومقتل ركابها أو عدد منهم. ولكن ماذا عن محطات الرحلة الأخيرة للطائرة الأثيوبية".

الأسبوع الأول: 14 جثة... وارتباك

بدأ الأسبوع الأول على سقوط الطائرة بزخم لإنتشال الضحايا ومحاولة تحديد مكان سقوطها، إلا ان الطقس العاصف حال دون مباشرة أعمال الغطس رغم أن أمواج البحر ساعدت في العثور على 14 جثة لضحايا الطائرة تبين لاحقاً ان غالبيتها لركاب مقصورة رجال الأعمال (الدرجة الأولى) في الطائرة، وهو ما أشارت اليه "النهار" قبل تحديد جميع هوياتها (السبت 30 كانون الثاني). ولم يحمل الأسبوع الأول اي تقدم لافت في أعمال البحث ومحاولة تحديد مكان حطام الطائرة، وشهد ارتباكاً واضحاً في تحديد الموقع رغم تقسيم منطقة البحث في عرض البحر الى أربع بقع تولّت البارجة الأميركية "س س رامرج" والسفينة "أوشن أليرت" وسفينة LABOU التابعة لـ"اليونيفيل" أعمال المسح في المنطقة المواجهة للشاطئ الممتد من الجية والسعديات وصولاً الى بيروت.

لم تتوصل أعمال المسح والتقاط ذبذبات الصندوقين الأسودين التابعين للطائرة المنكوبة الى نتيجة ايجابية، ودخلت في متاهة الأبعاد، فتارة يشتبه في الموقع المفترض لحطام الطائرة على بعد ثمانية كيلومترات من الشاطئ، وأخرى على بعد 14 كيلومتراً لتعود الى 10 كيلومترات.

وراوحت هذه المناطق من الناعمة الى المنارة مروراً بخلدة، والمفارقة ان البوارج والسفن كانت تفيد عن التقاط ذبذبات صادرة عن الصندوق الأسود في كل مرّة يعلن تحديد الموقع.

وكانت هذه الفرضيات تعزّزها البيانات الصادرة عن مديرية التوجيه في الجيش وسلاح الجو اللبناني، وشركة الطيران الأثيوبية، والمكتب الإعلامي لرئيس الحكومة سعد الحريري.

واقفل الأسبوع الأول على المراوحة دون تحقيق اي تقدم في عمليات البحث او انتشال الضحايا باستثناء اليوم الأول.

وتخلّل الأيام السبعة قذف الأمواج لبعض حطام الطائرة الى الشاطئ، إضافة الى التعرف الى جثث الضحايا بعد ظهور نتائج فحوص الحمض الريبي النووي.

الأسبوع الثاني: الموقع الصحيح وانتشال جثة

وضعت نهاية الأسبوع الثاني حداً للارتباك في تحديد موقع حطام الطائرة وأثمرت عمليات المسح والتصوير تحديد الموقع على بعد ثلاثة كيلومترات وعمق 45 متراً قبالة شاطئ الناعمة، وهو الموقع الذي اشار اليه بعض الشهود والمعطيات التقنية لرادارات برج المراقبة في المطار، وتحدثت عنه بعض وسائل الإعلام المرئية بعد ساعات من انتشال جثة الضحية الغطاس البر جرجي عسال في اليوم التاسع على الكارثة. أما التطور اللافت في عمليات البحث فكان انتشال الصندوق الأسود للطائرة المنكوبة وهو يحوي المعلومات المرمزة عن حالة الطائرة واجهزتها حتى لحظة تحطمها، واستخرج من هذا الصندوق أكثر من ألف معلومة عن اجهزة الطائرة وسرعتها وارتفاعها اضافة الى سرعة دوران محركيها وكمية الوقود وغيرها من المعطيات التقنية التي غالباً ما يفضي تحليلها الى معرفة سقوط الطائرة.

وفي موازاة هذا التقدم تسارعت عمليات الغطس التي نفذها فوج مغاوير البحر في الجيش اللبناني وانتشال المزيد من الجثث غير المكتملة للضحايا والإعلان تباعاً عن التعرف الى أصحابها، وكذلك استمرت مجالس العزاء والقداديس في معظم المناطق اللبنانية اضافة الى تشييع عدد من الضحايا في الجنوب والشمال.

الى ذلك تم استكمال فحوص الحمض الريبي النووي لأقرباء الضحايا بمن فيهم الأثيوبيون، والتعرف الى جثث عدد من افراد طاقم الطائرة.

ويذكر ان الصندوق الأسود ارسل على وجه السرعة في طائرة خاصة لرئيس الحكومة سعد الحريري الى فرنسا لتحليل معلوماته.

الأسبوع الثالث: تصعيد الأهالي

بعد الإنتظار والترقب قرع اهالي الضحايا جرس الإنذار على مسامع المسؤولين وبدأوا برسم علامات الإستفهام وطرقوا باب وزير الأشغال العامة والنقل غازي العريضي الذي ابدى التفهم الكامل لمطالبهم، ومنها السماح للغواصين المدنيين والدفاع المدني المشاركة في عمليات البحث وانتشال الجثث، عدا عن تساؤلاتهم حول الإرتباك والغموض لأسبوعين كاملين قبل تحديد موقع حطام الطائرة. الا ان التطور الأبرز جاء في اعلان وزير الصحة العامة محمد جواد خليفة عن "ان الطائرة إنفجرت في الجو بما فيها من اسلاك وبشر وتطايرت الى البحر".

ورغم ان خليفة اوضح كلامه لاحقاً وفحواه ان الحديث عن الإنفجار لا يعني وجود قنبلة او اصابة الطائرة بقذيفة، انما اراد توضيح الصورة للأهالي عن حال الجثث في البحر والحاجة الى فتاوى دينية في هذا الشأن، اضافة الى ضرورة مصارحة المسؤولين اهالي الضحايا بالحقيقة. وفي موازاة هذا التطور اللافت تصاعدت وتيرة الحديث عن عدم السماح لوحدة الانقاذ البحري المشاركة في اعمال الغطس، وهو ما دأب على المطالبة به نقيب الغواصين، محمد السارجي معتبرا ان الحادثة كان يفترض ان توحد عمليات الانقاذ البحري بين مغاوير البحر والدفاع المدني ونقابة الغواصين علماً انه تم توضيح هذا الامر "لان مغاوير البحر في الجيش قادرون على انجاز المهمات الموكلة اليهم"، الا ان ذلك رسم عند أهالي الضحايا علامات استفهام ولا يزال احد مطالبهم السماح للغواصين المدنيين بالمشاركة في اعمال البحث واستكمالها اذا ما قررت قيادة الجيش وقفها.

وكذلك حمل اليوم السابع عشر مزيداً من اجواء البلبلة والإضطراب وتسريب معلومات عن اسباب تحطم الطائرة، ومنها ان خطأ ارتكبه قائد الطائرة. وردت الشركة الأثيوبية بتأكيدها عدم استبعاد فرضية العمل التخريبي، الأمر الذي واظبت الحكومة اللبنانية على نفيه واستبعاده بشكل قاطع استناداً الى التقارير المجمعة من المطار والخبراء والجيش ولجنة التحقيق وأكدت في موازاة ذلك عدم تسلمها اي تقرير رسمي عن محتوى الصندوق الأول، وحرصها على متابعة اعمال البحث حتى انتشال كل الجثث وذاكرة الصندوق الأسود الثاني الذي عثر على قاعدته.

الأسبوع الرابع: الخطأ البشري

لم يضف الاسبوع الرابع جديداً على مجريات البحث التي اضحت روتينية بنتائجها حيث انتشال المجموعات للجثث غير المكتملة بسبب عوامل عدة منها التحلل في المياه المالحة وشدة ارتطام الطائرة بسطح البحر (عدا عن فرضيات الانفجار ان بسبب وقود الطائرة او غيره)، لكن مغاوير البحر في الجيش استطاعوا العثور على ذاكرة التسجيلات الصوتية للصندوق الاسود الآخر التابع للطائرة وارسالها الى مكتب التحقيق الفرنسي في باريس في طائرة خاصة للرئيس الحريري.

اما على ضفة الإنتظار والترقب لذوي الضحايا فراوحت الشكوك مكانها، وشكل هؤلاء لجنة لمتابعة امورهم وقصدوا وزير الصحة طالبين احالة قضية الطائرة الى المجلس العدلي ومكررين طلبهم السابق والذي يكمن في السماح للغطاسين من الدفاع المدني والأندية الخاصة بالمشاركة في عمليات البحث.

اما على صعيد لجنة التحقيق الخاصة بالطائرة فان نظرية الخطأ البشري عادت بقوة بعد تسريبات اعلامية من باريس مفادها ان الطيار ارتكب خطأ ادى الى فقدانه السيطرة على الطائرة وبالتالي سقوطها وتحطمها في البحر، رغم ان مكتب التحقيق الفرنسي لم يؤكد هذه المعلومات وكذلك لم تكن الحكومة اللبنانية قد تسلمت التقرير الأولي بعد تحليل معلومات الصندوقين.

وشهد الأسبوع الرابع توافد القانونيين من المكاتب القانونية الأميركية والبريطانية الى بيروت للحصول على التوكيلات اللازمة من اهالي الضحايا والشروع في تقديم الدعاوى والحصول على التعويضات. اضافة الى الجدل بين القانونيين حول وصف الحالة القانونية للضحايا الذين لم يعثر على جثثهم المكتملة وما اذا كانت احكام القانون 434 للعام 1995 هي الصالحة ام تطبق عليهم احكام اخرى.

الأسبوع الخامس: جثث الضحايا الـ 90

بعد التسريبات الإعلامية عن محتوى التقرير الأولي للصندوقين الأسودين وتكريس نظرية الخطأ البشري، اعادت الشركة الأثيوبية المالكة للطائرة المنكوبة التذكير بفرضية العمل التخريبي ورفض تحميل قائد الطائرة المسؤولية مرتكزة على عدم صدور اي تقرير رسمي عن مكتب التحقيق الفرنسي. وخلال الأسبوع الخامس حددت رئاسة الحكومة الثاني من آذار المقبل موعدا للقاء الرئيس الحريري اهالي الضحايا وللاستماع الى مطالبهم وهواجسهم واطلاعهم على المعطيات المتوافرة عن التحقيق والخطوات اللاحقة. وخلال هذا الاسبوع تم التعرف الى جثث الضحايا الـ 90 على ان تعلن ادارة المستشفى الحكومي رسميا عن الامر.

ويذكر ان الحكومة ستعلن لاحقا تحديد يوم وطني لاحياء ذكرى ضحايا الكارثة.

***

ولا بد من التذكير بالجهود الجبارة التي بذلت خلال هذه الفترة رغم الارتباك في الايام الاولى وكذلك النشاط اللافت لفوج مغاوير البحر في الجيش والفريق الطبي والاداري في مستشفى رفيق الحريري الحكومي والادلة الجنائية.

علما ان الاخيرة انجزت التعرف الى الضحايا كافة رغم الظروف الصعبة وحالة الجثث المتحللة. وقد ارجأ مجلس الوزراء امس البت في طلب المكافأة لبعض موظفي برج المراقبة في المطار على ان "يعد الوزراء المختصون اقتراحاً تفصيليا لمكافأة كل الذين قاموا بعمل كبير خلال هذه الفترة العصيبة".

• يسلم جثمان الضحية انطوان توفيق الحايك صباح بعد غد السبت الى ذويه، ليدفن الثالثة بعد الظهر في مسقطه مغدوشة.

كذلك تسلم في اليوم نفسه جثامين 27 ضحية اثيوبية لنقلها الى اديس أبابا.

عباس الصباغ

تعليقات: