غسان كنفاني لماذا لم ندقَّ (حتى الآن) جدران الخزّان؟


غادر عكا طفلاً مع النكبة، وعاش بين دمشق والكويت وبيروت حيث اسشتهد قبل اندلاع الحرب الأهليّة. خلال عمره المقتضب، حارب على جبهات كثيرة، وترك إنتاجاً غزيراً، وأسس للرواية الفلسطينية الحديثة. من هو حقاً هذا الأديب والفنان والصحافي والمناضل الفلسطيني الشهير الذي قتلته إسرائيل في وضح

النهار، قبل... ٣٥ عاماً؟

صيف بيروت لم يتغيّر منذ ذلك الوقت. حرارة تموز نفسها. وفي مواجهة التلّة الصغيرة في الحازميّة، يمتد البحر كسولاً كعادته. كانت بيروت مسرح روايات الـ SAS البوليسية، ودرّة الشرق، عاصمة الحداثة والبيكيني والميني جوب والجيرك وعمر خورشيد و«ملاهي» الزيتونة، وجواسيس السان جورج. مختبر الأفكار، وموئل الخوارج. «نعيم» الازدهار الاقتصادي، وبؤرة الغليان السياسي ومعارك الحريّة.

غسان كنفاني جاءها أول الستينات. الصحافي اللامع الذي شغل الناس بتعليقات «أبو العزّ»، وانتهر ذات يوم عبد الكريم قاسم، أول أيام ثورة الـ ٥٨ في العراق... أقنعه جورج حبش بالانتقال إلى بيروت، فاعتمر الكوفيّة والعقال، ودخل أرض «العسل والبخور» بجواز سفر عماني يحمل اسم هاشم فايز. هنا شهد تكريس مشروعه الأدبي، وانخرط في العمل الصحافي والسياسي... حصل على الجنسيّة اللبنانية، وأسس عائلته مع آني الصبية الدنماركيّة التي قصدت ذات يوم بيروت للتعرف عن كثب إلى القضيّة الفلسطينية، فتزوّجت من تلك القضية. بيروت أواخر الستينات حالة خاصة. كان في الوقت متسع للحلم والحب، والتجريب والنضال. من تلك السنوات بقي لنا الرسائل النارية التي تبادلها غسان كنفاني مع غادة السمّان، حورية الأوساط الثقافية آنذاك. رئيس القسم الثقافي في مجلّة «الحريّة»، صار رئيس تحرير جريدة «المحرر». ذات يوم من العام ١٩٦٧، قرأ مسرحيّة «العصفور الأحدب»، فهلل احتفالاً بالنص: «كلمات الماغوط مسلّحة بالمخالب (...) قادرة على تحقيق إيقاع عذب ومفاجئ». وفي «عين الحلوة» اكتشف فناناً فذاً ينشر رسومه على جدران المخيّم. فدعاه إلى العمل معه. وصار الشاب الموهوب ناجي العلي، أحد أشهر فناني الكاريكاتور العرب في النصف الثاني من القرن العشرين.

صيف بيروت صباح الثامن من يوليو ١٩٧٢، يشبه صيفها هذا الصباح. لكن كل شيء تغيّر. الثورات والحروب والهزائم مرت من هنا، والموت نفسه ما زال يحوم في الجوار. صعد كنفاني إلى سيارته، قربه جلست لميس ابنة أخته فايزة رفيقة السنوات الصعبة. أدار المحرّك، فانفجرت السيارة بهما. عدنان الأخ الأكبر سجّل في كتابه «غسان كنفاني: صفحات كانت مطوية»: «إنها الابتسامة نفسها التي تعوّد أن يرسمها في مناسبات مهمة ومفصلية، رأيتها واضحة على أطراف شفتيه وعينيه المسدلتين على صورة حلم ساخر». لقد قتل «الموساد» غسان كنفاني. دولة تقتل كاتباً. اليوم يبدو السيناريو عادياً للأسف. بعد أيام من الجريمة وجهت آني كنفاني رسالة مفتوحة إلى رئيس الوزراء صائب سلام: «هاملت ابن بلادي، كان يردد: ثمة رائحة عطنة في مملكة الدنمارك. أما أنا فأخشى أن تكون الرائحة العطنة انتقلت إلى هنا...».

هجّر كنفاني طفلاً يوم من مدينته عكا الخائفة «من هدير البحر». عايش النكبة وما تلاها. ولم يبق له سوى أن يشهد. كل أدبه من مسرح وقصّة ورواية، ومقالات ودراسات، وكل فنّه أيضاً، حلقات في مشروع واحد: محاولة لسرد الكارثة، ودعوة إلى التمرّد. اليوم، قد تبدو الكلمات باهتة، مستهلكة، لشد ما عبث بها الزمن. لكنها لم تكن كذلك يوم كتب غسان كنفاني، «رجال في الشمس» (1963) التي «طبعت بطابعها الأدب الفلسطيني ما قبل الرصاصة الأولى»، بتعبير الشاعر أحمد دحبور. ثلاثة فلسطينين عند شط العرب، يحاولون التسلل إلى الكويت. عجوز وشاب وطفل، سيموتون في خزان الصهريج الفارغ... سيقتلهم القيظ عند نقطة المرور. فيرمي أبو خيزران جثثهم بعد أن ينظفها من الفلوس. ويتساءل: «لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟»! «دق جدران الخزان» صار مصطلحاً شائعاً. إنه دعوة إلى الصراخ، وإلى قلب الأمور. بعدها كتب كنفاني «ما تبقّى لكم» (١٩٦٦) التي تبشّر بـ«العمل الفدائي»!

في كل كتاباته وإبداعاته، من مجموعة «أرض البرتقال الحزين» (١٩٦٣) إلى رواية «أم سعد» (١٩٦٩)، وظف كنفاني تجربته المعيشة، مشاهدات ذلك الولد «المتأمل الهادئ»، كما وصفه أبوه المحامي الذي كان من ثوار الساعة الأولى. تلميذ الفرير في يافا ذاق التشرد والأيام الصعبة. باع أكياس الورق في أسواق الشام، عمل «عرضحالجياً» يحرر الاستدعاءات على آلة كاتبة مستأجرة عند أبواب المحكمة في دمشق... صحّح البروفات في أقبية المطابع... قبل أن يعلّم الرسم في مدارس اللاجئين في دمشق ملتحقاً بجامعتها لدراسة الأدب العربي. في ٦ آذار (مارس) ١٩٥٥ كتب والده في مذكراته: «تأكدت اليوم أن غسان منتسب إلى حركة القوميين العرب، ويعمل في جريدة «الرأي» الناطقة باسمهم». كان من رموز «الجبهة الشعبية»، وفي الوقت نفسه صمم العديد من ملصقاتها التي يعتبرها الدارسون محطة أساسية في التاريخ «الغرافيكي» العربي. هل ننسى أن كنفاني فنان تشكيلي أيضاً؟ لقد ترك مجموعة زيتيات تعود إلى مرحلته الكويتية (١٩٥٦ـــــ ١٩٦٠)، قبل أن ينصرف نهائياً إلى الكتابة والصحافة والسياسة... ولعل كنفاني أول من عرّف الجمهور العربي الواسع بشعراء مثل محمود درويش توفيق زياد وسميح القاسم، في دراسته «أدب المقاومة في فلسطين المحتلة».

«عائد إلى حيفا» (١٩٧٠) آخر الروايات التي صدرت في حياته، تعود إلى تلك اللحظة الحاسمة في وعي جيله. يروي كنفاني قصة لاجئ الذي يعود إلى حيفا برفقة زوجته، بعد سقوط الضفة والقطاع، بحثاً عن ابنهما الرضيع الذي تركته أمّه لحظة الهروب في الـ 48... لكن الولد كبر في «بلاد أخرى»، وصار جندياً اسرائيلياً! يلتقي نص كنفاني بالإسرائيلي، كما يلاحظ الناقد فيصل درّاج، يعطيه شكلاً وملامح لغة. يحرره من الأسطورة والصورة الغيبية. لكن الكتاب يخفي أيضاً حنيناً سرياً إلى غسان الطفل الذي بقي هناك في بيت جدّه، قرب المستشفى الوطني في عكّا.

رحل الشاهد النموذجي، والحلم في أوجه. مات ذات يوم صيفيّ في بيروت، في عزّ الفورة الثقافية والأدبية والسياسية للمدينة. كان «رائداً» حتى في طريقة اغتياله. بعد استشهاد غسان كنفاني صار بوسع الحرب اللبنانية أن تبدأ، فاتحة مذابح جديدة... نذيرة النكبات والانهيارات اللاحقة.

مسيرة غسان كنفاني في الصحافة، تكاد توازي حضوره الإبداعي وتفوقه غزارة. لفت الأنظار في الكويت بتعليق كان يوقّعه «أبو العز»، وكان نشر مقالاته الأولى في «الرأي» في دمشق. كتب في الأدب والنقد، لكن مقالاته السياسية هي التي أثارت الاهتمام الأكبر. وفي 1960، في بيروت بدأ مسؤولاً للقسم الثقافي في مجلة «الحرية» القريبة من «حركة القوميين العرب». ترأس تحرير جريدة «المحرر»، وأشرف على الملحق الأسبوعي الذي كانت تصدره باسم «فلسطين». ترأس تحرير «الأنوار» بعد النكسة، وحتى عام 1969 تاريخ اشتراكه في تأسيس مجلة «الهدف» لسان حال «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، وكان صاحبها ورئيس تحريرها حتى اغتياله.

سيرتة

كان غسّان كنفاني مثقفاً عضوياً حسب التحديد الغرامشي. روائي وقاص وصحافي ومسرحي وتشكيلي، ومناضل سخّر حياته لقضيته. ولد في عكا في فلسطين عام 1936. وإثر نكبة 1948 غادر إلى جنوب لبنان فدمشق حيث حاز الإعدادية والتحق بسلك التعليم في وكالة الغوث. هاجر إلى الكويت حيث عمل مدرّساً للرياضة والفنون الجميلة وكتب أولى قصصه القصيرة «القميص المسروق» التي نال عليها جائزة محلية في وقت ظهرت عليه بوادر مرض السكري. في عام 1960 انتقل إلى بيروت ليعمل في مجلة «الحرية». تزوّج عام 1961 ورزق بفايز وليلى.

ترجمت أعماله إلى 17 لغة، وأبرزها في الرواية: «رجال في الشمس» (1963)، «ما تبقى لكم» (1966)، «أم سعد» (1969)، «عائد إلى حيفا» (1970). وفي القصّة والمسرح: «موت سرير رقم 12» (1961)، «أرض البرتقال الحزين» (1963)، «عن الرجال والبنادق» (1968)، «عالم ليس لنا» (1970) «القبّعة والنبي» (1973). وترك العديد من المقالات السياسية والنقدية «الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال» (1968)، «في الأدب الصهيوني» (1967)... اغتاله الموساد في 8 تموز (يوليو) 1972 بتفجير سيارته في منطقة الحازمية.

تعليقات: