بيت أمن الدولة من كريستال


التعيينات الأمنية على نار حامية. رغم ذلك، فإن المديرية العامة لأمن الدولة ليست محط أنظار الأطراف السياسية مباشرة. وقد يكون ذلك سبب بقائها في الظل، وأن تصرف أموالها على الكماليات، فيما قطاع الأمن في لبنان بحاجة إلى كل ليرة في مكانها الصحيح

يسعى المدير العام بالوكالة لأمن الدولة، العميد إلياس كعيكاتي، إلى الحصول على ترقية تسمح له بالبقاء في منصبه مدة عام إضافي. فهو سيحال على التقاعد قبل نهاية الشهر الجاري. لكن مسعاه يصطدم بواقع صعب يعيشه الجهاز الذي يديره. فمنذ وصول كعيكاتي إلى المديرية التي يتراجع دورها الأمني، تسجّل مخالفات عدة. وهذه المخالفات تطوّع عدد من الضباط الكبار في المديرية لتوثيقها في تقرير قدموه إلى المسؤولين الرسميين المعنيين، وقد أرفقوه بعدد من الوثائق التي تثبت كلامهم.

يبدأ التقرير الذي حصلت «الأخبار» على نسخة منه، من النفقات السرية. فهذه النفقات، البالغة 57 مليون ليرة شهرياً، هدفها الأصلي تمويل شبكات المخبرين التابعين للمديرية. لكن الاطلاع على كيفية صرف هذه النفقات يظهر أشكالاً في المسار الذي تسلكه. فبحسب أمنيين يخدمون في الجهاز، يسلّم المدير العام كل رئيس مديرية إقليمية (5 مديريات تتوزع على المحافظات) مبلغ مليوني ليرة شهرياً في حد أقصى. إضافة إلى ذلك، يسلم ما مجموعه نحو 7 ملايين ليرة لبنانية شهرياً لعدد من العاملين في الشعب والمديريات المركزية الأخرى. عملية حسابية بسيطة تؤدي إلى النتيجة الآتية: يُبقي المدير في تصرفه 40 مليون ليرة لبنانية شهرياً. عملية حسابية إضافية تظهر أن المبلغ الذي وضعه كعيكاتي بتصرفه منذ وصوله إلى المديرية في عام 2005 (53 شهراً) يزيد على مليارين ومئة مليون ليرة لبنانية. ويحدد التقرير الوجهة النهائية لكل ما يبقى في عهدة المدير العام، إلا أن «الأخبار» تتحفظ على ذكره لعدم وجود وثائق دامغة. علماً بأن ثمة حاجة لوضع أصول لضمان الشفافية بما يتصل بالنفقات السرية للأجهزة الأمنية كلها.

بعد النفقات السرية، ينتقل تقرير ضباط أمن الدولة إلى قسائم المحروقات. فإضافة إلى تخصيص نفسه وأسرته بعشر سيارات من المديرية، يتصرف المدير العام شهرياً بنحو 650 قسيمة محروقات (20 ليتراً للواحدة)، من دون معرفة مصيرها النهائي (أكثر من 19 مليون ليرة شهرياً). بعد المحروقات، يأتي دور المساعدات المرضية. يقدم المدير العام، على نحو شبه شهري، مساعدة مرضية خاصة تراوح بين 4 ملايين ليرة لبنانية و6 ملايين. أما والده، فخصص له مساعدة شهرية بقيمة 500 دولار أميركي من حساب المديرية، ابتداءً من بداية عام 2008 (بموجب القرار الصادر عن لجنة التحقيق الصحي للضباط في المديرية يوم 27/2/2008، الذي يحمل الرقم 14/511 وقد ألغي هذا القرار في الأشهر الماضية).

عدد كبير من الفواتير أرفقه ضباط أمن الدولة بتقريرهم. وأول ما تظهره هذه الفواتير التي تسدد قيمتها المديرية العامة من أموال اللبنانيين هو الرغبة بشراء الكريستال. ويُكتَب على هذه الفواتير أن قيمتها هي «ثمن هدايا لزوم المديرية»، تسددها نقداً (من حساب لا صلة له بحساب المصاريف السرية).

الهدايا كثيرة. تبدأ من BOMBONIERE ومنفضة سجائر (سعر الواحدة منها 375 ألف ليرة)، لتصل إلى «طقم كريستال» ثمنه مليونان وسبعمئة ألف ليرة لبنانية، مروراً بفاز كريستال (550 ألف ليرة). وعندما يُمَلّ من الكريستال، يُنتقل إلى تماثيل البرونز. وللأمانة، فإن المؤسسات التي تشتري المديرية منها هذه «الهدايا»، تمنحها حسماً على الثمن يصل إلى نحو 25 في المئة في بعض الأحيان. واللافت في عدد كبير من هذه الفواتير أنها غير مؤرخة، وأن قيمة كل منها تقل عن 3 ملايين ليرة لبنانية. ويلحظ أن الفواتير التي تقل عن هذه القيمة لا تخضع لرقابة مالية مسبقة.

هذا بالنسبة إلى الفواتير غير المؤرخة. أما الفواتير المؤرخة، فتظهر بدورها سخاء المدير العام، من مال الدولة طبعاً. والمديرية التي تثير الشفقة بسبب محدودية إنتاجها الأمني، لا يبخل المدير على كمالياتها.

لنأخذ مثلاً ثلاثة أيام من شهر أيلول 2009. يوم 15/9/2009، اشترت المديرية من إحدى المؤسسات التجارية لوحتين («تابلو رسم» بحسب الفاتورة التي تحمل الرقم 2089) ثمنهما مليون ومئتان وخمسة وأربعون ألف ليرة. في اليوم التالي، اشترت المديرية مصباحين كهربائيين يستخدمان على المكتب (Lampadaire) وصل سعرهما إلى 1.210.000 ليرة لبنانية، بحسب الفاتورة التي تحمل الرقم 2092 (من المؤسسة ذاتها). وفي اليوم الذي تلاه، اشترت المديرية مصباحين (لمبدير هالوجين، بحسب الفاتورة التي تحمل الرقم 2095)، سعرهما 1.155.000.

وبعد 3 أشهر، اشترت المديرية «فاز كريستال عدد 2» بما يزيد على مليون ومئتي ألف ليرة، بموجب الفاتورة الرقم 2189 (صادرة عن المؤسسة التجارية ذاتها يوم 5/12/2009).

بعد يومين، اشترت المديرية لوحتين، بموجب الفاتورة التي تحمل الرقم 2191 والتي تبلغ قيمتها 1.760.000 ليرة. وفي اليوم التالي، اشترت المديرية من المؤسسة ذاتها 4 منافض كريستال، بموجب فاتورة تحمل الرقم 2194. ويوم 10/12/2009، اشترت المديرية فاز (عدد 2) بثمن يفوق مبلغ 1000 دولار أميركي (من مؤسسة أخرى بموجب فاتورة تحمل الرقم 1). وأمثلة الهدايا والمشتريات «الغريبة» كثيرة. فقد تجد بين الفواتير واحدة بدل تسديد ثمن كتب للأطفال أو كتاب عن الأطباق الشهية، وأخرى ثمن زجاجات عطر نسائية. والصرف على الكماليات لا يقتصر على شراء ما لا تحتاج إليه المديرية، أو ما يقدمه المدير العام من «هدايا»، بل يتعداه إلى المآدب التي يقيمها. وهذه وتيرتها مرتفعة، تحت بند «غداء عمل»، أو «عشاء عمل».

وتظهر الفواتير (تلك التي تمكنت «الأخبار» من الاطلاع عليها فحسب) أن معدل المآدب التي يقيمها المدير العام يبلغ اثنين أسبوعياً على الأقل. على سبيل المثال، في أول أسبوعين من شهر شباط الماضي، سددت المديرية بدل غداء عمل 4 مرات، كان آخرها سداد قيمة فاتورة صادرة عن أحد مطاعم منطقة فقرا، بدل مأدبة أقيمت يوم عيد العشاق، تزيد قيمتها على 900 ألف ليرة. وفي بعض الأحيان، تجد فاتورتين صادرتين عن مطعمين في اليوم ذاته، وجزء كبير من هذه الفواتير تزيد قيمة الواحدة منه على مليون ليرة لبنانية.

كل ما ذكر هو أمثلة على ما يرد في التقرير الذي نظمه ضباط من المديرية العامة لأمن الدولة، والذي يتضمن تفاصيل مخالفات إدارية وقانونية في عمل المديرية طوال السنوات الأربع الماضية، سواء أكان في الترقيات أم في منح قدم الترقية أو التشكيلات أو في احترام التراتبية الإدارية أو في إرسال الضباط إلى الخارج لإجراء دورات تدريبية.

تعليقات: